شادي القعسماني*

ثلاثة أشهر على بدء التظاهرات في فرنسا، منذ 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 تاريخ انطلاق حركة “السترات الصفراء” التي جمعت في أسابيعها الأولى قلوب وعقول الفرنسيين وشكلت فعلاً إشارة صفراء لمصير فرنسا وتحذيراً جدياً لمصيرها المقبل. ولكن ما لبثت ان تراجعت شعبية هذا الحراك على خلفية الشغب وإحراق الممتلكات ونشر الفوضى وانعدام الرؤية المستقبلية لقادته. فالإجماع الفرنسي حول مطالب المتظاهرين بضرورة رفع المستوى المعيشي والتقديمات الإجتماعية ما لبث أن انفرط عقدها رويداً رويداً مع ارتفاع نسبة الفوضى وانقسام الشارع إلى مجموعات غير متجانسة وموحدة المطالب.

فهل فقدت فرنسا سحرها الباريسي الجاذب؟ أم أن “السترات الصفراء” أسقطت “ورقة التين” عن المجتمع الفرنسي الهش، المتعثر اقتصادياً والمفكك اجتماعياً؟

لا شك أن تدهور الأوضاع الإقتصادية لم يكن وليد الساعة. فـ “القارة العجوز”، التي قامت على استغلال دول جنوب المتوسط، ترزح تحت وطأة تباطؤ اقتصادها وانهيار بعض دول الإتحاد، كاليونان وايطاليا اللتان عجزتا عن تحريك عجلة الإقتصاد المحلي ورفع الناتج القومي. رافق هذا الركود الإقتصادي موجات من الهجرة غير الشرعية من دول جنوب المتوسط، خاصة ليبيا وتونس وسوريا، إضافة إلى تسرب العمالة التركية والشرق –  أوروبية. وبالتالي، بات على فرنسا التي تشكل مع ألمانيا الرافعة الإقتصادية للإتحاد، أن تتحمل المزيد من الضغوطات الإقتصادية والأمنية والإجتماعية والسياسية، خاصة وأن فرنسا تعاني من تفكك في مصادر الدخل القديمة الناتجة عن استغلال موارد المستعمرات السابقة.

ومن ناحية أخرى، شهدت فرنسا تراجعاً حاداً في مؤهلات رجال الحكم وانحدار قدرات الحكومات المتعاقبة على مقاربة المشاكل الإقتصادية والسياسية والإجتماعية ومعالجتها. والحقيقة أن بنية الحياة الفرنسية تشهد تحولات خطيرة وتبدو واضحة من خلال أداء الأحزاب السياسية، اليمين واليسار. وأفضل تعبير للمشهد الفرنسي، وصول الرئيس الفرنسي الحالي، إيمانويل ماكرون، إلى الحكم بشعبية متدنية لا تعكس طموحات الشعب بقدر ما تعكس استجابة السلطة إلى مطالب “بنوك روتشلد” التي فرضت ماكرون، عميلها السابق لتسهيل التهام مقدرات الشعب الفرنسي.

أبرز ما يمكن رصده خلال الأشهر الثلاثة الأولى لحراك “السترات الصفراء”، هي على الشكل التالي:

– إن الحراك بدى مرتبكاً بعد فقدان حاضنته الشعبية الواسعة نتيجة تعدد المطالب والمطالبين واعتمادهم على وسائل التواصل في التحريض والتحفيز، حيث بدت الأسابيع الأخيرة من الشهر الثالث للحراك تعكس اتجاهات ورؤى غير موحدة، إضافة إلى ميول بعض المتظاهرين لإحداث أعمال شغب وتكسير تحت عيون قوى الأمن والشرطة الفرنسية، التي بدورها استفادت من توسيع رقعة الخلاف بين منظمي التظاهرات على خلفية الأحداث العنيفة.

– بروز مشهد جديد تراقبه أوروبا والعالم وهو انحدار مستوى الوعي السياسي لدى المواطن الفرنسي، فتراجع عدد المتظاهرين وترك الساحات لصالح ممتهني أعمال الشغب والتضليل والتشويه يعكس صورة الإحباط وفقدان القوى الضاغطة الشعبية أملها بتحسين المستوى المعيشي والخدماتي.

– كشفت التظاهرات أن شعار “السترات الصفراء” لم يوحد المطالب ولا المتظاهرين، إذ أخذت كل مجموعة شارعاً لها ومارست ضغوطها كما تشاء. وبالتالي، هذا ما سهل على القوى الأمنية فرز المتظاهرين وتصنيفهم حيث أفقد الحراك الكثير من عناصر قوته.

– ظهور مجموعات جديدة من المتظاهرين لم تحظَ بتغطية إعلامية واسعة، كـ “الفولار الأحمر” التي تعارض حركة “السترات الصفراء”. وفي كل الأحوال، نجد أن الحكومة غير قادرة أو راغبة في تحقيق المطالب، فالرئيس ماكرون لم يقدِّم غير “الخداع الملطف” تحت عنوان حوار البلديات أو الحوار الوطني دون تحديد لهوية الحوار وأهدافه وسبل إنجاحه. فإنقسام فرنسا على قواعد طبقية، واضح من انحياز ماكرون إلى جانب الأغنياء من خلال الإعفاءات الضريبية لهذه المجموعة، وخير دليل مظاهرات مدينة بوردو حيث هتف آلاف المتظاهرين “الموت للأغنياء”. وإذا ما تركنا الجانب الإقتصادي لحركات الاحتجاج، نجد بروزاً خطراً للتطرف الديني المعادي لأشكال التنوع الفرنسي، وفي حال توفر الظروف له فقد نشهد موجات من العنف الغير مسبوق.

– تعكس الإحصاءات الأخيرة خوف الفرنسيين من استمرار التظاهرات دون جدوى وهذا يقود إلى امور عدة؛ الأمر الأول، أن ترضخ الحركات الإحتجاجية إلى الأمر الواقع وبالتالي تضيع المطالب في دهاليز التفاوض وتكتمل مشهدية الرئيس ماكرون في عزل السلطة والإجراءات الحكومية عن مصالح أغلبية الشعب لصالح الرأسمالية والبنوك الخارجية. والأمر الثاني، ازدياد أعمال الشغب ومزيد من الفوضى. فبعض القادة المتظاهرين ربما ينتظرون “أمر عمليات” من الخارج لتظهير حلول مقبولة من الطرفين. والأمر الثالث وهو الأكثر تفاؤلاً، تقدم الحوار بين ماكرون والمتظاهرين لإيجاد مخارج جدية تعيد الإستقرار إلى الساحات الفرنسية. فالحلول الجزئية كالتي أطلقها ماكرون، مثل التحفيز للحصول على أجر اضافي مشروط، لن يغير الواقع بقدر ما يخدر المطالبين بزيادة الأجور والتقديمات. أما استقالة الرئيس ماكرون فإنها مسألة مرهونة بحجم الإستجابة الشعبية ليس فقط لحراك “السترات الصفراء”، بل لحراك أكثر تعبيراً عن الشعب ومصالحه في مواجهة ترددات العولمة السلبية التي أوصلت ماكرون وأنهت تاريخ العراقة الفرنسية في السياسة التقليدية.

ثلاثة أشهر والمشهد مرتبك داخلياً وعدوى الإنتقال إلى دول الجوار تطرح نفسها بين الحين والآخر. فهل سنشهد تدخلاً أوروبياً لحل الأزمة أم أن تهميش الدور الفرنسي أصبح واقعاً ترغب فيه ألمانيا سعياً للتفرد في قيادة السفينة الأوروبية بين المد الروسي والجزر الأمريكي؟

*أكاديمي لبناني

مصدر الصور: الجزيرة – مونتي كارلو الدولية.