السفير د. عبدالله الأشعل*

إن تحليل بنود “صفقة القرن”، يكشف حقيقة مؤكدة وهي أن الصفقة لا تقدم دولة حقيقية وإنما هي تسوية شكلية مؤقتة وجولة شبه أخيرة قبل الإستيلاء على كل فلسطين، كما أنها إختبار للأرضية التي تنزل عليها الصفقة. ولكن الصفقة تطبق بهدوء بتوزيع للأدوار؛ ولذلك، فإن الإعلان عنها أضرها لأنه لفت النظر إليها، غير أن الإصرار على تنفيذها واضح بصبر كبير.

لكن الملاحظ هنا، أن الصفقة وصف لخطة تسمى “خطة السلام الأمريكي – الإسرائيلى للشرق الأوسط”، وكلمة السلام تغري وتخفي في نفس الوقت حقيقة المفهوم. لقد كان واضحاً طوال العقود الستة الأخيرة أن السلام الذي يريده العرب هو المعنى العادي للسلام الذي يعيد لكل ذي حق حقه، وكانت تلك “نظرة رومانسية” للمقهوم، فيما إحتفظت إسرائيل بمعنى آخر وهو “السلام الإسرائيلي” الذي يعني خلق الفرص والمحطات اللازمة لتنفيذ المشروع الصهيوني.

لقد كانت إسرائيل تتمسك بمبدأ “التفريد” مع الدول العربية، كعزل مصر عن محيطها العربي، والمفاوضات المباشرة مع كل طرف حتى يكون ثقلها، ومعها الولايات المتحدة، أكبر بكثير من ثقل أي طرف عربي. ولهذا، أعلنت واشنطن “خرافة” أن العرب كتلة موحدة وقوة واحدة، ويجب أن تكون قوة إسرائيل أكبر من قوة العرب مجتمعين. كما روجت إسرائيل لخرافة أخرى وهي أن مصر تنادي بالوحدة العربية لمجرد محاربتها، ولذلك كان ضرورياً عزلها عن العرب من خلال إتفاقية “كامب ديفيد” ضماناً للسلام الإسرائيلي.

وبعد أن عقدت مصر وإسرائيل صفقة السلام العام 1979، حاول الرئيس الراحل، أنور السادات، التقرب إلى الغرب بأشاعة مصطلح “ثقافة السلام”، وقد اعترف الرئيس الفلسطيني، محمود عباس – أبو مازن خلال كلمته أمام الجامعة العربية في 1 فبراير/شباط 2020، بأنه هو الآخر اشترك في إشاعة هذه الثقافة وبلغ حداً مذهلاً وهو القبول بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، والطبيعي أن هذا المنظور سيطرت عليه النظرة الضيقة للمقاومة الفلسطينية وهناك الكثير مما تردد كلما ثار الحديث عن المصالحة والمقاومة والمفاوضات.

لقد تدرجت إسرائيل في استخدام مسألة السلام والمفاوضات بحيث إنتهت إلى أن لها وظيفة واحدة وهي الإتفاق على تسليم فلسطين لإسرائيل، ولذلك رفض الرئيس أبو مازن أن يختتم حياته بتولي هذه المهمة، حيث سرد مراحل المفاوضات مع إسرائيل لكنه لم يصرح أنه كان قد أدرك بأن “المفاوضات هي من أجل المفاوضات” أحياناً، كما أنها أسلوب تحقيق أهداف المشروع الصهيوني، تماماً كما تفعل أثيوبيا مع مصر لمسألة “سد النهضة”.

لكن اعتراف الرئيس أبو مازن هذا جاء متأخراً جداً لأن مسألة التفاوض كانت إحدى نقاط الخلاف بين كل من حركتي فتح وحماس ذلك أن الرئيس أبا مازن قد تمسك بالمفاوضات على أنها طريقة سلمية ومضادة للمقاومة المسلحة، التي كان يعتبرها “إرهاباً” له ولإسرائيل، علماً بأن جميع المنازعات يتم تسويتها بالتفاوض. وفي حالة فلسطين، كان يمكن الجمع بين المفاوضات والمقاومة على أساس أن يستفيد المفاوض من ورقة المقاومة، على غرار ما حدث في فيتنام عندما كان المقاتلون يسندون المفاوض الفيتنامي في المحادثات السرية التي جرت بباريس مع مستشار الأمن القومي الأمريكي هنري كسنجر والتي استمرت خمسة أعوام.

إن مفهوم السلام عند إسرائيل هو كلمة “pax” وتعنى الهيمنة الإسرائيلية ولا علاقة لها بكلمة السلام في اللغة وهو “peace”. لذلك، ظلت المفاوضات بين “طرشان” طوال هذه المدة، وكان طبيعياً أن تقوم إسرائيل بتوظيفها والمبالغة في استخدام كلمة السلام ذات، المعنى الخاص؛ أما الحقيقة أنها قامت بإستخدام هذه الكلمة من أجل “دغدغة” مشاعر العرب والفلسطينيين وخلق آمال زائفة عندهم.

هذا الطرح، أنهى فعلياً ما سمي بـ “مبادرة السلام العربية”، التي طرحت في إجتماع رؤساء دول الجامعة العربية في بيروت العام 2002؛ أضف إلى ذلك بأن موافقة السعودية على الصفقة تعني أحد أمرين؛ الأمر الأول، أنها غيرت نظرتها إلى المشروع الصهيوني وقررت دعمه. والأمر الثاني، أنها كانت تقدم بالمبادرة لـ “تخدير” الفلسطينيين خاصة وأنها طرحت في وقت كان فيه الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، محاصراً في رام الله وكان ممنوعاً من المشاركة في أعمال القمة.

ومن الجدير ذكره هنا أيضاً بأنه وخلال القمة، قُدم إقتراح بإسقاط حق العودة تسهيلاً لقبول المبادرة من جانب إسرائيل وتحفيزاً لها، لكن الرئيس اللبناني الأسبق، إميل لحود، رفضه. وفي تصريحات سابقة له على شاشة قناة “الجزيرة” قال إنه أبى أن يقدم هذا الإقتراح ويجاز في لبنان إبعاداً له عن الشبهة وضنا عليه بأن يسقط فى بئر الخيانة. وإذا كان العاهل السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، هو الذي قدم المبادرة، فإن الملك فهد بن عبد العزيز، عندما كان لا يزال أميراً، هو من قدم المبادرة السعودية إلى القمة العربية في الرباط، التي شهدت أولى ثمار التدهور العربي بعد “كامب ديفيد” في سبتمبر/أيلول من العام 1981. لذلك، إن هذه المبادرات السعودية تؤرخ لمرحلة ما بعد “كامب دايفيد”، وأنها مهدت الطريق لـ “صفقة القرن”.

هكذا إستخدم مصطلح السلام لكي يغطي على جريمة كل القرون، وهي إنشاء “شرق أوسط جديد” وإنهاء الطابع العربي معه مصطلح “العالم العربي”، وأن يكون الشرق الأوسط الجديد بلا فلسطين. من هنا نقول، إن تطور الموقف العربي والحالة العربية تحتاج إلى رصد دقيق وتحليل أمين طوال العقود الخمسة الماضية؛ وظني المبدئي هو أن العرب هم الذين أضاعوا فلسطين، وهم المسؤولون عن المأساة منذ بدايتها وبشكل أخص الدكتاتورية العربية والنظم الأُسرية العربية، بصرف النظر عن الأقوال والتصريحات التي كانت تهدف إلى تخدير الشعوب العربية أو تعبر عن سذاجة قائليها.

أخيراً، إن مصطلح السلام في القضية الفلسطينية مشكوك فيه ويثير الريبة، وهو “ستار” لرحلة إبادة الشعب الفلسطيني، فلقد فقدت الكلمة نبل معناها كما فقدت كما الحال في مصطلحات كثيرة، مثل الديمقراطية وغيرها، معانيها الحقيقية. هنا يجدر القول بأنه كلما أسرفت إسرائيل في ترديد مصطلح السلام، كانت أكثر قرباً من تحقيق سلامها الذي تريده على جثة الشعب الفلسطيني، ومن نافلة القول إن “صفقة القرن” ستؤدي إلى قيام “إسرائيل الكبرى” وبداية النهاية بالنسبة للوجود المصري، وبذلك يجب أن تراجع القيادة المصرية بجميع مكوناتها، التنفيذية والتشريعية والسياسية والعسكرية، موقفها من هذه الصفقة حتى لا تقف أمام التاريخ وقد أسهمت في تصدعها وتصدع المنطقة العربية.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: مونتي كارلو – الجزيرة.

موضوع ذا صلةزكي: “صفقة القرن”.. الطلقة الأخيرة في جعبة الرئيس ترامب