د. أنطوان شاربنتييه

يتظاهر الفرنسيون، منذ أوائل شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2018، للتعبير عن غضبهم من سوء إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته لعدة ملفات داخلية، ومنها زيادة الضرائب، ورفع أسعار المحروقات بشكل جنوني. لكن ارتفاع أسعار المحروقات ليس إلا القشة التي قسمت ظهر البعير. لقد بدأت احتجاجات “السترات الصفراء” بطريقة شعبية وعفوية، وبعض الشيء حضارية، كي تقول للطبقة الحاكمة “كفى”.

أما حكومة ماكرون فقد ارتكبت عدة أخطاء، منها عدم إصغاءها للرأي العام ومسّها بشكل مباشر وفظ بجيوب الفرنسيين. فكل الذين يرون في الإحتجاجات الشعبية الفرنسية أنها “ثورة ملونة” عليهم الفهم أولاً أن كل ما في الأمر هو أن الحكومة تريد، بطريقة أو بأخرى، أخذ ما تبقى من مال في جيوب الفرنسيين، في حين يريد هؤلاء الكثير من الدولة. هذا هو السبب الرئيسي للمشكلة التي أخرجت الفرنسيين إلى الشارع.

لكن إذا حللنا التصرفات التي يقوم بها “السترات الصفراء” بموضوعية منذ بدء الحراك، وكيف شلوا حركة المواطنين ووضعوا الحواجز وكانوا الآمرين والناهين بمصير قسم من الشعب وحريته، نجزم أنها تصرفات ميلشياوية تعبر عن نية السيطرة على الشارع.

لقد أدت نتائج هذه التصرفات وتداخل عدد لا بأس به من المجموعات المتطرفة، أكانت من اليمين ام من اليسار وبعض المشاغبين، إلى خلق تصادم خطير بين فئات الشعب الواحد، وبداية شرخ قد يكون له تداعيات وخيمة على المستقبل الفرنسي، بينما جلس الحكام يتفرجون غير مكترثين وغير قلقين على مستقبلهم السياسي. لا بل ذهب الرئيس ماكرون بأولى أيام الإحتجاجات إلى المانيا لعقد قمة ثنائية مع المستشارة أنجيلا ميركل وكأن شيئاً لم يكن، ومن ثم ذهب إلى الأرجنتين ليحضر قمة العشرين في وقت أعلنت الحكومة الفرنسية فيه أنها ستفرض من جديد حالة الطوارئ ما يعني لجم الشارع سواء كانت التظاهرات سلمية أم تخريبية.

إلى ذلك، برهن عدد كبير من أصحاب “السترات الصفراء” عن عدم مسؤولية خلال الاحتجاجات حيث فقدت طابعها الحضاري وتحولت إلى اعتداءات على المواطنين الذين لم يشاركون فيها، ناهيك عن الإعتداءات العنصرية في بعض المناطق الفرنسية خصوصاً وأنه ليس بإستطاعة الحكومة الفرنسية فصل “السترات الصفراء” الحقيقيين عن المشاغبين أو بالأحرى لا يناسبها فعل ذلك، فهي التي راهنت على أعمال الشغب تلك وتركت المشاكل تتفاقم كي تجبر كل المتظاهرين المسالمين على الخروج من الشارع، وعدم الإحتجاج والرضوخ، ما يسهل لها فرض الأمر الواقع.

في المقابل، نلاحظ الغياب الرسمي للنقابات العمالية والأحزاب السياسية المعارضة عن أجواء الإحتجاجات والمظاهرات، فلقد برهنوا عن عدم اهتمامهم وفشلهم بالوقوف إلى جانب الشعب. بيد أن بعض الأحزاب المعارضة أرسلوا بمناصريهم إلى الشارع من أجل تصفية الحسابات مع الرئيس ماكرون، خارجين بذلك عن جميع قواعد وأطر اللعبة السياسية الديموقراطية، معتقدين بأن إحلال الفوضى سيجبره على تقديم استقالته.

لكن الإعلام الرسمي سلط الضوء على أعمال الشغب لكي يشوه صورة الحراك الشعبي المبني على مطالب محقة ونزيهة خصوصاً مع عدم وجود أية مبادرة جدية، لا من قبل المعارضة ولا من قبل النقابات، للأخذ بزمام الأمور ومحاولة تنظيم مظاهرات “السترات الصفراء” للخروج بنتيجة إيجابية لصالح الشعب. لقد ظهروا بسكوتهم هذا وكأنهم مواتطئين مع الطبقة الحالية الحاكمة.

سقوط الأقنعة

ما يحصل فرنسا يتسبب بزيادة الشرخ ما بين الشعب والطبقة السياسية من خلال عدم الفهم المتبادل. فالقيادة السياسية الفرنسية حالياً لا تحسن فهم وتفسير ما يحصل في الشارع، بينما لا يفهم المحتجون، بالوقت عينه، تصرفات سلطتهم السياسية التي لا تخدم إلا مصالح الأغنياء.

لا شك بأن وجود بعض المشاغبين، وتصادهم مع قوى الأمن، أخرج من الشارع كل المحتجين الحقيقيين الذين كانوا يتظاهرون بشكل حضاري وسلمي، فقلد أخذت قلة قليلة منهم الشعب الفرنسي رهينة عنفه، وثورته غير الجدية التي لا تقوم على أية رؤية أو مشروع واضح يخدم المصلحة العامة. لذلك، يجب على أصحاب هذا النوع من الثورات في فرنسا التأمل جيداً بما آلت إليه ثورات “الربيع العربي” وأخذ العبر منها.

إن ما يحصل في فرنسا يذكرنا بـ “الربيع العربي” من ناحية الشكل، هناك شعب ثائر على حكامه، وعلى نظامه السياسي، لكن هناك فرق كبير في الجوهر والمضمون خصوصاً أن الشعب الفرنسي لا يعيش نفس حالة السوء السياسية الإجتماعية، وخاصة الإقتصادية، التي تعيشها بعض الشعوب العربية بالرغم من أن الحياة فيها أصبحت أكثر غلاء لجهة ارتفاع الأسعار وزيادة الضرائب.

إن الموضوع بات مقلقاً للغاية لكنه لا يستحق كل ما يحصل خصوصاً لجهة المطالبات بقلب النظامين السياسي والضريبي، وهنا يجب التنويه بأن النظام الضريبي والمالي الحالي يمنح الفرنسيين مجانية الخدمات العامة، والمستشفيات والمدارس. فأكثرية الفرنسيين يطمحون إلى إصلاح النظام الضريبي، الذي تعتريه بعض الشوائب، كي يصبح أكثر عدلاً من الناحية الإجتماعية دون وجود رغبة بالإنقلاب عليه كلياً.

لكن إن بقيت الأمور على ما هي عليه فسيكون هناك خطر وقوع “ربيع عربي” بنكهة فرنسية، أي فوضى، في ظل غياب مشروع سياسي واضح لا سيما مع تحكم أقلية من المتظاهرين الشارع، من خلال أعمال الشغب، بإرادة الأكثرية مما قد يؤدي إلى تضارب بين مكونات المجتمع الواحد ما يهدد بوقوع حرب أهلية.

قد نرى في الأيام القادمة مجموعات فرنسية مختلفة المشارب السياسية، من يمين ويسار متطرف وغيره من المجموعات المعلنة وغير المعلنة، تتضارب فيما بينها من أجل السيطرة على الشارع، بهدف مواجهة الرئيس ماكرون وحكومته، وهو ما لا يخدم الشعب أو مصالحه المحقة والنزيهة لا سيما بعد التناقض الذي نشهده ما بين رئيس الوزراء، أدوار فيليب الذي قرر تجميد أسعار المحروقات لمدة ستة أشهر، وقرار الرئيس ماكرون بإلغاء الضريبة التي كانت مقررة في بداية 2019 على المحروقات ما يعكس خلافاً حقيقياً حاصلاً بين مكونات السلطة التنفيذية. فالأول يناور لتهدئة الشارع، والثاني عينه على الإنتخابات الأوروبية المقبلة.

في المحصلة، قد يهدأ الشارع أو لا. لكن أسعار المحروقات ستبقى مرتفعة وبالتالي سيكتفي الشعب الفرنسي بالفتات، كالعادة، لأن المطلوب ليس إلغاء الضريبة المبالغ فيها على المحروقات، بل خفض أسعارها خصوصا في ظل أسعار النفط المتدنية نوعاً ما عالمياً.

لكن الأسئلة تبقى: في ظل إلغاء الضريبة عن المحروقات، ماذا عن خفض أسعار السلع اليومية وغلاء المعيشة؟ ماذا عن الضريبة على الثروة التي تم إلغائها لصالح الطبقة الإجتماعية الأغنى في فرنسا والتي حرمت الخزينة العامة من 4 مليار يورو لا تعرف حكومة ماكرون كيف تعوضها؟

أخيراً وبإنتظار الخروج من هذه الأزمة، يبدو أن “عروش” الليبرالية بدأت تهتز في عقر دارها.

*كاتب ومحلل فرنسي  – لبناني

مصدر الصور: فرانس 24 – الإتحاد الإماراتية.