إعداد: يارا انبيعة
منذ العام 2003، حاول حزب العدالة والتنمية طبع بصماته على تركيا الحديثة، وقد نجح في عديد المرات وفشل في بعضها ولكنه لم يستطع ان يحافظ على شيء من اسمه ازاء الأزمة الأخيرة الخانقة التي كادت ان تودي بالإقتصاد الذي وصل الى حافة الانهيار، من سياسات اقتصادية وسياسية واجتماعية، والتي كانت وراء الحلقة التي خنقت “عنق” انقرة.
“شهية إقتراض مفرطة”
في اواخر العام 2016، اعلن البنك المركزي التركي ان ديون الشركات التركية، بالعملة الأجنبية، بلغت عتبة الـ 210 مليار دولار، بينما بلغ معدل التدوير اكثر من 160%، وهي نسبة مؤشر يدل على عدم قدرة الشركات التركية من وقف عمليات الإقتراض كون البديل عن ذلك هو مواجهة خطر الإفلاس كون معدل التدوير يعني ان كل 100 دولار مستحقة على تلك الشركات تقابلها 100 دولار اخرى تم اقتراضها لتمويل دفعها، بالإضافة الى 60 دولاراً اخرى اضافية عليها.
ويفسر اعتماد الشركات التركية على الاقتراض الخارجي بولعها الشديد في تعظيم الأرباح المدفوعة بالديون، لذا يمكن القول ان النمو الإقتصادي الذي اعلنته تركيا، اواخر شهر مارس/آذار 2017 والذي يعد أكبر معدل للنمو الاقتصادي خلال 4 سنوات حيث بلغ 7.4% العام 2017، هو نمو “مدفوع بالديون”. ففي الوقت الذي كانت تحتفي فيه حكومة انقرة، كانت احدى اكبر شركاتها العالمية المشهورة بتصنيع المنتجات الغذائية، “يلديز القابضة” والتي يملكها اغنى رجل في تركيا مراد أولكر، تعلن عن اتفاق لإعادة تمويل مبلغ وصل الى 7 مليارات دولار مع مقرضيها.
لقد دفعت تلك الهشاشة، في بنية الشركات واضعاف المؤسسات وتأخير علاج تلك المشاكل الهيكلية، وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني الى تخفيض تصنيف تركيا الى فئة BA2، اوائل مارس/آذار 2017، عازية سبب تخفيض التصنيف الى ان “الحكومة التركية لا تزال تركز على التدابير قصيرة الأجل، على حساب السياسة النقدية الفعالة والإصلاح الإقتصادي الأساسي”، بينما كان اخطر ما جاء في بيان الوكالة هو تحذيرها من مخاطر ازمة مالية مرتقبة.
لا شك ان توقيت الأزمة الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وتركيا، ساهم بشكل كبير في تدهور سعر صرف الليرة خاصة ما صاحبها من فرض للعقوبات. لكن ليس من المنطقي النظر للأسباب السياسية على انها هي المحرك الرئيس لعدم استقرار العملة التركية مع التغاضي عن بعض الصعوبات والمشاكل الموجودة في بنية الإقتصاد ذاته، التي ساهمت بدور كبير في التدهور الحاصل في اسعار الصرف، والمتمثلة في عجز الحساب الجاري والدين العام.
عجز في الحساب التجاري
يعتبر استمرار عجز الحساب الجاري احد اهم المعضلات التي تواجه الحكومة التركية، ويرتبط هذا المؤشر بحجم الحوالات الواردة والصادرة من البلد، ويعني هذا العجز ان حجم الحوالات النقدية الخارجة من تركيا اكبر من حجم الحوالات النقدية الداخلة الىها. بلا شك، فإن اعتماد الحكومة في سياستها الاقتصادية، لا سيما خلال السنوات الأخيرة، على التدفقات المالية قصيرة الأجل (سريعة الدخول والخروج او ما يعرف بـ “الاموال الساخنة – Hot Money) كان سيفاً ذا حذين.
فعلى الرغم من دور تلك التدفقات في تحريك عجلة السوق وتحقيق النمو الاقتصادي، الا ان الاعتماد عليها وجعلها المحرك الرئيس للسوق يعتبر مخاطرة عالية وذلك لحساسيتها السريعة مع الاضطرابات والأزمات، سواء داخلياً أو خارجياً، وهذا ما اثبتته الأزمة الأخيرة مع الولايات المتحدة، وتغييرات السياسات النقدية والتجارية على الصعيد الدولي.
من هنا، تقلصت مساحة تدخل الحكومة التركية في الحفاظ على استقرار المؤشرات الاقتصادية، وعلى رأسها سعر الصرف. وفي ظل تخفيف القيود على حركة تلك الأموال، فإن اي اضطراب او تخوف لدى المستثمرين يعنى هروباً جماعياً لتلك الأموال، وهو ما يؤثر سلباً على سعر الصرف.
هذا الموضوع تم استغلاله من قبل وكالات التصنيف الائتماني والمؤسسات الدولية عبر ضخها لتقارير سلبية، وان كانت تعتمد على ارقام حقيقية ومؤشرات سلبية يعاني منها الإقتصاد التركي، بهدف معاقبة الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، بعد محاولته رفض الإنصياع لسياسات الصندوق الدولي، ومواقفه السياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وفق تقارير البنك المركزي التركي، حتى نهاية مايو/ايار من 2018، بلغ اجمالي العجز في الحساب الجاري 57.6 مليار دولار مقارنة بـ 36.2 مليار، في مايو/ايار 2017، حيث تم بيع اصول مالية بقيمة 5.19 مليارات دولار، وتضاعف العجز في الميزان التجاري (السلعي) من 43 مليار دولار، في النصف الأول من العام 2017، ليصل قرابة الـ 70 مليار دولار، مع نهاية النصف الأول من العام 2018، وذلك نتيجة لإرتفاع تكلفة الواردات، خاصة وان تركيا لديها نقص في مجال الموارد الطبيعة والطاقة، اضافة لكونها دولة يستند اقتصادها بشكل كبير على التجارة الخارجية والتشجيع الصادرات.
هذا الأمر يعني ارتفاع قيمة عجز الميزان التجاري، حيث انه كلما ارتفع حجم الإنتاج والتصدير، ارتفعت فاتورة الإستيراد من المواد الخام المستخدمة في التصنيع والتصدير، ووصل العجز في الميزان التجاري التركي، بسبب واردات الطاقة فقط، قرابة 10% من الناتج المحلي. ومن ثم، حصل تفاقم في عجز الحساب الجاري، وسجل مؤشر تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة انخفاضاً بقيمة 1.57 مليار دولار، خلال النصف الأول من العام 2018، مقارنة بنفس الفترة من العام 2017.
تفاقم الدين العام
الاقتصاد التركي، ونظراً لكونه من الإقتصادات الناشئة، فإن حساسيته للمتغيرات الاقتصادية على الصعيد الإقليمي والدولي تعتبر عالية، وتختلف درجة حساسية المؤشرات حسب طبيعة تلك الأحداث. وفي النتيجة، فإن الحرب التجارية القائمة زادت من متاعب الليرة، خاصة في ظل تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة، الأمر الذي يعنى ان جزءاً كبيراً من الصادرات التركية قد تفقد امكانية الوصول الى الأسواق الأمريكية من دون رسوم جمركية، مما يؤدي الى اغلاق تدفقات حيوية للدولار، ناهيك عن تأثير الحرب التجارية على قرارات توسع الشركات الآسيوية.
وعليه يعتبر الإستقرار السياسي واغلاق الجبهات الخارجية ضرورة لإستقرار الاقتصاد، اذ بإمكان تركيا الخروج من المأزق عبر عدد من الحلول ابرزها العودة لصندوق النقد الدولي، مع صعوبة ذلك خصوصاً مع مواقف الرئيس التركي المعارضة لسياسات الصندوق، او تقديم تنازلات سياسية لإحتواء هذا التدهور، وهو ما يستبعده مراقبون لكونه بات متعلقاً بسيادة تركيا ومكانتها، بالإضافة الى ان انقرة تنتظر دعماً من شركاء دوليين يعيشون خلافات اقتصادية مع واشنطن، مثل الصين وروسيا.
الدور القطري
عزز تعهد امير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، تخصيص مباغ 15 مليار دولار كإستثمارات قطرية مباشرة في تركيا، اجواء التفاؤل السائدة هناك بمواصلة تعافي الليرة واستردادها لقيمتها امام الدولار، حيث انعكس ذلك فوراً وبشكل ايجابي على سعر صرف العملة المحلية، التي وصلت الى 5.6 ليرات مقابل الدولار الواحد بعدما تخطت عتبة الـ 7 ليرات.
جاء الاستثمار القطري هذا عقب سلسلة تطورات من بينها إجراءات خارجية، مرتبطة بمواقف الدول الأوروبية من تركيا، وداخلية، تتعلق بإجراءات البنك المركزي التركي.
صدمة “إنعاش”
بعد مرور عامين على احتجاز السلطات التركية له بتهمة مساعدة جماعة “غولن” التي تتهمها انقرة بالوقوف وراء محاولة الإنقلاب العسكري في ضيف 2016، اطلق القضاء التركي سراح القس الأمريكي أندور برونسون، المحتجز في تركيا. وقبل ساعات من جلسة الاستئناف وبفعل التوقعات بالإفراج عنه واعادته إلى الولايات المتحدة، صعدت الليرة مقابل الدولار لتسجل اعلى مستوياتها، اذ وصلت الى 5.85 ليرة للدولار، مقارنة مع مستوى اغلاق، ما قبل الجلسة بيوم، بلغ 5.9 ليرة، بربح وصل حدود الـ 3%.
في هذا الخصوص، يعتبر الدكتور بشير عبد الفتاح، الخبير في الشؤون التركية، ان ارتفاع الليرة يعد مؤشراً على انقضاء الأزمة بين انقرة وواشنطن، مشيراً الى ان احتمال وجود صفقة مشتركة امر غير مستبعد على الإطلاق.
ولقد ارجح عبد الفتاح دلائل وجود تلك الصفقة الى ان الرئيس اردوغان ليس مستعداً اطلاقاً على مواجهة الرئيس ترامب، او استفزاز أمريكا من خلال استمرار احتجاز القس او اتمام صفقة الأسلحة مع روسيا، كونه يخشى ردود الفعل السلبية عليه في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها تركيا.
الى ذلك، اكدت المعارضة التركية ان ازمة القس ليست سوى جزء من المشكلة، ونبهت الى ان الأزمة الإقتصادية “اعمق من تبعات التوتر الديبلوماسي” مع واشنطن، اذ تتعرض البلاد لأزمة اقتصادية ضخمة ارتفعت فيها معدلات التضخم، ومستويات الدين العام، الأمر الذي حدا بوكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيفات الائتمانية، بتخفيض التصنيف الائتماني السيادي للمرة الثانية في غضون 4 اشهر.
هل هو تبدُّل الأدوار؟
في المحصلة، ان التداعيات الإقتصادية الناتجة عن بعض السياسات، من الادارة الداخلية للأزمة مروراً بتدخل الرئيس اردوغان في الحرب السورية وتبعاتها وصولاً الى ازمة القس برونسون وتوقيع عقوبات اقتصادية على وزيري الداخلية والعدل التركيين غيرها من الأمور، تجعل من الصعب بمكان ان يهوي اقتصاد ناشئ من اقوى اقتصادات المنطقة بهذا الشكل القوي.
فالعديد من المراقبين يرون بأن الأمر ابعد من ذلك بكثير، فلربما كانت “الارتماءة” التركية في “حضن الدب”، اي روسيا، احدى الأسباب المباشرة لأن يعيد الرئيس ترامب النظر الى صديقه القديم بعدما اصبح لاعباً ضمن الفريق الروسي في المنطقة. انه الغاز، يتكلم جيداً في آسيا الصغرى!
مصدر الاخبار: وكالات.
مصدر الصور: تركيا بالعربي – موقع بوليتيكو.