إعداد: يارا انبيعة
في خطوة أثارت جدلاً عالمياً، أنهت الإكوادور اللجوء السياسي الممنوح لمؤسس “ويكيليكس”، جوليان أسانج، وقامت السفارة بدعوة الشرطة البريطانية من أجل توقيفه بحجة الإساءة إلى أصول الإقامة واستعمال حق اللجوء، حيث اتهمه الرئيس الإكوادوري، لينين مورينو، أنه مقر استخدم السفارة في لندن “كمركز للتجسس”، إضافة إلى “التصريحات العدائية والمهددة لمؤسسته ضد الإكوادور، وتدخله في الشؤون الداخلية لدول أخرى.”
يذكر أن أسانج استطاع، ومن خلال موقعه الذي أسسه في العام 2006، إحراج العديد من الأنظمة السياسية والحكام والشخصيات العامة، حيث قام بنشر آلاف الوثائق الحكومية كاشفاً للرأي العام، حول العالم، العديد من الأسرار.
أبرز المحطات
بدأت الحكاية في العام 2010، عندما تعاون أسانج مع تشيلسي مانينغ، محللة استخبارات سابقة بوحدة للجيش الأمريكي في العراق، لإختراق جهاز كمبيوتر عسكري والوصول لآلاف الوثائق الأمريكية السرية شديدة الحساسية. وتضمنت التسريبات الأولى مقاطع فيديو للضربات الجوية الأمريكية للعاصمة العراقية، بغداد، والهجوم الأمريكي على أفغانستان، وتقارير عسكرية عن الحرب الأمريكية في الدولتين، وتقارير لبعثات واشنطن الدبلوماسية.
بعد بضعة شهور من بدء النشر، لاحقت السويد مواطنها بتهم التحرش الجنسي والإغتصاب، وهو ما نفاه أسانج معتبراً الإتهام محاولة لإرساله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سيحاكم بتهمة نشر أسرار عسكرية ووثائق دبلوماسية حساسة، حيث قرر أسانج، في نهاية العام 2010، التوجه لبريطانيا وتسليم نفسه للشرطة هناك، والتي قامت بدورها بالإفراج عنه بكفالة.
بعدها، منحت دولة الإكوادور حق اللجوء لأسانج، فخرق قرار إفراج الشرطة البريطانية عنه بكفالة، محتمياً بمقر السفارة التي لم يغادرها خوفاً من الإعتقال والترحيل، وحتى بعد إسقاط السلطات القضائية السويدية تحقيقاتها في قضيتي التحرش والاغتصاب، إذ ظل أسانج، البالغ من العمر 47 عاماً، مقيماً في السفارة بلندن منذ العام 2012 حتى قيامها بسحب حق اللجوء منه واستدعائها للشرطة البريطانية لإلقاء القبض عليه، في 11 أبريل/نيسان 2019.
وثائق التجسس
من أشهر وثائق “ويكيليكس” ما نشره حول قيام وكالة الأمن القومي الأميركية بالتجسس على عدة شخصيات أوروبية ومسؤولون ألمان، تأتي في مقدمتهم المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، ليعلن القضاء الألماني فتح تحقيق ضد مجهول يتعلق بوقائع تجسس وأنشطة لصالح جهاز استخبارات أجنبي، إلا أن النيابة العامة الفدرالية أمرت بإغلاق التحقيقات بعد ذلك لأن الاتهامات يتعذر إثباتها قانونياً.
كما كشف الموقع أن الوكالة نفسها تجسست على اتصالات هاتفية بين المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، والأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون، بشأن التغيرات المناخية، وعلق أسانج حينها بأن لقاءات الأمين العام حول إنقاذ الكوكب من التغير المناخي تم التجسس عليها من قبل دولة عازمة على حماية أكبر شركاتها النفطية.
هذا ونشر موقع “ويكيليكس” أيضاً رسائل البريد الإلكتروني للحملة الرئاسية لهيلاري كلينتون، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أجريت في العام 2016، بما يعتبر من العوامل التي أسهمت في خسارتها، حيث أشارت الرسائل المسربة حصول الحملة على خطب مدفوعة الأجر، ولم يشكك فريق الحملة من جانبه في صحة الأمر.
جريمة ضد الإنسانية
إتهم الرئيس الإكوادوري السابق، رافائيل كوريا، نائبه السابق والرئيس الحالي لينين بأنه “أكبر خائن” في تاريخ إكوادور وأميركا اللاتينية، كما وصف قراره برفع الحصانة عن أسانج وتسليمه للبريطانيين بأنه “أكثر القرارات خسة في التاريخ”، وبأنها جريمة لن تنساها الإنسانية.
فيما جاء تبرير مورينو لقراره بأن تسليم أسانج سببه “سلوكه غير المحترم والعنيف” والذي خلق وضعية لا يمكن تحملها، متهماً إياه بـ “خرق الإتفاقات الدولية” وبجلب تجهيزات غير مصرح بها إلى مقر السفارة، إلى جانب الإعتداء على الموظفين فيها. من جهته زاد سفير إكوادور لدى بريطانيا، جيمي مارشن، تلك الإتهامات عندما قال “العادات القذرة وقلة النظافة والغرور وعدم الإحترام لأسانج، عجلت بتسليمه.”
كما أكد الرئيس مورينو ان أسانج لن يسلم إلى دولة يمكن أن يواجه فيها عقوبة الإعدام، قائلاً “لقد طلبت من بريطانيا ضمانات بأن أسانج لن يسلم إلى دولة يمكن أن يتعرض فيها للتعذيب او الإعدام، وأكدت لي الحكومة البريطانية ذلك خطياً.”
مخالفة للدستور
في البداية، كان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، معجب بشدة بأسانج، حيث أشاد مراراً بموقع “ويكيليكس” خصوصاً خلال حملته الإنتخابية الرئاسية، 2016، بعد نشرها رسائل هيلاري كلينتون الإلكترونية لإلكتروني.
وبعد فوز ترامب، بدأ عداء الجمهوريين لأسانج، وتعهدت إدارته محاكمته. في المقابل، اعتبر الرئيس ترامب أن اعتقال أسانج “لا يعنيني، هذه ليست صفقة العمر بالنسبة لي”، نافياً أن يكون له رأي في المسألة، وأحال المسألة إلى المدعي العام.
أما هيلاري كلينتون فقالت “يجب على جوليان أسانج، أن يقدم رداً على ما فعله”، مضيفة “أنه يتضح من لائحة الإتهام التي صدرت أن الإعتقال يتعلق بالمساعدة في اختراق جهاز حاسوب عسكري لسرقة معلومات من حكومة الولايات المتحدة”، وقالت مازحة “إن أسانج (الأسترالي) يكاد يكون الأجنبي الوحيد الذي ترحب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدخوله البلاد.”
أما في المواقف، فقد قالت وزارة العدل الأمريكية أن أسانج متهم بالقرصنة الإلكترونية وهو يواجه في حال إدانته عقوبة بالسجن لخمس سنوات. أما الإتحاد الأمريكي للحريات المدنية فقد أعلن أن محاكمة أسانج في الولايات المتحدة ستشكل سابقة وستكون “مخالفة للدستور”، فيما قالت منظمة “مراسلون بلا حدود” إن توقيفه “قد يشكل سابقة خطرة”.
وعلى المقلب الآخر، اتهمت روسيا بريطانيا بـ “خنق الحرية” إذ كتبت المتحدثة بإسم الخارجية الروسية في منشور على فيسبوك “يد الديمقراطية تخنق عنق الحرية”. إلى ذلك، صرح ديمتري بيسكوف، سكرتير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للصحافيين قائلاً “إنَّنا بالطبع نأمل احترام كافة حقوقه.”
سابقة خطيرة
يرى العديد من المراقبين بأن كل ما حدث لا يمكن تفسيره إلا من خلال المشهد الكبير “البريطانيون يقدمون مساعدة إدارية لأصدقائهم الأمريكيين” بعد فترة من عدم الإستجابة. فلقد وصف المدعي العام الأمريكي السابق، جيف سيشنز في العام 2017، اعتقال أسانج بأنه “أولوية” للقوة العالمية الكبرى، بينما وصف وزير الخارجية، مايك بومبيو، ويكيليكس كـ “جهاز استخبارات معادي غير حكومي”، وأتبعه التهديد بأن “ذلك ينتهي الآن”.
بعد سقوط اليسار الإكوادوري في الإنتخابات، بات الأمر يسيراً على واشنطن لإسترداد أسانج، فليس من قبيل المصادفة أن يتم تصعيب وضع الإقامة عليه حيث تم قطع جميع اتصالات الإنترنت والهاتف عنه، وعدم استقبال الزوار، سوا محاميه، خصوصاً أن تشيلسي مانينغ، مصدر الوثائق المسربة، تقبع في السجن، منذ 8 مارس/آذار 2019، بعد رفصها أداء الشهادة ضد موقع “ويكيليكس”.
على الجانب الآخر، قالت جنيفر روبنسون، محامية أسانج، إن موكلها سيطعن ويرفض طلب الولايات المتحدة تسليمه، وقالت إن توقيفه يشكل سابقة خطرة للمنظمات الإعلامية والصحافيين في العالم، كما ذكرت روبنسون أن موكلها طلب منها نقل رسالة إلى مؤيديه بأن تحذيراته المتكررة بشأن خطر ترحيله إلى الولايات المتحدة قد تحققت، مضيفة من أمام محكمة وستمنستر في لندن “لقد قلت لك ذلك.”
بالطبع، إن موقع “ويكيليكس” يعتبر مكاناً “غير مريح” لا سيما بالنسبة إلى منظمات ذات سلطة كبيرة تقوم بعملها بعيدة عن مجهر الرأي العام، لكونه يقوم بفضح ملفات ووثاق حكومية. لكن الديمقراطية الحقيقية تحتاج إلى هذا الموقع من أجل إطلاع المواطنين على أحداث تريد حكوماتهم اخفاءها عنهم خلف جدار الصمت.
جوليان أسانج لم يفش اسراراً بل كل ما قام به هو نشر الأحداث كما تفعل العديد من وسائل الإعلام عند ممارسة عملها، فيما تتحضن الصحافة خلف الحق بالإحتفاظ بـ “سرية المصادر” بينما أسانج لم يعطَ مثل هذا الحق لكونه “خرق المحظور”.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: بي.بي.سي – بوابة العين الإخبارية – سبوتنيك.