يارا انبيعة

بلاد أرسطو وخزان أوروبا المعرفي والثقافي تعرضت لأكبر أزمة اقتصادية في التاريخ الحديث، بدأت عندما عصفت أزمة مالية بالإقتصاد، في أبريل/نيسان 2010، اضطرت على إثرها الحكومة اليونانية أن تطلب من الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي تفعيل خطة إنقاذ تتضمن قروضاً لمساعدتها على تجنب خطر الإفلاس والتخلف عن السداد.

جاء ذلك في وقت كانت معدلات الفائدة على السندات اليونانية قد ارتفعت إلى معدلات عالية نتيجة مخاوف بين المستثمرين من عدم قدرة اليونان على الوفاء بديونها، لا سيما مع ارتفاع معدل عجز الموازنة وتصاعد حجم الدين العام.

ولكن الأخطر من ذلك ظهر عندما بدأت الأزمة اليونانية تشكل تهديداً حقيقياً لإستقرار منطقة اليورو، حتى وصلت الأمور إلى طرح فكرة خروج، أو إخراج، أثينا من هذه المنطقة الإقتصادية قبل أن يتخذ القرار الأوروبي بتقديم المساعدة لها مقابل تنفيذها لحزمة من الإصلاحات الإقتصادية واجراءات التقشف التي تهدف إلى خفض العجز بالموازنة العامة.

نتيجة لتلك الأزمة، أصبحت أية انتخابات في البلاد، وكل إصلاح حكومي، يعتبر شأناً أوروبياً لا يوناني، ويتحدد من خلالها رئيس الحكومة الذي يقع عليه عبء تحمل كل تلك الضغوطات.

الحدث الكبير

أدلى اليونانيون بأصواتهم في انتخابات مبكرة جاءت نتائجها كما توقعت استطلاعات الرأي لجهة الدفع بالمحافظين إلى السلطة، منهية بذلك أربع سنوات من حكم اليساريين الذين يُلقى عليهم باللوم بإثقال كاهل البلاد بمزيد من الديون وسوء إدارة الأزمات.

شكلت الإنتخابات، إلى حد كبير، مواجهة بين متنافسين اثنين؛ الأول، رئيس الوزراء، أليكسيس تسيبراس، الذي ينتمي إلى حزب سيريزا، اليساري المتشدد يبلغ من العمر 44 عاماً. والثاني، هو كيرياكوس ميتسوتاكيس، 51 عاماً، الذي ينتمي إلى حزب الديمقراطية الجديدة، وهو سليل عائلة سياسية شهيرة فوالده الذي كان رئيساً للوزراء بينما كانت شقيقته وزيرة للخارجية.

وأظهر إحصاء رسمي لوزارة الداخلية أن حزب الديمقراطية الجديدة المحافظ حقق تقدماً بفارق كبير بحصوله على 39.6% من الأصوات مقابل 31.6%، أي بعدد مقاعد يفوق الـ 160 مقعداً في البرلمان الذي تبلغ عدد مقاعده 300، مستفيداً من نظام انتخابي يمنح مقاعد إضافية للمرشح الفائز.

عقب إعلان النتائج، توجه ميتسوتاكيس إلى ناخبيه بالقول إن نتيجة الإنتخابات منحته تفويضاً قوياً وواضحاً من أجل تحقيق التغيير في اليونان، مضيفاً “أنا ملتزم بتقليص الضرائب، وتوفير استثمارات كثيرة، ووظائف جيدة وجديدة، ونمو يسمح بتحسين الأجور وزيادة المعاشات في دولة تتسم بالكفاءة.”

في المقابل، رد تسيبراس إنه يحترم رغبة الشعب اليوناني، مشيراً إلى أن يتقبل “حكم الشعب ورؤوسنا مرفوعة. كان علينا اتخاذ قرارات صعبة بتكلفة سياسية باهظة من أجل وصول اليونان إلى ما هي عليه الآن.”

دماء جديدة

بفوز ميتسوتاكيس، ينتهي حكم اليسار، الذي انطلق في العام 2015، لتفتح اليونان صفحة جديدة أملاً في مسار خال من التقشف.

السياسي الجديد وعد بضخ “دماء جديدة” في الحكومة المقبلة، متعهداً بأن أعضاءها سيكونون من جيله أو حتى أصغر من ذلك. وفي بلد يعاني من ظاهرة “المحسوبية”، تعهد ميتسوتاكيس، أو “الأمير” كما وصفه سلفه تسيبراس، بعدم تعيين أي فرد من عائلته في حكومته، مقدماً نفسه على أساس أنه “نخبوي” ويدافع عن الكفاءة كمعيار للتعيينات، إذ انه لطالما كان يردد “أحكموا عليَّ من خلال سيرتي الذاتية وليس اسمي”، مستعرضاً شهاداته العلمية التي حصل عليها من أعرق الجامعات الأمريكية.

إنعاش الإقتصاد

يُنظر إلى رئيس الوزراء الجديد على أنه إصلاحي يرمي إلى هيكلة السياسات الإقتصادية والمالية الراهنة في بلاده من أجل إنعاش الاقتصاد، وخلق فرص عمل، وهو الذي كلف حين كان وزيراً للهيكلة الإدارية، في العام 2014، قام بإقالة 15 ألف موظف جراء الضغوط المالية التي كانت تعاني منها البلاد بسبب أزمة الديون السيادية.

ومع أنه تم أوقف تنفيذ القرار، إثر الإنتخابات التشريعية المبكرة في يناير/كانون ثاني العام 2015، إلا أن الإستياء منه ظل عالقاً لفترة في أذهان جزء كبير من الرأي العام المحلي، قبل أن تغلب صورة السياسي الجامع بين التكوين الأكاديمي والأداء المقبول على قرارات الناخبين، وتحمله إلى السلطة من بابها الواسع.

وبعيداً عن الوعود الإنتخابية، يرى مراقبون أن صورة الرجل الذي تخلى عن “ربطة عنقه” هي ما يجذب بشكل كبير اليونانيين إليه، حيث بدا، بقميصه المفتوح والمتحرر من ربطة العنق، رمزاً للتواضع والبساطة، ودليلاً على الإنخراط بعمق في مشاكل المواطنين، وهذا ما أمّن له رصيداً انتخابياً منحه تأشيرة العبور إلى السلطة.

خمس نقاط أساسية

في هذا الإنتخابات والمرحلة التي تمر فيها اليونان، يمكن تسجيل خمسة ملاحظات أساسية أبرزها:

  1. إمتناع رغم الإلزام: هي المرة الثالثة في خلال شهر ونصف شهر يعود فيها اليونانيون إلى صناديق الإقتراع، بعد الإنتخابات الأوروبية والمحلية. ومع أن مسألة التصويت هي أمر إلزامي يعاقب عليها القانون. لكن المفارقة أن نسبة الإحجام المشاركة تزداد.

  1. تناوب لكن بأية غالبية: في نظام برلماني يمسك فيه رئيس الوزراء بمقاليد السلطة ويمارس الرئيس مهاماً بروتوكولية، يمنح قانون الإنتخاب المعمول به الحزب المتصدر مكافأة تتمثل في خمسين مقعداً في البرلمان الذي يضم 300 مقعد. وتتوزع المقاعد الـ 250 البقية بحسب النظام النسبي مع نسبة 3% من الأصوات على الأقل للفوز بمقعد.

  1. صمود الحزب الشيوعي: للحزب الشيوعي اليوناني 15 مقعداً في البرلمان المنتهية ولايته، وقد أظهر صموداً في الإنتخابات الأوروبية الأخيرة عبر فوزه بأكثر من 5% من الأصوات، وهي نتيجة حافظ عليها، منذ العام 2007، إذ أعيد انتخاب مرشحه كوستاس بيليتيدي، في الثاني من يونيو/حزيران، رئيساً لبلدية باتراس، رابع مدن البلاد، بأكثر من 70% من الأصوات. لكن الحزب الشيوعي يرفض أي تحالف مع سيريزا، على غرار موقفه العام 2012

  1. إعادة تشكيل اليمين المتطرف: تقلص حضور حزب “الفجر الذهبي” إلى حد كبير على الساحة السياسية اليونانية، حيث تراجع بنسبة 4.3% في الإنتخابات الأوروبية، خصوصا أن زعيمه نيكوس ميخالوكياكوس والعديد من قادته يحاكمون منذ أربعة اعوام بتهمة تشكيل منظمة إجرامية. لكن المستفيد الأول من ذلك كان حزب “الحل اليوناني”، القومي المتطرف والموالي لروسيا بزعامة الصحافي السابق كيرياكوس فيلوبولوس، الذي حصد 4.18% من الأصوات مستغلاً معارضته الشرسة للإتفاق حول الإسم الجديد لجمهورية مقدونيا. وسط هذا المشهد الملتبس، يتوقع ألا يحصد اليمين المتطرف أكثر من 9% من الأصوات، وهو المستوى نفسه الذي حققه في الانتخابات الأوروبية العام 2014.

  1. إرث ثقيل: لا تزال اليونان تحت رقابة شديدة تمارسها الجهات الدائنة، أي الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، رغم أنها تجاوزت مرحلة برامج المساعدة، في أغسطس/آب 2018، الفائت بعد أزمة ديون استمرت لستة أعوام، والسبب أن الدين العام ظل أكثر من 180% من إجمالي الناتج المحلي للعام 2018. وفي ضوء ذلك، فإن الضرائب التي تفرض على اليونانيين تبقى الأكبر في أوروبا، مع نسبة بطالة 18% و40% في صفوف الشباب، هي أيضاً الأعلى ضمن دول الإتحاد الأوروبي.

ختاماً، كما ألقت أزمة أثينا بظلالها على واقع القارة العجوز الكئيب وكما كانت ممراً للاجئين طوال خمسة أعوام أو أكثر، يتوقع متابعون أن تكون اليونان سباقة في كل شيء. فبعد سطوع نجم اليمينية في الولايات المتحدة وبعدها البرازيل ثم بريطانيا، حان الآن دور بوابة أوروبا الشرقية الجنوبية المتعبة والمرهقة اقتصادياً والتي ستكون مفتاحاً إما للنهوض الجديد أو السقوط المتكرر.

مصدر الأخبار: وكالات.

مصدر الصور: رويترز – حيات التركية.