سمر رضوان*

لم تقتصر سيطرة تركيا على ليبيا من الناحية العسكرية فقط، بل تعداها الأمر إلى أن تسارع لحجز مقعد لنفسها من الجانب الإقتصادي، قبيل أي بادرة حل للأزمة الليبية، لا عن الطريق العسكري ولا السياسي، مستغلة حالة الفوضى التي تعاني منها البلاد، لتمرير كل مشاريعها التي تحقق لها المكاسب الإقتصادية جراء تحالفها مع حكومة الوفاق الوطني.

“تدخل مدروس”

لم يمضِ على مناورات “البحر المفتوح”، التي أجرتها القوات التركية في البحر المتوسط الكثيرمن الوقت، لتعلن بعدها ومباشرة عن خطوتها المقبلة في تثبيت موطئ قدم لها من خلال تشبيك التواجد العسكري بتثبيت قواعد بحرية وجوية، إلى جانب إستغلال مذكرتي التفاهم اللتين تم إبرامهما مع حكومة الوفاق أمنياً وبحرياً واللتان يشكلان المدخل الرئيس لولوج أنقرة إلى الإقتصاد الليبي، لا بل الإستحواذ عليه، من منطلق الشرعية الدولية الممنوحة لحكومة الوفاق، برئاسة السيد فايز السراج، وبذلك تكون قد ضمنت أن المجتمع الدولي لن يعارض تدخلاتها في أي جانب كان طالما أن تحالفها هو مع حكومة معترف بها دولياً بعكس الحالة السورية، التي صمدت بوجهها أكثر، فلم تستطع إلى اليوم، أن تحقق أي مكسب إقتصادي فيها رغم سيطرتها على مناطق لا بأس بها في الشمال والشمال الشرقي.

الملفت بتركيا أنها لا تنكر أطماعها في البلاد التي تتدخل فيها، وهذا ما أشرنا إليه في تقرير بعنوان “البحر المفتوح”: تدريبات عسكرية على السيطرة الإقليمية، لكن السيطرة المقصودة هنا لها شقين؛ الشق الأول سياسي، أما الشق الثاني فهو عسكري، لتتوالى الأحداث في زمنٍ قياسي ويتم الكشف عن الأطماع الإقتصادية الأخرى بعيداً عن موارد الطاقة والتنقيب، التي تم الحديث عنها سابقاً.

إعمار المدمر

ذكر مسؤول تركي، وصف بالرفيع، أن حكومة بلاده على إستعداد للبدء بإعادة إعمار ليبيا بخطى سريعة، على حد تعبيره، بعد أن زار كبار مساعدي الرئيس، رجب طيب أردوغان، طرابلس الغرب هذا الأسبوع لمناقشة “سبل التعاون” في مجالات الطاقة والبناء والأعمال المصرفية، الأمر الذي يجب التوقف عنده، خاصة وأن الآلة العسكرية ورحى المعارك في ليبيا لم تتوقف ليكون هناك إمكانية لإعادة الإعمار في وقت يتوقع فيه زيادة الدمار أكثر بسبب عمليات القصف المتبادل، وهو ما يترك علامات إستفهام كثيرة حول إستعجال أنقرة لتلك الخطوات، خاصة بعد اجتماع وزيري المالية والخارجية التركيين بحكومة الوفاق لتثبيت هذه النقاط، ما يعني التنفيذ بدأ فعلاً، ولن تنتظر تركيا إنتهاء المعارك لتقطف ثمار تحالفها مع حكومة السراج.

نتيجة لهذا الإجتماع، كشفت أنقرة عن تسخير كل الموارد الليبية في الإستثمارات ودون تخصيص الطاقة أو الإعمار والمصارف فقط، بل ستشمل كل الجوانب التي تستطيع أنقرة تقديمها والإستفادة منها.

بدء القطاف

إن رغبة تركيا في إستغلال دمار تركيا أصبح واضحاً، فلقد بلغ حجم الإستثمار المعلن، حتى تاريخه، حدود الـ 16 مليار دولار في مشاريع قد بدأت بالفعل، أما قيمة المشاريع “قيد الإنتظار” فتقدر بكلفته ما بين الـ 400 والـ 500 مليون دولار، إذ يأتي ذلك تحت ذريعة الحاجة الماسة لتأهيل البنى التحتية في ليبيا، بحسب الزعم التركي.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، من المتوقع أن تقوم شركة الكهرباء التركية “كاردينيز باور” بإرسال سفنها لمد ليبيا بالكهرباء والتخفيف من حدة إنقطاع التيار، وهو ما يعد باباً لإستثمار ستنعش خزينة الدولة التركية من جيوب الشعب الليبي، لكن الأمر الأمر لم يتوقف هنا، بل ستقوم أنقرة أيضاً بإرسال مستشارين لها من أجل المساعدة في إعادة بناء المنظومة المصرفية الليبية، الأمر الذي يعني “إطباق” تركيا على ليبيا من جميع الجوانب، إذ أن ربط المنظومة المصرفية الداخلية بمثيلاتها التركية، سيضع البنوك الليبية تحت أعينها بشكل مباشر، ولن تكون بحاجة إلى المراقبة عن قرب؛ وبذلك، لم تترك ثغرة واحدة يستطيع فيها أحد منافستها على أي قطاع في ليبيا.

من هنا، يبدو بأن تركيا قد أمنت كل الإستثمارات ذات الفائدة العالية لها، فمن جانب إن إعادة الإعمار ستكون بأيادٍ تركية ما يعني إستقدام شركاتها للعمل فيها، مروراً بإنارة ليبيا من خلال سفن الكهرباء التركية، وصولاً إلى ربط المنظومة المصرفية، ناهيك عن التوسع العسكري، كما أشرنا أعلاه، عبر تثبيت قواعد عسكرية، وربما زيادة في التعاون مستقبلاً ضمن هذا النطاق بحسب ما تقتضي المصلحة التركية.

سُبات دولي

مع تجديد القوات الأمريكية العاملة في أفريقيا – أفريكوم إتهام روسيا بإرسال طائرات إلى قوات شرق ليبيا عبر نشر صور جوية، ومع إنكشاف نوايا تركيا في ليبيا من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية، كل ذلك يؤكد أن القوى العظمى المنخرطة في الملف الليبي لا تريد حسمه سواء كان لصالح حكومة الوفاق أو قوات المشير خليفة حفتر، بل على العكس، إن من مصلحة الضالعين الإقليميين والدوليين إطالة أمد الأزمة للإستفادة بشكل مباشر، ولا لمنفعة ليبيا وتحقيق الإستقرار فيها.

إذ أن التمدد التركي على محاور عدة مترامية الأطراف جغرافياً وفي وقت واحد، يبين مدى قدرة أنقرة من جميع النواحي على القيام بهذا الأمر؛ فهي من جانب أول دولة عضو في حلف شمال الأطلسي – الناتو، ومن جانب ثانٍ حليف متين للولايات المتحدة، ومن جانب ثالث، شريك جيد لكل من روسيا وإيران، ومن جانب رابع وأخير تربطها علاقة هادئة نسبياً مع دول الإتحاد الأوروبي. كل ذلك، مهد لها القيام بدور يفوق حجمها، متسلحة بضوء أخضر أمريكي، خفي، حصراً لتذليل كل العقبات أمامها. وهذا الدعم الأمريكي اللامحدود لأنقرة، سيقابله ثمن بالتأكيد وسيستمر طالما هناك تلاقي في المصالح، وهذه هي الحقيقة الأكيدة الثابتة.

وما يبدو جلياً اليوم أن الولايات المتحدة تقوم بتوزيع الأدوار بين شركائها. فبعد أن فشل الإستعمار “الغربي” المباشر، بدأت بإستخدام أدوات محلية تجعلها أقرب إلى الكثير من سكان المنطقة، خصوصاً إذا ما ربطنا ذلك بعنصر الدين. فعلى سبيل المثال، عند إبتكار تنظيم “القاعدة”، في الثمانينيات، و”داعش” و”النصرة” وغيرها من التنظيمات الإسلامية الحديثة، رأينا كيف أن العديد من الناس تعاطفت معهم على أساس ديني. فالكثير منهم قاموا بمساعدتهم على مختلف الصعد بسبب هذا الرابط الديني، فبتنا نجد أن هناك كثيرون يعيشون بيننا يناصرون تلك التنظيمات الإرهابية بل وتتعاطف معها.

بعد فشل هذا الوجه، تم تفعيل الوجه المقابل أي “الإخوان المسلمين”، التي تعتبر تركيا أحد أكبر الداعمين لهم. بالتالي، بقي المشروع هو نفسه ولكن بوجه جديد قد يكون أكثر قبولاً من سابقه، الذي قد يعاد العمل به عند الضرورة.

أخيراً، على ليبيا السلام ولشعبها خالص العزاء إن لم تبدأ بتشكيل خط دفاعي عربي مقاوم يتصدى لهذا الإستعمار بكافة أشكاله. ومع مبادرة مصر لعقد إجتماع طارئ في الجامعة العربية لبحث الملف الليبي، هناك بصيص من الأمل فقد يكون الخطوة الأولى في أن يتجه العرب نحو مساعدة ليبيا وإنقاذها من الطامعين بها. أما البديل فسيكون حقبة حديثة من الإستعمار، لكن الفارق أن عمر المختار غير موجود كي يقف في وجه الغزاة.

*المدير التنفيذي في مركز سيتا

مصدر الصور: موقع أخبار عربية – قناة 218.

موضوع ذا صلة: المشهد الليبي.. نحو الحل أم التأزم؟!