رياض عيد*
تأتي زيارة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى المنطقة في ظل مشهد إقليمي بات أكثر تعقيداً مع اشتداد المواجهة الأميركية – الإيرانية خصوصاً بعد تراجع النفوذ الأميركي في المشرق لصالح إيران ومحور المقاومة، إن في العراق (بعد نتائج الإنتخابات الأخيرة التي أتت مغايرة لرغبة حلفاء أميركا والتي سيكون وجودها مطروحاً للتصويت عليه في جلسة المجلس النيابي العراقي المقبلة مما ينزع عنها التغطية العراقية الشرعية ويحولها كما هي إلى قوة احتلال) أو في سوريا (بعد الإنتصارات التي حققها الجيش ومحور المقاومة بالتنسيق مع روسيا والتفرغ لملفي شرق الفرات والإحتلال الأميركي له إضافة إلى إدلب التي وضع ملفها على نار حامية بين روسيا وتركيا بعد أن ضاق هامش المناورة أمام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان)، أو في لبنان (بعد تشكيل الحكومة ورجحان كفة حلفاء المقاومة على فريق “14 آذار” حلفاء أميركا والعديد من دول الخليج وفتح ملفات الفساد والهدر التي تطال “الحريرية السياسية” ودورها في إغراق لبنان بمديونية وعجز مالي لمؤتمرات كـ “باريس” و”سيدر” والبنك الدولي للضغط عليه لتوطين الفلسطينين والسوريين والضغط على المقاومة وإرباكها) أو في فلسطين وتحديداً غزة (التي أثبتت الصواريخ “مجهولة التبني” والتي طالت تل أبيب فشل القبة الحديدية والردع الإسرائيلي والتي باتت تهدد بتفجير شامل بين حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” – التي تدعمهما إيران- والكيان الاسرائيلي الغاصب مما يقوض نجاح رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو في الإنتخابات المقبلة و”صفقة القرن”).
إن الغاية من زيارة الوزير بومبيو كما يمكن تحديدها يكمن في: وضع الخطط العملية لأهداف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بتنفيذ خطة متدرجة لتطويق إيران والتضييق عليها وعلى حلفائها بشتى أنواع العقوبات المالية والأمنية عقب التمدد الذي حققته في المنطقة في مرحلة التفاوض على الإتفاق النووي بين طهران وإدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، وبعدها. فهل حققت زيارة بومبيو أهدافها؟
من الكويت، أكد الوزير بومبيوعلى ضرورة تشكيل “تحالف إستراتيجي” لدول الشرق الأوسط أي ما بات يعرف بـ “الناتو العربي”، معتبراً أن الجميع يواجهون “نفس التهديدات”، وفي طليعتها تهديد “الجمهورية الإسلامية” في إيران مؤكداً على جدية بلاده في التصدي لـ “الغطرسة الإيرانية”. وشرط نجاح هذه الخطوة هو إعادة الوئام إلى العلاقات الخليجية وطي صفحة الخلافات فيما بينها، لا سيما منها الخلاف بين السعودية والإمارات مع قطر، وهو ما تسعى إليه الدبلوماسية الكويتية ويلقى تشجيعاً لافتاً من واشنطن. كما ركز بومبيو أيضاً على ضرورة العمل على إنهاء الصراع في اليمن من أجل التفرغ لمواجهة المخاطر المشتركة المتمثلة بـ “التمدد الإيراني” الإقليمي على الصعيدين السياسي، من خلال دول وقوى مؤيدة لها، والأمني، عبر ميليشيات ممولة ومسلحة من جانب طهران. كذلك، عبر تهديدها الصاروخي الذي يطال العديد من عواصم المنطقة.
في النتيجة، لم يرشح شيء عن زيارة بومبيو للكويت إلا رسائله التهديدية لإيران التي لا تلقى صدى عملي لواقع التوازن المفقود لمصلحة إيران مع دول الخليج.
أما في إسرائيل، فلقد أعطى بومبيو، بشكل غير مباشر، دعماً معنوياً كبيراً لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، عشية الإنتخابات الإسرائيلية، في 9 أبريل/نيسان المقبل (2019)، حيث لم يتردد الوزير الأميركي بتأكيد إلتزام بلاده الكامل بأمن إسرائيل ودعمها في مواجهة ما وصفه بـ “العدوان الإيراني”، والعمل على ضرورة وقف ما أسماه “عملية التدمير الإقليمي” التي ترتكبها إيران في المنطقة.
إضافة إلى ذلك، حضر بومبيو الإجتماع الرباعي المشترك في تل أبيب مع رؤساء وزراء إسرائيل وقبرص واليونان، حيث ناقش مستقبل مشروع خط غاز من إسرائيل إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، إذ اتفق الحضور على تولى بومبيو مهمة مطالبة لبنان بالموافقة على “خط هوف”، الذي بحسب التقسيم الجغرافي يعطي لبنان نسبة 60% وإسرائيل 40% اي 360 كيلومتراً مربعاً من أصل 860 كيلومتراً يعتبرها لبنان بكاملها ضمن مياهه الإقليمية من البلوك رقم 9 المتنازع عليه بين الدولتين، وذلك لتمكين الكيان الإسرائيلي من استغلال الثروة النفطية الموجودة في تلك المنطقة.
أثارت هذه القمة الرباعية حفيظة تركيا لا سيما بعد ما رشح عنها من نية في استبدال اليونان بتركيا في تسويق الغاز الإسرائيلي، عبر خطة تهدف الى مد خط أنبوب للغاز من إسرائيل، مروراً بقبرص واليونان وصولاً إلى أوروبا عبر إيطاليا. وما حضور رأس الدبلوماسية الأميركية لهذه القمة إلا مؤشر واضح على مدى التوتر الذي بلغته العلاقات بين كل من أنقرة وواشنطن
فبعد أن سقط التقارب مع تركيا، دخلت اليونان من الباب العريض إلى محور استراتيجي ترعاه الولايات المتحدة، وتعمقت علاقاتها مع إسرائيل لدرجة قد تتحول معها إلى البديل من تركيا في كل ما يتعلق بالتنسيق الإستراتيجي الأمني في منطقة شرق البحر المتوسط وشماله، حيث تم فعلياً نصب كثير من أجهزة الرادار الإسرائيلية في جزيرة كريت اليونانية.
هذه الأمور مجتمعة تعني أن إسرائيل، بموافقة بومبيو، قد دفنت حل الدولتين، وتشرعنت – أقله أميركياً – احتلالاتها لأراضٍ كسبتها في حروبها مع الفلسطينيين والعرب، في سعي إلى توسيع هامش تحركها العسكري في سماء سوريا وأرضها تعويضاً عن الإنسحاب الأميركي منها ما سينعكس سلباً على العلاقات الروسية – الإسرائيلية والتي يتوقع أن تأخذ منحى أكثر انحيازاً لجهة ترسيخ تحالفها مع الوجود الإيراني في سوريا والعراق، وتعزيز موقعها في فرض رؤيتها على تركيا واحتوائها بعد تقلص هامش المناورة أمام الرئيس اردوغان في مناطق النزاع كإدلب والشمال السوري.
أما في بيروت، فبالرغم تصريح بومبيو قبل زيارته للبنان “إن الغاية من زيارته هي بقصد خلق آليات تعاون تنفيذية ضد محور المقاومة ومحاصرة حزب الله وضربه ورغم تحريضه اللبنانيين ضد حزب الله عبر تصريحاته الفجة والمباشرة ضده، إستُقبل بومبيو في القصر الجمهوري، وفي مقر رئاسة المجلس النيابي، وفي وزارة الخارجية، بموقف موحد عنوانه “حزب الله جزء من نسيج المجتمع اللبناني”، رافضين وصفه بـ “الإرهابي”، ومؤكدين أن الإحتلال الإسرائيلي يمنح شرعية للمقاومة المسلحة، كما منحته نتائج الإنتخابات النيابية شرعية سياسية. أما مواقف بقية الأطراف التي التقاها بومبيو، فلا تعبر عن الموقف الرسمي بل عن الموقف السياسي المعروف لهذا الفريق أو ذاك.
وفي سياق متصل، كشف رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، أن أحد المفاعيل الإيجابية لزيارة بومبيو إلى بيروت هو الدور الأميركي الجديد في ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان وفلسطين المحتلة برعاية الأمم المتحدة، معتبراً هذا الدور أسقط مشروع “خط هوف” الحدودي البحري الذي رفضه لبنان لأنه يحرمه مساحات واسعة لمصلحة الكيان الإسرائيلي.
إضافة إلى ذلك، حاول الطرف اللبناني استدراج الدعم الأميركي في ملف النازحين السوريين، كذلك في تعزيز الأمن وحماية القطاع المصرفي من العقوبات على حزب الله، ملوحاً بـ “جزرة” فتح باب مناقصات استخراج الغاز أمام الشركات الأميركية كدليل على حسن النوايا. في المقابل، أدار بومبيو “الأذن الطرشاء” للطروحات اللبنانية لكنه في الوقت عينه أكد على مواصلة تقديم دعم للجيش اللبناني وقوات الأمن الداخلي. وفي الوقت عينه أوصل رسائل أن أميركا لن تسمح للبنان بالإفادة من مخزون الغاز ما دامت مقاليد السلطة بيد حزب الله، وهي التي تسعى عبر العقوبات التي فرضتها عليه وعلى حليفته إيران، إلى ضرب مصادر تمويله وتجفيفها.
لم يكن للزيارة أي تأثيرعلى الساحة الداخلية اللبنانية لأن الوضع الداخلي ممسوك بقوة، ولم يكن الوزير بومبيو بحاجة ليستمع إلى أصوات من داخل الحكومة وخارجها ترفض هيمنة حزب الله على القرار المركزي، فهو يدرك تماماً أن هذه المعارضة عاجزة عن تبرير مشاركتها في حكومة اعتبرت أنها الحكومة التي كرست غلبة “حزب الله” والإنقلاب الأخير على الكيانية اللبنانية، الذي أعد له بتأنٍ منذ عقود.
إلى ذلك، لم يكن للزيارة أي تأثير على تغيير أجندة رئيس الجمهورية اللبنانية، العماذ ميشيل عون، في الملفات التي يود مناقشتها في موسكو خاصة ملف عودة النازحين والإستثمار الطاقوي والمساعدات الإقتصادية والعسكرية للبنان. فعلى الصعيد اللبناني، كانت الزيارة فاشلة وينطبق عليها قائلٍ لوزير الخارجية الأميركية “كأنك يا زيد ما غزيت”.
ختاماً، لم تستطع زيارة بومبيو إلى الدول الثلاث تعديل التراجع الأميركي في المنطقة وطمأنة حلفائها المربكين، نتيجة هذا التراجع أمام محور المقاومة وروسيا، بل كانت تصريحاته مجرد “قنبلة صوتية” الهدف منها دعم حملة نتنياهو الإنتخابية لا سيما وأن المنطقة تعيش المخاض الأخير من هزيمة مشروع أميركا وحلفائها وتقدم مشروع روسيا وحلف المقاومة.
في ظل العجز الأميركي – الإسرائيلي – الخليجي عن وقف اندفاعة إيران وحلفها المقاوم بدعم روسيا وفي غياب أي افق لـ “يالطا” جديدة بين العملاقين، تبقى المنطقة تعيش حروب بالوكالة لحسم الملفات المتفجرة وأولها سوريا وملف الإرهاب بإنتظار الإستحقاقات الكبرى التي عليها يتوقف مصير خرائط النفوذ قي المنطقة، ومصير النزاع العربي – الإسرائيلي، والإيراني– الإسرائيلي، ناهيك عن النزاع في اليمن، والنزاع بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران.
*باحث في مركز سيتا.
مصدر الصور: Fox News – إرم نيوز.