رشدي مسعور*

تمهيد

تحولت التوقعات التي كانت سائدة منتصف العام 2017، حول استقالة وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية ريكس تيلرسون، إلى حقيقة حيث أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن إقالته لتيلرسون وتعيين مدير الاستخبارات الأمريكية، مايك بومبيو، عبر تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، ليمثل الإعلان أكبر تغيير في الفريق العامل مع الرئيس الأمريكي، ولينهي عدة أشهر من التوتر بينه وبين تيلرسون.

كما شهدت الإدارة الأمريكية، على مدار نحو عام مغادرة أسماء بارزة، تقود مراكز حساسة، من بينها: مستشار الأمن القومي، مايكل فلين الذي استمر في منصبه 25 يوماً فقط، وكذلك رينس بريبوس، كبير موظفي البيت الأبيض السابق، وستيفن كيفين بانون، كبير مستشاري الرئيس للشؤون الاستراتيجية، والمتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض، شون سبايسر، وشهدت إدارة الاتصالات في حكومة ترامب أكبر معدل لحركة دوران الموظفين خلال عام، حيث تعد المديرة الحالية لهذا القسم، هو هيكس، رابع شخص يتولى هذا المنصب في الفترة المذكورة.

وبهذه التغييرات التي طرأت على مؤسسة الخارجية الأمريكية، يبدو أن ترامب حريص على تغيير سياسة بلاده تجاه الملفات الحساسة، وبالتالي التأكيد على الاستحقاقات التي حددها لتثبيت نجاح ولايته على صعيد السياسة الخارجية

تحاول هذه الورقة التطرق لمستقبل السياسة الخارجية الأمريكية بعد تعيين مايك بوميو، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية C.I.A، خلفا لريكس تيلرسون، عبر سرد الأسباب الحقيقية وراء إبعاد تيلرسون باعتبار هذا الأخير غير متشدد في تعامله مع أهم الملفات من ترامب في حد ذاته. ومستقبل السياسة الخارجية في ظل تعيين “الصقر” بومبيو، الذي يعتبره الكثير من أكثر المسؤولين الأمريكيين تشدداً في تعامله مع الملفات الراهنة، لذا فأي مستقبل للسياسة الخارجية الأمريكية تحت مسؤولية بومبيو؟ ما الهدف من عسكرة الإدارة الأمريكية؟ كيف سيتعامل بومبيو مع ملف إيران النووي وملف كوريا الشمالية؟

أولاً: الأسباب التي أوقعت بتيلرسون

لم تكن إقالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوزير خارجيته ريكس تيلرسون عملا مفاجئاً، فقد سبق لترامب أن أقال شخصيات فاعلة ووازنة في إدارته خلال الأشهر الماضية. إنما ما يسجل لهذه الإقالة إنها تمت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يعبر عن دلالات قاسية لجهة تعامل ترامب مع خصومه أو من يعارضه في المسائل الاستراتيجية. وغريب المفارقات فيها، أنها أيضا تمت بعد سنة ونصف من التباين بين الرجلين والتي بدأت إبان حملة الانتخابات الرئاسية، واستمرت علانية بعد تعيينه، وبخاصة حول مسائل دولية حساسة، في وقت تتميز وزارة الخارجية الأميركية عادة بقربها الشديد من السياسات التي تنتهجها الرئاسة في البيت الأبيض.

وقد أثار أداء تيلرسون الضعيف انتقادات متزايدة في الأشهر الأخيرة الماضية داخل الكونغرس، إذ أعربت مجموعة من كبار أعضاء الكونغرس الأمريكي، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، بالإحباط حيال جهود وزير الخارجية ريكس تيلرسون لإصلاح الخارجية الأمريكية، وفي وقت سابق علق السيناتور بين كاردين، عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، في لقاء صحافي، بأن تيلرسون لم يكن صوتاً مؤثراً يمثل وزارة الخارجية في هذه المرحلة كما وجه السيناتور بوب كوركر، رئيس اللجنة وهو أحد الحلفاء المقربين لوزير الخارجية، انتقادات واسعة له.

وذلك فضلاً عن فراغ الكثير من السفارات الأمريكية حول العالم، وعلى رأسها مصر، من سفراء يمثلون الولايات المتحدة طيلة أكثر من عام، فبعد قرار الرئيس ترامب الروتيني، بعد توليه منصبه في يناير/ كانون الثاني 2017، سحب السفراء الأمريكيين وتعيين جدد كان من المفترض ملء هذه الشواغل غير أن تيلرسون فشل في تنفيذ المهمة التي ربما تعتبر إدارية.

 ولهذا، وتعود إقالة “ريكس تيلرسون” إلى عدة أسباب ولعل أهمها:

 

– الخلافات مع الرئيس ترامب: منذ توليه منصبه وزيراً للخارجية في الأول من شهر فبراير/ شباط 2017، لم تتوقف الخلافات بين ريكس تيلرسون والرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي عمد أخيرا إلى إقالته وتعيين مدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو خلفا له.

ولم تخف توترات العلاقة بين ترامب وتيلرسون عن أحد، فقد رفض وزير الخارجية السابق خطابات ترامب “المتهورة” ووصفه بالأحمق مرة، كما رفض أن يساند موقفه المؤيد للنازيين الجدد، بعد أن قال عنهم ترامب “إنهم طيبون للغاية”.

وبعد الإقالة، أكد ترامب وجود خلافات مع تيلرسون “حول بعض الأمور”، وقال “بالنسبة إلى الاتفاق (النووي) الإيراني أعتقد أنه رهيب بينما اعتبره (تيلرسون) مقبولاً، وأردت إما إلغاءه أو القيام بأمر ما بينما كان موقفه مختلفا بعض الشيء، ولذلك لم نتفلق في مواقفنا.”

كما شكل ملف الصواريخ الباليستية لكوريا الشمالية مثار خلاف بين الرجلين، الأمر الذي دفع ترامب لانتقاد تيلرسون علانية في إدارته لهذا الملف.

وكانت الخلافات برزت إلى العلن لأول مرة مطلع أكتوبر/ت شرين الاول 2017، حيث “وبخ” ترامب وزير الخارجية تيلرسون في تغريدة على تويتر “لإضاعته وقته” في محاولة التفاوض مع كوريا الشمالية.

الانحياز تجاه قطر: ترامب منذ توليه المسؤولية أعلن أنه سيحارب الإرهابيين ويضرب مصادر تمويلهم وهذا كان واضحاً في تأييده للنظام المصري في محاربة الإرهاب، وضح هذا من تصريحات ومواقف عديدة أبرزها ما تم التوافق عليه خلال لقائه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في زيارته لواشنطن، وقد أعلنت دول الخليج العربي ومصر موقفاً واضحاً من قطر بوصفها واحدة من الدول الراعية للإرهاب. موقف الرباعي العربي كان مؤيداً ومدعوماً بمستندات ووقائع، إضافة أن القرار الذي اتخذه الرباعي العربي بمقاطعة قطر جاء بعد جهود ديبلوماسية وتفاوضية طويلة، أشهرها قمة الرياض التي لم تنفذ الدوحة من اتفاقاتها شيئاً.

ورغم أن ترامب بادر إلى اتهام قطر برعاية الإرهاب والضغط عليها لوقف علاقاتها مع الجماعات المتشـددة، وذلك مباشـرة الاجتماع الرباعي الذي أقر المقاطعة، إلا أن دبلوماسية تيلرسون انقلبت تماماً على توجه الرئيس ترامب، وأرسـت علاقة غير متوازنة مع طرفي الأزمة منحازة إلى موقف الدوحة بدل الضغط عليها.

فمن المعلوم أن وزير الخارجية الأميركي المُقال، كان يُعتبر “رجل قطر الأول” داخل البيت الأبيض، نظراً لما لديه من صداقات عميقة مع عدد من المسؤولين القطريين وعلى رأسهم عبد الله بن حمد العطية، وزير الطاقة والصناعة السابق. بالتالي، كان له توجهات قريبة مع قطر، خاصة أنه كان رئيس مجلس إدارة شركة “إيكسون موبيل”، قبل توليه مهام الخارجية الأميركية، وهي عضو مؤسس في مجلس الأعمال القطري – الأميركي في العام 1996، ككيان أسسه النظام القطري، وقتها كان تيلرسون مسؤولاً رفيع المستوى، وبعد توليه رئاسة الشركة النفطية العملاقة، أصبح عضواً في الهيئة الاستشارية لمجلس الأعمال القطري – الأميركي.

فالوقت الذي كان يفترض فيه أن تقود الوساطة الأميركية بقيادة تيلرسون إلى حلحلة الأزمة على أساس القطع مع مسبباتها ودفع قطر للتخلي عن سياسات دعم الإرهاب، تحامل وزير الخارجية الأميركي على دول المقاطعة وتغاضى عن مسببات الأزمة بأن وقع اتفاقية مع الدوحة لمكافحة الإرهاب وصفتها الدول الأربع بأنها غير كافية ولا تعني تخلي القيادة القطرية عن ارتباطها الوثيق بجماعات مصنفة إرهابية وعن تقاربها مع إيران المتورطة بدورها في دعم الإرهاب.

وهو ما يؤكد أن تيلرسون انحرف بمبدأ الحياد ما عقد جهود حل الأزمة وربما أثار غضب ترامب الذي أبدى منذ البداية حزماً في مواجهة سجل الدوحة وإيران في دعم الإرهاب.

أداء تيلرسون الضعيف وقلة خبرته الدبلوماسية: أثار قرار تعيين تيلرسون وزيراً للخارجية في فبراير/ شباط 2017، جدلاً لعدم امتلاكه خبرة دبلوماسية سابقة من جهة، وحماسةً من جهة أخرى؛ لأنّه الرئيس السابق لشركة النفط العملاقة “إكسون موبيل”، ويملك خبرة عميقة في سياسات الشرق الأوسط وعلاقة جيدة مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من خلال جهود “إكسون” للتنقيب عن النفط في روسيا.

إلا أن الحماسة تجاه إحضار عقلانية الأعمال إلى السياسة ما لبثت أن انطفأت، فقد بدا تيلرسون مرتبكاً أمام التحديات الدبلوماسية ومنعزلاً عن موظفي السلك الدبلوماسي الأميركي الذين جمّدهم وأخرجهم من معظم النقاشات الدبلوماسية.

فشل تيلرسون في إدارة معظم الملفات، أو التعاطي معها، بل أظهر كثيراً من الغموض والتحيز في بعضها مغلباً مصالحه الاقتصادية الخاصة على المصالح العليا لأميركا. اتضح ذلك جلياً في تعاطيه مع أزمة قطر وأزمة اليمن؛ حيث ظهر بمظهر المنظّر الذي يردد المواعظ والخطب دون أن يطرح الحلول ويتجه بالأطراف لصناعة حلول. هذا الضعف والانكفاء للسياسة الخارجية الأميركية جعل السياسة الروسية والإيرانية تتوغل في مشاكل المنطقة؛ ما انعكس سلباً على قرارات مجلس الأمن في التعاطي مع أزمات المنطقة، وجعل الرئيس يقوم بدور وزير الخارجية في كثير من المناسبات.

بالمحصلة، ثمة قضايا مركزية افترق الطرفان في قراءتها، إضافة إلى التباين الشديد في وسائل تنفيذ بعضها، مما أجبر ترامب على اتخاذ قراره في الاتجاه الذي يصوّب سياسة خارجيته مع مسارات تطلع إليها إبان حملته الانتخابية، ذلك بتعيين مايك بومبيو، خلفاً لتيلرسون، الذي شغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، والذي كان عضواً في مجلس النواب الأميركي عن ولاية كانساس من العام 2011 وحتى العام 2017، حيث اشتهر أيضا بمواقفه المتطرفة ضد الأقليات الدينية والعرقية في الولايات المتحدة وبينها المسلمون، كما عرف بموقفه الرافض للاتفاق النووي مع إيران، ويعد من أشد الرافضين لإغلاق معتقل “غوانتانامو” الذي أقامه الرئيس السابق، جورج بوش الابن، في كوبا عقب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول العام 2001. كل ذلك يؤشر إلى سياسة خارجية مختلفة تماماً ستظهر في الأشهر القادمة، ومن المحتمل والمفترض أن تبرز تباعاً في الشرق الأوسط والذي سيكون الملف النووي الإيراني في طليعة القضايا المستهدفة، طبعا علاوة على الأطر التنفيذية لما سميَّ بـ “صفقة العصر” (أو القرن) بما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

ثانياً: عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية

– لم يكن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزل وزير خارجيته ريكس تيلرسون، وتعيين رئيس الاستخبارات مايك بومبيو بدلاً عنه مفاجئاً، في ظل تنامي عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية. فالخطوط الأساسية لعقيدته للأمن القومي كشفت عن نزعة عسكرية إمبريالية من خلال أطروحة “أمريكا أولاً”. ولا يكل ترامب منذ ترشحه عن الإفصاح عن إعجابه بالجنرالات وازدرائه للدبلوماسيين، وقد عيّن جينا هاسبل مديرة جديدة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، خلفاً لمايك بومبيو، الأمر الذي يؤكد أن النظام العولمي الأمريكي عند الجمهوريين خاصة يقوم بصورة أساسية على مبدأ تفوق القوة العسكرية.

إن نظام الرئيس ترامب لا يعمل خارج إطار الدولة العميقة، بل إنه يقوم بتحريك بعض عناصرها لتقويتها من أجل مهمة جديدة. فنظام ترامب لا يعمل على قلب المؤسسة، بل على تعزيزها وتقويتها لمواجهة أزمة أوسع تلوح أمام هذا النظام العميق العابر للحدود. فمن الخطأ أن نفترض أن صراع ترامب مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية يعني أنه بالضرورة على خلاف مع المجمع العسكري – الصناعي. على العكس، إن الأشخاص الذين عيّنهم ومستشاريه في مجال الدفاع، هم جزء لا يتجزأ من هذا المجمع.

من هذه الزاوية نجد أن عملية الإحلال والتبديل هذه تأتي ضمن صورة أعم وهي “إصلاح” إدارة ترامب شريطة لاستمرارها، عبر توافق بدا في الآونة الأخيرة بين أهم مؤسستين في واشنطن اعتمد ترامب من خلاله مراوحة تجمع ما بين تسوية بينه وبين المؤسسات الأميركية الأهم – السي آي إيه والبنتاغون – لاستمرار إدارته بعيد عن تعطيل تشريعي أو إجرائي من جانب هذه المؤسسات يزيد من إخفاقات هذه الإدارة؛ فاعتمد ترامب رؤية البنتاغون تجاه عدة ملفات أولها وأهمها الاستراتيجية الدفاعية الأميركية الجديدة، التي أعادت أجواء الحرب الباردة بالحد الأدنى وترشح لمزيد من التصعيد بين واشنطن وموسكو وبكين فيما يتعلق بسباق التسلح وتطوير الترسانة النووية وكذا صراعات السيطرة والإزاحة على المياه الدولية؛ أي باختصار عسكرة التنافس بين واشنطن وهاتين القوتين، وهو الأمر الذي لم يعد يصلح معه بقاء رموز إدارة ترامب الشعبوية من ستيف بانون إلى ريكس تيلرسون، الذي يعتبره البعض الأكثر عقلانية بين رموز إدارة ترامب قبل عام والآتيين كلهم – باستثناء ماتيس – من خارج المؤسسات الرسمية، ويحل محلهم أشخاص توافقيين من هذه المؤسسات مثل بومبيو وهاسل وقبلهم ماتيس، والذين يعبّروا عن جوهر رؤية هذه المؤسسات ويتقاطعوا مع ترامب في الخطوط العريضة لسياساته.

ثالثاً: من هو مايك بومبيو؟

وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو؛ عسكري وسياسي أمريكي ولد في 30 ديسمبر/كانون الاول من العام 1963 بكاليفورنيا، هو أحد أعضاء حركة “حزب الشاي”، وتخرج من كلية “وست بوينت” العسكرية العام 1986، وخدم كضابط في سلاح الفرسان، وحصل على شهادة في القانون من جامعة هارفارد قبل أن يقضي حياته المهنية في القطاع الخاص في صناعة الطيران وصناعة النفط، حتى انتخابه بمجلس النواب العام 2010، كما أعيد انتخابه في الأعوام 2012 و2014 و2016. عمل في الحقل القانوني في الجيش قبل انتقاله إلى مجال الاستثمار الاقتصادي.

عُرف أيضاً بمواقفه الرافضة للاتفاق النووي مع إيران في تناغم واضح مع رئيسه ترامب، وفي 18 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2016، قام الرئيس المنتخب دونالد ترمب بترشيح بومبيو لشغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ليشغل منصبه رسمياً، في 24 يناير/ كانون الثاني 2018، بعد موافقة مجلس الشيوخ على تعيينه.

وقد شغل منصب عضو لجنة الاستخبارات بمجلس النواب وهي اللجنة التي حققت في الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي العام 2012، واستغرقت عاماً في استجواب مسؤولي إدارة أوباما حول الحادث الذي أدى لمقتل السفير الأميركي وثلاثة دبلوماسيين آخرين.

إن بومبيو لم يتم اختباره في مجال الدبلوماسية، لكنه أكثر تأييدا لآراء الرئيس ولطريقة إدارته للسياسة الخارجية، في الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة مجموعة من تحديات الأمن القومي الحساسة والخطيرة أيضًا.

إن بومبيو سيواجه مجموعة من قرارات السياسة الخارجية وأزمات الأمن القومي المحتملة، هذا “الربيع” التي يمثل تحدياً حتى للدبلوماسيين المخضرمين.

رابعاً: التوافق في الرؤى بين بومبيو وترامب

– يشبه بومبيو تيلرسون في كونه رجل أعمال، إلا أن خبرته السياسية في الكونغرس وجهاز المخابرات، بالإضافة إلى مواقفه المتوافقة مع توجهات ترامب، جعلته خياراً مفضلاً؛ نظير آرائه التي كان أبرزها تقليله من دور روسيا في الانتخابات الأمريكية، وتصريحاته المتشددة من الملف النووي الإيراني، وأحاديثه العنصرية ضد المسلمين، ومن ثم يبدو أن وصول ترامب لرجل مثل بومبيو قد يوحد مواقف الإدارة الأمريكية في السياسة الخارجية، حالياً يظهر بومبيو بأنه أحد المقربين والمتوافقين مع ترامب حيث يطلع بومبيو ترامب – قبل ترشيحه وزيراً للخارجية – على تقارير استخباراتية بشكل يومي، علاوة على حضور بومبيو اجتماعات في البيت الأبيض لا علاقة له بها، ما يزيد من احتمال انسجام ترامب وبومبيو، واتجاه السياسة الأمريكية نحو فاعلية أكثر، لكن يظهر أن احتمال تأثير بومبيو على السياسة الخارجية الأمريكية وقرارات ترامب واردة؛ نظراً لعمل بومبيو في جهاز المخابرات وإحاطته ببعض التفاصيل الخاصة بعلاقة ترامب بالجهات الخارجية، كما أن تقريب ترامب لرجال الأعمال وتعيينهم في مناصب عليا يُظهر عناية من ترامب بمصالحه وطبيعة شخصيته التي لا تقبل أن يحيط به رجال لهم شأن أقل، ولهذا يمكن أن يولي بومبيو اهتماماً بمصالحه التجارية أيضاً، وهذا سيزيد من تأثير الأطراف الخارجية على سياسة أمريكا ونشاطاتها في الخارج.

إن بومبيو في وضع جيد لقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في وقت تواجه فيه القوى الكبرى في العالم مجموعة من التحديات تتراوح بين الملف النووي الايراني إلى الصعود الروسي، لذلك ستكون أولويات وزير خارجية أمريكا تقوية تحالفات الولايات المتحدة ومواجهة الخصوم المؤثرة في العالم وكذا الإرهاب الدولي، وطمأنة حلفاء أمريكا التي تقف الولايات المتحدة معهم.

خامساً: مستقبل أبرز التحديات الخارجية الكبرى في ظل تعيين بومبيو

ملف كوريا الشمالية

– أكد البيت الأبيض على رغبة الرئيس في تشكيل فريق جديد تحسبا للمفاوضات التاريخية التي سيخوضها مع كوريا الشمالية بعدما وافق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 9 مارس/ آذار الماضي (2018) على دعوة الرئيس الكوري كيم يونغ أون.

مايك بومبيو مدير المخابرات المركزية الأمريكية أعلن، في وقت سابق، أن موقف بلاده في المفاوضات مع كوريا الشمالية “قوي”، مضيفاً أن “هذه الإدارة عيناها مفتوحتان، وعلى طول وقت إجراء المحادثات سيتزايد الضغط على كوريا الشمالية… لن تكون هنالك راحة في الأفق حتى يحقق الرئيس ترامب الهدف الذي وضعه إبان وجوده في المنصب.”

كما أشار في مؤتمر أمني، في العام 2017، أنه يؤيد تغيير النظام وبأن الولايات المتحدة لا تقدم “تنازلات” في المفاوضات مع بيونغ يانغ، كما ستصر الحكومة الأمريكية على مسألة نزع الأسلحة النووية من شبه الجزيرة الكورية التي تمثل أهم المحاور الرئيسية في مباحثات القمة المرتقبة بين الطرفين التي يقول فيها الزعيم الكوري الشمالي إنه مستعد للالتزام بها وسيبذل الجهود من أجلها بكل سرور.

لذلك، قد يكون ترامب أكثر استعداداً للثقة بومبيو، لكن آراء الأخير المتشددة بما في ذلك الدعوات لتغيير النظام، يمكن أن تزيد من انعدام الثقة في كوريا الشمالية وتعمل كحاجز لأي محادثات لاحقة بعد القمة. وإذا ساعد وزير الخارجية الجديد ترامب، في الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، فستشعر بيونغ يانغ، أن أي اتفاق أبرمته مع الولايات المتحدة لن يستمر.

يكمن الخطر في هذا السيناريو في أنه إذا لم تحقق كوريا الشمالية المكاسب التي ترجوها على الصعيد الاقتصادي فستلجأ للتصعيد مرة أخرى، وهو ما قد يؤدي إلى تنفيذ تهديدات الولايات المتحدة المستمرة بتوجيه ضربة عسكرية محدودة لكوريا الشمالية، أو ما تطلق عليه الإدارة الأمريكية “Bloody Nose”، أي أنها لن تكون ضربة مدمرة ولكنها ستكون بمثابة إنذار أخير للتراجع عن أي نهج تصعيدي، وهو ما سينتج عنه اضطراب في الأوضاع الداخلية لكوريا الشمالية، ونزوح لاجئين، وتوتر شديد على الحدود مع الصين.

  1. 1. الملف النووي الإيراني

يُعرف عن بومبيو انتقاده إيران علناً في مناسبات مختلفة مثله مثل ترامب، وكان من بين المطالبين الأكثر حدّة بإلغاء الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، إذ أصرّ على وضع قيود على برنامج طهران النووي في مقابل تخفيف العقوبات الدولية الواقعة عليها.

وفي أواخر العام الماضي، كشف بومبيو أنه وجّه رسالة إلى قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني، والقادة الإيرانيين عبّر فيها عن قلقه بشأن سلوك إيران الذي ينطوي على تهديد متزايد في العراق.

إن التغيير الذي حدث على رأس الخارجية الأمريكية يلمّح إلى نية الولايات المتحدة الأمريكية بالانسحاب من الاتفاق، كما يزيد من احتمال زيادة التوتر والمواجهة المباشرة مع النظام في إيران.

إن مستقبل الاتفاق النووي محل شك بعد الإنذار الذي أصدره ترامب مؤخراً محذراً بالانسحاب ما لم تنجح أوروبا في إصلاح الاتفاقية التي يعتبرها الرئيس الأمريكي مليئة بالعيوب، وبالتالي فالمباحثات القادمة بين الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، ألمانيا وبريطانيا ستهدف إلى انقاذ الاتفاق النووي كما خطط له في برلين.

فعلى أوروبا أن تُبدي استعداداً لاتخاذ خطوات تعالج المخاوف الأميركية، إنما شرط أن تكون تلك الخطوات منسجمة تماماً مع خطة العمل المشتركة الشاملة، وأن توافق الولايات المتحدة، في المقابل، على الوفاء فعلياً بالتزاماتها الاقتصادية تجاه طهران. في غياب هذه النتيجة التي يُستبعَد أن تتحقق، على أوروبا أن تنتقل إلى الخطوة “باء”: ينبغي عليها أن تسعى إلى إقناع طهران بالتقيّد بموجباتها، بغض النظر عن انسحاب الولايات المتحدة أو عدم انسحابها، عبر تعزيز الفوائد السياسية والاقتصادية للعلاقات الثنائية بين الاتحاد الأوروبي وإيران، والتي من شأنها أن تتوقّف في حال تجاهلت إيران التزاماتها. وفي شكل خاص، على أوروبا أن تحاول تقليص الضرر الذي تتكبّده شركاتها بسبب العقوبات الأميركية الثانوية، وأن تسعى إلى الاستثمار في الاقتصاد الإيراني، وإلى إقامة شراكة مع طهران في مجال الطاقة.

وفي الواقع، إن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية قد يؤدي إلى تدمير الاتفاق، الأمر الذي يخيف الاستثمارات الأوروبية التي تعتبرها إيران مكافأة أساسية للموافقة على الحد من تخصيب اليورانيوم وغيره من الأعمال النووية.

إذا ما انتهى الاتفاق واستنتجت إيران أنه لا يوجد حافز اقتصادي لتقييد نشاطها النووي، فإن طهران ستطرد مسؤولي الأمم المتحدة وتتحرك لزيادة الأسلحة النووية في الأيام القادمة، وفي ظل هذا السيناريو، قد تقرر الولايات المتحدة الأمريكية – وإسرائيل اتخاذ تدابير صارمة يمكن ان تكون عسكرية لمنع إيران من الحصول على القنبلة أو على الأقل تعطيل محالة زيادة صواريخ ذات رؤوس نووية.

وبالتالي، ما يمكن قوله عن المرحلة المقبلة، فالمنطق يقول أننا لن نشهد أي تغيير جذري في طبيعة العلاقة الأمريكية – الإيرانية، وأن التلويح بالحرب لا يبدو خياراً متاحاً وذلك بسبب الفوضى التي يمكن أن يقود إليها في عموم المنطقة. هذا بحسابات المنطق، لكن المشكلة أننا لا نعيش في عصر هذه الحسابات بقدر ما نعيش، على حد تعبير “هنري كسينجر”، في زمن تتراجع فيه الدبلوماسية لحساب المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات.

  1. روسيا

 في قضية روسيا وتدخُّل الكرملين بالانتخابات الأمريكية، كان لبومبيو موقف واضح عندما أعلن على الملء أن مجتمع الاستخبارات في الولايات المتحدة يرى أن التدخل الروسي لم يؤثر على نتائج الانتخابات الأمريكية العام 2016، في وقت لم يُحسم هذا الأمر؛ ما دفعه إلى إصدار بيان في وقت لاحق، عدّل فيه بعض عباراته التي قالها خلال المقابلة الصحافية، ما يؤكد أن موقفه كان نابعاً من سعيه لحماية الرئيس، وليس بسبب نزاهة الانتخابات الأمريكية.

وقد تبين أن بومبيو لا يخشى التهديدات النووية الروسية التي تحدث عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الفترة الأخيرة من خلال تصريحات له، حيث قال: “إن تصريحات الرئيس الروسي حول امتلاك موسكو أسلحة نووية جديدة بعضها ذو نطاق غير محدود لم تكن مفاجأة لمجتمع الاستخبارات الأمريكي. إننا نتابع كل هذا عن كثب، وكذلك زملاؤنا في وزارة الدفاع، ويجب على الأمريكيين أن يطمئنوا إلى أن لدينا فهماً جيداً للبرنامج الروسي، ونضمن أن يظل الأمريكيون في مأمن من تهديدات فلاديمير بوتين.”

أكد بومبيو مؤخراً في شهادة خطية للكونغرس الأمريكي، يوم 12 أبريل/ نيسان 2018، أن “عهد السياسة الناعمة تجاه روسيا قد انتهى. لأن روسيا تواصل التصرف بعدوانية، وتعاملنا معها لسنوات طويلة بطريقة السياسة الناعمة، وقد انتهى الأمر الآن”، وأوضح قائلاً إن “استراتيجية الأمن القومي الأمريكية تنص على أن روسيا تشكل تهديدا للولايات المتحدة، إلا أن واشنطن ستواصل بذل الجهود الدبلوماسية المعقدة، كما فعلت في وقت سابق في حالات المواجهة مع موسكو.”

ما يمكن استنتاجه من سياسة ترامب في عسكرة إدارته من خلال تنحية ريكس تيلرسون، وبتعيين عسكريين سابقين أفكارهم مطابقة مع الرئيس في الملفات الخارجية بدءً من الوزير الخارجية الجديد مايك بومبيو إلى جون بولتون مروراً بمديرة المخابرات الجديدة جينا هاسبل، هو أن توجهاته ستكون أكثر صرامة بتعيين “الصقور” العسكريين وأن الحلول الدبلوماسية ستتراجع مقارنة لما كانت عليه خلال فترة تيلرسون.

*باحث جزائري

مصدر الصور: موقع مصدر دبلوماسي – العرب.