أمجد إسماعيل الآغا*
وسط مستنقع الشرق الأوسط الجيو – سياسي، يبدو أن واشنطن لم تُدرك بعد طبيعة المسارات المستجدة التي فرضتها قوى المقاومة في المنطقة، ولا تزال تحاول إعادة رسم المشهدين السياسي والعسكري في الشرق الأوسط انطلاقاً من أدبيات السياسة الأمريكية المعتمدة على نظريات التوسع والنفوذ العسكري وفرض الوقائع.
لكن ورغم التدخل الأمريكي المباشر في حروب الشرق الأوسط واستثمار الإرهاب بغية تطويع العديد من الملفات الإقليمية والدولية، لم تنجح واشنطن في امتحان السيطرة وتبديل الصورة النمطية التي طالما سعت إلى تسويق شعارات الحقوق والحريات والديمقراطية. فالفشل الذي منيت به على الصعيدين السياسي والعسكري وخسارة أوراقها ونقاط قوتها في العديد من الملفات، وضعها في زاوية العجز عن حسم أية معركة لمصلحتها في الشرق الأوسط، وقد ظهر ذلك جلياً في سوريا بالتحديد.
لقد أدركت الإدارة الأمريكية أن تواجدها في سوريا غير شرعي، وباتت غير قادرة على العبث بالجغرافية السورية إلا عبر ممارسة الضغط السياسي. هذا الأمر، دفع بها لإحداث شرخ بين التحالفات الجديدة التي برزت في المنطقة وذلك عبر جملة من القرارات “الترامبية” التي تصب مباشرة في بوتقة الهروب إلى الأمام. كل هذا يمكننا ربطه بالداخل الأمريكي والملفات العديدة التي تلاحق الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب. فالدمج بين السياستين الداخلية والخارجية للإدارة، قد يكون كفيلاً بإبعاد شبح الأزمات الداخلية عن الرئيس ترامب وفريق عمله، فضلاً عن تسويق إنجازات خارجية بدأت بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، مروراً بالنصر المسرحي على تنظيم “داعش”، وصولا إلى إعلان الرئيس ترامب الإعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السوري المحتل.
في المقاربة المتعلقة بتوقيت إعلان ترامب الإعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، من الضروري رؤية الأشياء من وجهة نظره حيث أن الرجل يدرك أنه يسير بإدارته على حافة الهاوية، ولا بد من قرارات تعيد بوصلة القيادة إلى وجهتها الصحيحة بالإعتماد على الدولة العميقة في الولايات المتحدة، يضاف إلى ذلك تنفيذ الأوامر التي يهندسها اللوبي الصهيوني.
فبعد تصدع صورة الولايات المتحدة في المنطقة وخسارتها السياسية والعسكرية في سوريا، وبروز قطب روسي مواز في القوة والتأثير، لا بد من إعادة صوغ المشهد بطريقة بعيدة عن القرارات الدولية أو مواثيق الأمم المتحدة بهدف احداث صدمة سياسية دولية يبنى عليها في الداخل الأمريكي في صورة تعكس تهور الإدارة وتجاوزها للأعراف الدبلوماسية، الأمر الذي سيكون له تداعيات كبرى بالنسبة إلى كيفية التعامل مع الأراضي المتنازع عليها في مختلف أصقاع العالم.
وعلى الرغم من إعلان الرئيس ترامب و تداعياته، لا يمكن الإستخفاف بهذا الإعلان ولا التهاون معه حتى وإن لم يتبعها تشريع في الكونغرس الأمريكي يؤكد قرار الرئيس ترامب. ولعل الرفض الدولي والإقليمي لهذا القرار يعكس خطورته وتداعياته على المنظومة الدولية ككل، خاصة في ظل التجاذبات والمصالح الدولية المختلفة لا سيما أنه يناقض قواعد القانون الدولي والقرارات الدولية المختلفة بهذا الخصوص، وأهمها القرارين 242 بشأن الإنسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة، و479 الذي اعتبر إقرار حكومة الإحتلال العام 1981 تطبيق القانون الإسرائيلي على هضبة الجولان قراراً لاغياً وغير شرعي.
لكن هذه الخطوة، ستعيد العالم إلى فترة ما قبل معاهدة وستفاليا لسنة 1648، عندما كان الملوك والأباطرة يستولون على الأراضي بحد السيف، في مشهد يعكس التحركات الأمريكية ومعها الإسرائيلية. فقد سبق لمستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، أن قال في العام 2018 “إن إدارة بلاده لم تناقش ما يتعلق بالإعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان”، لكن السفير الأميركي لدى تل أبيب، ديفيد فريدمان، قال في نفس العام “إنه شخصياً لا يمكن له أن يتخيل ظرفاً لا تكون فيه مرتفعات الجولان جزء من إسرائيل إلى الأبد”.
وخلال الزيارة التي قام بها عضو مجلس الشيوخ الأمريكي المعروف بتأييده المطلق لإسرائيل، ليندسي غراهام، إلى مرتفعات الجولان، في 11 مارس/آذار 2019، برفقة سفير بلاده ورئيس الوزراء الإسرائيل قال “لا أستطيع أن أتصور أية فكرة الآن، أو في أي وقت في المستقبل بأن تتخلى دولة إسرائيل عن الجولان”. كما تعهد غراهام بالعمل من خلال مجلس الشيوخ مع زميله السيناتور، تيد كروز، لبدء حراك يسعى للاعتراف بسيادة إسرائيل الأبدية على هذه المرتفعات. وقبل أيام، عرض السيناتوران الجمهوريان، تيد كروز وتوم كوتون، مشروع قانون ينص على إلزام الإدارة الأميركية بالإعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان. وفي 14 مارس/آذار الحالي (2019)، قال داني دانون، مندوب إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة “إن الظروف أصبحت مواتية لبقاء مرتفعات الجولان تحت السيادة الإسرائيلية والإعتراف الدولي بذلك”. وفي تصريحات منفصلة ذات صلة، تحدث دانون عن أن هناك “توجهاً إيجابياً في موقف الإدارة الأميركية بشأن هذه المسألة” وهو ما حصل فعلاً مع توقيع الرئيس ترامب على قراره، في 25 مارس/آذار 2019.
إن التصعيد الأمريكي والإسرائيلي في الملفات ذات الحساسية العالية في الشرق الأوسط، سيدخل المنطقة في تعقيدات جديدة، فضلاً عن أن سوريا ومحورها المقاوم سيكون لهم رأي آخر بعد قرار الرئيس ترامب، إذ أنه سيشكل نقطة فارقة في طبيعة الصراع السوري – الإسرائيلي.
فبعد أن تمكنت واشنطن وعبر أدواتها الخليجية من إبعاد الصراع العربي – الإسرائيلي عن دائرة النقاش والتداول، وبعد أن تم اختراق العديد من الأنظمة العربية وباتت ذات هوى إسرائيلي، فلقد بات من الواضح أن سوريا، وبعد انتصارها، تشكل ثقلاً استراتيجياً تنطلق منه مفاتيح خارطة الشرق الأوسط الجديد، بعد أن دفنت الخطط الأمريكية – الإسرائيلية في الجغرافية السورية. إن الفشل الأمريكي في إعادة هيكلة الشرق الأوسط يحتم على واشنطن وإدارتها إحداث تعقيدات جديدة من شأنها خلط الأوراق وإعادة تشكيلها بما يتناسب مع الهدفين الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة، خاصة أن المشهد الذي جمع قادة أركان جيوش سوريا والعراق وإيران في دمشق لم يغب عن مخيلة الرئيس ترامب ورئيس وزراء كيان العدو، بنيامين نتنياهو، اللذان يدركان أن هذا الإجتماع سيمهد لما فيه بواعث قلق جديدة تصيب كلاً من واشنطن وتل أبيب على السواء.
إن الدول الثلاث عازمة على التحرك في أي اتجاه تقتضيه مصلحة محور المقاومة، خاصة أن القضاء على تنظيم “داعش” لا يعني انتهاء الإرهاب خصوصاً مع وجود واشنطن وإسرائيل في المنطقة، حيث لم يعد بإمكان رعاة الإرهاب التحايل على القرار الذي تم اتخاذه في دمشق والقاضي بالقضاء على الإرهاب، والوقوف جنباً إلى جنب ضد أي عدوان أمريكي أو إسرائيلي قد يطال دمشق أو طهران أو بغداد. هذه المعطيات، تشكل عامل ضغط على واشنطن وتل أبيب. لذلك، لا ضير من محاولة إلهاء لهذا المحور ريثما يتم إعادة ترتيب المشهد وفق مقتضيات ظرفية، فالمؤكد أن واشنطن وتل أبيب “ترقصان على حافة الهاوية”، وأية خطوة في الإتجاه الخاطئ ستؤدي حتماً إلى السقوط في نيران محور المقاومة.
*كاتب وإعلامي سوري
مصدرالصورة: شبكة رصد الإخبارية – وكالة القدس للأنباء.