د. حكمت مصلح*

في لبنان، تتشكل الحكومة من خلال إستشارات نيابية يقوم بها رئيس الدولة. من هنا، نود أن نعرض تعريفاً لها، فهي “إجراء يقوم به رئيس الجمهورية بناء على صلاحيات خوله إياها الدستور بإرادته المنفرد، عند التكليف، ومشتركاً مع الرئيس المكلف، عند التأليف، وتتصف بأنها ملزمة له، أي لرئيس الجمهورية في الإجراءات والنتائج.”

ثغرات دستورية

تبدأ هذه الإستشارات بعد إستقالة الحكومة، أو إعتبارها مستقيلة، حيث يدعو رئيس الجمهورية لها، وقد حددت المادة 69 من الدستور هذه الحالات وهي إستقالة رئيسها، أو فقدان أكثر من ثلث أعضائها، أو وفاة رئيسها، أو عند بدء ولاية رئيس الجمهورية، أو عند بدء ولاية مجلس نواب جديد، أو فقدانها للثقة الممنوجة لها من قِبل البرلمان.

فإذا ما توافرت إحدى هذه الحالات، يكون على رئيس الجمهورية البدء بإستشارات نيابية لتكليف شخصية معينة تتولى تأليف الحكومة. ولكن هذه المادة قد سكتت عن ذكر تأليف الحكومة؛ لذلك، نصت المادة 53 من الدستور “يسمى رئيس الجمهورية المكلف بعد استشارات نيابية ملزمة بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسمياً على نتائجها”.

في هذه المادة الدستورية تم تحديد كيفية البدء بعملية التأليف، غير أنها لم تحدد مدة لرئيس الجمهورية كي يبدأ بإستشارات التكليف، وبذلك يكون بإمكان الأخير استخدام النقص الوارد في نص تلك المادة من أجل وقف أو تأخير عملية التكليف. بالتالي، قد يؤثر ذلك على أية شخصية سياسية، سبق وأن حصلت على أغلبية برلمانية، أو أكثر من شخصية تضع نُصب عينها على مقعد رئاسة السلطة التنفيذية. وما يحدث في لبنان اليوم، على الصعيد السياسي، يمثل شرحاً واقعياً لما أشرنا إليه من نقص تشريعي.

فعلى الرغم من هذا المشهد، لا زال رئيس الجمهورية، ميشيل عون، يصر على عدم البدء بالإستشارات النيابية “لغاية في نفس يعقوب”. ونكرر هنا بأنه لا يوجد في النص الدستوري مدة تلزمه بإطلاق عملية الإستشارات إلا من خلال مقتضيات المصلحة العليا للبلاد، مع ضرورة تذكير الرئيس بأنه الوحيد في الدولة من يقسم على الدستور، بحسب المادة 50، وتذكيره أيضاً، بالمادة 49، بأنه يمثل ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور والمحافظة على البلد ووحدته وسلامة أراضيه.

من خلال نص هاتين المادتين، نستطيع القول بأن على الرئيس عون ضرورة الإسراع في إطلاق عملية التكليف لأن المصلحة العليا للبلاد، وكونه المؤتمن على الدستور، تقتضي ذلك خصوصاً وأننا على يقين بأنه حريص أشد الحرص على تطبيق أحكام القانون. بالتالي، وكما الإستشارات تعد ملزمة للرئيس في الإجراء والنتائج، فهو ملزم أيضاً بالمبادرة لإطلاقها.

محاولات فقهية

من الجدير التذكير هنا بالعديد من المحاولات الفقهية لإنشاء أعراف دستورية لسد الثغرات في مرحلتي التكليف والتأليف، إذ نجح البعض في إنشاء خطوات أولية، على غرار ما حدث في “مؤتمر الدوحة” 2008. حينها، كان المرشح لتولي مقاليد رئاسة الجمهورية قائد الجيش العماد ميشيل سليمان، والذي أصبح رئيساً فيما بعد؛ وبما أنه قادم من السلك العسكري ولا يمتلك كتلة نيابية، تم الإتفاق على تمثيله بحصة وزارية قوامها 3 وزراء من تشكيلة الحكومة. ومنذ العام 2008، بدأ العمل بهذا المبدأ مع حكومات الرؤساء تمام سلام، وسعد الحريري (الأولى)، ونجيب ميقاتي، ليتكرر الوضع من تشكيل الرئيس الحريري لحكومتي عهد الرئيس عون.

غير أن هذه العادة المتمثلة بتكرار عملية تأمين حصة وزارية لرئيس الجمهورية، لا سيما في عهد الرئيس عون، قد خالفت روحية السبب التي أُنشئت لأجله لكون رئيس الجمهورية يمتلك أكبر كتلة نيابية في البرلمان إضافة إلى أنه كان نائباً، ما يعني أن الرؤساء قد استساغوا فكرة حصولهم على حصة في كل حكومة، وهو أمر يجب التنبه إليه لجهة الخوف من تحويل هذه العادة إلى عرف يتم إتباعه ومن ثم يصعب التخلي عنه، وهذا ما يعد أول تطويق لنص المادة 53 من الدستور.

الآن وعلى صعيد عملية التكليف، يحاول البعض إنشاء عرف جديد يطوق، لا بل حتى ينهي، العمل بنص المادة 53 لجهة تسمية الرئيس المكلف، ويلغي مفاعيل نص المادة 64 من الدستور التي تنص على دور الرئيس المكلف في التأليف إذ تنص على أن “يجري الإستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها”؛ بالتالي، إن نص المادة يشير وبشكل واضح لا لبس فيه أن الرئيس المكلف هو من يجري إستشارات التأليف.

اليوم، ترشح معلومات عن أروقة قصر بعبدا بأن الرئيس عون يحاول تأليف الحكومة ليتم بعد ذلك عرضها على الرئيس الحريري. فإن وافق الأخير عليها تنطلق إستشارات التكليف، وإن لم يوافق سيتم عرضها على شخصية سنيَّة أخرى ترضى بها، وهو ما يعد مخالفة واضحة من قِبل رئيس البلاد للدستور الذي أناط برئيس الوزراء المكلف إعداد تشكيلته الحكومية من خلال استشارات نيابية يُطلع رئيس الجمهورية على نتائجها، فيما يقدم الأخير ما لديه من ملاحظات عليها، على أن يتشارك الرئيسان في صياغتها.

قد يجد البعض أن لا ضرر من ذلك، وإن تكرر هذا الأمر في حكومات لاحقة سيختصر الوقت لا سيما إذا ما كانت أوضاع البلاد غير مستقرة. لكن السؤال المحوري هو: ماذا لو وضع رئيس الجمهورية أسماء يعتبرها الرئيس المكلف “مستفزة” له فيعتذر عن التأليف بعد تسميته من قِبل الأغلبية النيابية؟ ألا يمكن الإعتبار أن إلزامية رئيس الجمهورية، بحسب نص المادة 53، بإجراء ونتائج عملية التكليف قد إنتهت عملياً مع إستباقها بمسألة التأليف خلافاً لنص المادة 64؟

من هنا، يمكن القول بأننا قد عدنا عملياً إلى مرحلة ما قبل التوقيع على “إتفاق الطائف”، بالنسبة للتكليف والتأليف، إذ كان النص القديم يشير إلى أن “رئيس الجمهورية يعين الوزراء ويسمي منهم رئيساً”. بذلك، يمكن للرئيس، بمجرد رفض تشكيلته الحكومية، التوجه إلى شخصية أخرى توافق عليها. فحذاري من تحول هذا الأمر إلى سابقة، والسابقة إلى عادة، والعادة إذا ما تكررت تصبح عرفاً (ولو مبطناً)، والعرف يصعب هجره فـ “المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً”.

ختاماً، نحذر من تطويق نصي المادتين 53 و64 من الدستور بالأعراف، فحدوث مثل هذا الأمر عند تشكيل الحكومة، وفي نظرنا، ليس إلا خرقاً للدستور.

*باحث قانوني – لبنان

مصدر الصور: عربي برس – وكالة نيوز.

موضوع ذو صلة“الهوتو” و”التوتسي”.. والتطلُّع إلى “الشرق الجديد”