إبراهيم ناصر*
منذ التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2018، تعيش الساحة السودانية حراكاً شعبياً متعدد الدوافع، إذ يعزوها البعض إلى أسباب إقتصادية، وآخر إلى بواعث سياسية، والتطورات التي جرت مؤخراً هي بمثابة نتاج هذا الحراك، حيث أُجبر النظام السوداني إلى إجراء تغيرات جذرية بداخلية، أنهى بموجبها الرئيس عمر البشير مهام الحكومة المركزية والولائية، وشكل حكومة وصفها بــ “حكومة كفاءات”، مع تغليب الطابع العسكري عليها.
ان إعلان الرئيس البشير لحالة الطورائ في البلاد وتخليهِ عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني، إعتبرها البعض خطوة يهدف منها البشير إحتواء الحراك الشعبي المهدد لمستقبلهِ السياسي. لكن وبحسب ما تتناقلهُ بعض الأوساط، فإن خلافاَ بين تيارات الحزب الحاكم، في قضية ترشيح البشير في الإنتخابات القادمة، دفعته الى القيام بهذه الإجراءات.
إضافة إلى ذلك، يبدو أن بعضاً من أعضاء حزب “المؤتمر الوطني” متشائم بمستقبل حزبهِ، بعد تخلي البشير عن الرئاسة، متوقعاً نشوب “أزمة زعامة” فيه، في حين كان البعض متفائلاً بخطوة تخلي البشير عن رئاسة الحزب لأنه يرى أن الحزب سيستطيع إنتاج نفسه مجدداً وفقاً لمتغيرات العصر، ويُهيئ قواعده لمرحلة سياسية جديدة في السودان.
لكن التطورات التي أعقبت خطاب الرئيس البشير الأخير، منها تمكن المؤسسة العسكرية من حكم البلاد وتعين أحمد هارون نائباً له في الحزب، وفاعلاً بصلاحياته، والذي يعتبر شخصاً ليس محل إجماع بين كوادر الحزب، ما يدفعنا للتنبئ بخلافات تُنتج عنها تشققات داخل الحزب الحاكم، وهذا ما يُعد خدمةً يقدمها البشير لأطراف المعارضة، المناهضة للمشروع الإسلامي في البلاد.
إنطلاقاً من هنا، يمكننا القول بأن الرئيس البشير يستهدف بالإجراءات التي إتخذها تيار الإسلام السياسي، وفي قائمة أقوى أحزابه، أي حزب المؤتمر الوطني، وهي غاية تصبوا لها أيضاً قوى خارجية، كمصر، والإمارات والسعودية. كما يمكن أيضاً إعتبارها ايضاً خطوة نحو “الهبوط الناعم”، فمن خلال تمكين الجيش يسعى البشير لقطع الطريق أمام بعض الطامحين من القيادات الإسلامية والأمنية.
ويعد القبول الخجول لقيادات حزب المؤتمر الوطني بإجراءات البشير، يمكن إستقراؤها في سياق تفادي الصدام معه ومع مساندية من القوى السياسية والعسكرية والقبلية، أما عن كيانات المعارضة في الداخل والخارج على وجه التحديد، فقد بدأت بالفعل تمتطي الحراك الشعبي والإستفادة من حالة النفور الشعبي من الحزب الحاكم. لا بل أكثر من ذلك اذ بدأت تضع خطط لإجتثاث “نظام الإنقاذ”، مصطحبةً معها تجارب حصلت في محيطنا العربي والإفريقي، مثل تجربة إجتثاث “نظام البعث” بالعراق، والتجربة التونسية بشأن قانون العزل السياسي “أي قانون تحصين الثورة”، وتجربة “الحقيقة والمصالحة” في جنوب أفريقيا.
إلى ذلك، يلاحظ بأن المعارضة بالخارج، المتمركزة بلندن على وجه الخصوص، معجبة بالتجربة التونسية في عزل كوادر نظام الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، في ممارسات السياسية، وتسلم مهام تنفيذية وتشريعية في البلاد، وتريد تطبيقها في عملية إجتثاث نظام الإنقاذ “قبل سقوطه”.
فمن خلال الإطلاع على التوصيات التي خرجت بها من ورش عملها التي نظمتها مؤخراً، يمكننا أن نصل إلى قناعة تؤكد لنا جهل معارضة بديناميات السياسة الداخلية للسودان، وأنها لا تحيط علماً بمسببات نجاح التجربة التونسية في إحداث التغيير السلس دون إنهيار الدولة، والتي برأي تتمثل في وجود شخصيات، كالزعيم الإسلامي راشد الغنوشي الذي تنازل من أجل الحفاظ على البلد من الإنهيار، فضلاً عن أن إسلاميي تونس لم يتشبثوا قط بتشكيل تنظيم سري او كيان موازي للتغول داخل مؤسسات الدولة. بالمقابل، يعرف أن الحركة الإسلامية قامت بتأسيس دولة داخل الدولة، وتغولت على مؤسسات من خلال إتباع سياسة “التمكين”، وكل ذلك يشكل عقبة في وجه مهمة التغير السلس داخل السودان. لذا على المعارضة أن تعلم بأنه من الصعب جداً إجتثاث “نظام الإنقاذ” دون حدوث تأثيرات جانبية على كيان الدولة.
وفي الوقت عينه، على المعارضة أن تعي جيداً بمواقف القوى الخارجية التي لا تريد تبديل النظام بنظام ديمقراطي ينتج عن ثورة شعبية لأنه يُتخيل لها بأنه في حال قيام نموذج ديمقراطي بالسودان، ربما يُلهم شعوبها للتحرك ضد أنظمتها، وهذا ما لن تقبل به البتة. وبالتالي، يتوجب على معارضة الخارج والداخل فهم ديناميات السياسية الداخلية للسودان ومعرفة تخوفات الدول الإقليمية والدولية من أي تغيير يحصل بالبلاد، كي تُجنبها مآلات لا تُحمد عقباها، وأن تواصل بمطالبات التغيير على نارٍ هادئة دون الإضرار بأمن وسلامة السودان.
*متخصص في الشؤون الإفريقية وباحث في مركز أنقرة لدراسة الأزمات والسياسات – “أنكاسام”
مصدر الصورة: بي.بي.سي.