يارا انبيعة
علت نبرة “صفقة القرن” في الآونة الأخيرة، وباتت وسائل الإعلام العربية والعالمية تتناولها في صدر صفحاتها، وتشير معظم توقعات الخبراء السياسيين إلى أن الصفقة سوف تتضمن “وطناً بديلاً” للفلسطينيين في شمال سيناء، وهو ما أكدته وسائل الإعلام الإسرائيلية. إلا أن هذا الطرح المدفوع أميركياً، يلقى رفضاً قاطعاً من العرب، سواء على المستويات الرسمية أو الشعبية.
لكن، يخطئ من يعتقد أن صفقة القرن يقف وراءها كبير مستشاري الرئيس الأميركي، جاريد كوشنر، لكونها نتاج عمل ما يزيد عن مئة عام من قبل “أجداد كوشنير”، بالتخطيط والتنفيذ للوصول إلى ما وصلنا إليه الآن. فلقد مرت الصفقة تاريخياً بمراحل زمنية متعددة، تمتد ما بين ثلاثين إلى أربعين عاماً، ولكل مرحلة طبيعتها الخاصة أبرزها مرحلة “الإعداد لإنشاء الدولة”، التي إمتدت تحديداً ما بين العامين 1915 و1948، ضمن تاريخ مسلسل من الكذب والمؤامرات على العرب، إبتداءً بمراسلات الحسين – مكماهون في العام 1915، مروراً بإتفاقية سايكس – بيكو في العام 1916، ثم وعد بلفور في العام 1917 الذي التزمت بموجبه بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لتبدأ بعدها الهجرة المنتظمة لليهود من شتى بقاع العالم، تمهيداً لبناء الدولة في فلسطين. هذه الأحداث، مهدت إلى المرحلة الأخطر التي تمثلت في افتعال النزاع على الأرض مع الفلسطينيين للإلتفاف اللا مشروع على القانون الدولي، وصولاً إلى ما يسمي المطالبة بالحقوق الشرعية لليهود في فلسطين.
تناقضات أمريكية
لأن الصفقة سوف تتم بإتفاق إسرائيلي ومباركة ورعاية ووساطة الولايات المتحدة، فإنها تضع نفسها في كل خانات المعادلة. فبينما يصر كوشنر على أن “صفقة القرن” هي حل لقضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ويخرج بتلميحات إلى أن اختيار وطن بديل في سيناء هو مجرد مقترحات لإحلال السلام، يناقضه المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، جيسون غرينبلات، بأن خطة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للسلام لن تشمل منح أرض من شبه جزيرة سيناء المصرية للفلسطينيين.
في هذا الخصوص، يقول غرينبلات، أحد مهندسي الخطة “سمعت تقارير عن أن خطتنا تشمل تصوراً بأننا سنقدم جزءاً من سيناء إلى غزة، هذا كذب”. في المقابل، قال مصدر مقرب من كوشنر بإن الخطة “ستتطلب تنازلات من جميع الأطراف”، حيث اتفق كوشنر وغرينبلات على أن الصفقة لن تتضمن قيام دولة فلسطينية بالشكل الذي يطلبه العرب، وألمحا إلى أنها ستكون منطقة حكم ذاتي.
في منحى آخر، وعقب اعتراف البيت الأبيض بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة منذ العام 1967، رجح محللون أن الرئيس ترامب ربما سيسمح بتقديم الجولان إلى الفلسطينيين لتكون هي الوطن البديل، لكن هذا الحديث بعيد تماماً عن الواقع حيث لا يمكن لإسرائيل السماح بتهجير الفلسطينيين في منطقة الجولان لسبب استراتيجي بسيط وهو جغرافية الهضبة المرتفعة إذ يمكن لأي صاروخ انطلق منها الوصول إلى تل أبيب بكل سهولة، وهو ما يضع إسرائيل تحت مرمى النيران الفلسطينية، إضافة إلى الخوف من اندماجهم مع السوريين وتشكيل جبهة قوية ضد جيش الإسرائيلي.
تفكك السلطة الفلسطينية
على مدار الشهور الماضية كانت قيادة السلطة الفلسطينية تحذر من أن تكون محطة “صفقة القرن” في قطاع غزة، إذ تؤكد بعض قياداتها أنه “لا دولة في غزة ولا دولة من دون غزة”. لكن يبدو أن الأمور جاءت على عكس توقع وتقدير قيادة السلطة التي لم تستعد لمواجهة الصفقة، فلم تتخذ أي فعل على الأرض يدلل على جديتها في مواجتها أبرزها تفكك الوحدة بين الفصائل الفلسطينية والإستمرار في الإستفراد بالقرار السياسي.
قبل عدة أيام تحدث المحلل السياسي الأمريكي، دانيال بايبس، في مقال له في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، أن صفقة ترامب تركب الدولة الفلسطينية من منطقتي “أ” و”ب” في الضفة الغربية وأجزاء من المنطقة “ج” فقط، وتعطيها عاصمة قرب القدس وليس فيها، بإشراف هيئة دولية على إدارة مشتركة بين السلطة الفلسطينية، وإسرائيل تحكم المنطقة المقدسة في القدس بما فيها البلدة القديمة. كلام المحلل يظهر زيف كل ما روج من أن غزة ستكون الكيان السياسي لـ “صفقة القرن”، وهذا ما تدعمه حقائق موضوعية على الأرض، التواجد الإسرائيلي الذي يحاصر قطاع غزة، منذ 13 عاماً، لا يمكن أن يسمح لغزة بالتوسع بأي شكل من الأشكال.
هنا، يمكن طرح السؤال التالي: كيف ستسمح إسرائيل لغزة بالتوسع إن كانت تعدها خطراً عليها؟ لذا، من المستحيل أن يتوجه تفكير إسرائيل في هذا الإتجاه، فغزة مستبعدة من هذا الطرح لامتلاكها أوراق قوة تستطيع من خلالها إفشال الصفقة، وعدم قبولها.
يبدو أن الصفقة تسعى لإلغاء ثلاث قضايا أساسية؛ الأولى، إلغاء الإعتراف بمنظمة التحرير كممثل للفلسطينيين. والثانية، إخراج القضايا الأساسية من الصراع، كقضيتي القدس واللاجئين. والثالثة، اعتبار أراضي الضفة متنازعاً عليها وأنه يجب التسوية فيها، لذا سيكون مكانها بالضفة كمرحلة أولى. فلقد مهدت الولايات المتحدة لتمرير الصفقة بالضفة الغربية من خلال وقف مساعداتها للسلطة، وافتعال أزمة مالية باتت تعانيها السلطة التي قامت بتقليص نسبة رواتب موظفيها بالضفة لأول مرة منذ شهرين. ومع استمرار صعود اليمين المتطرف في إسرائيل، تثار قضايا كبيرة لم تتوقعها السلطة، مثل الحديث عن ضم الضفة، خاصة بعد الإعلان الأمريكي الإعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.
لكن من الواضح أن قضية الضم لن تتم لكامل الضفة الغربية لأن اسرائيل لا يمكنها تحمل تبعات تحكمه بالمدن الفلسطينية المكتظة بالسكان بمنطقتي “أ و ب”، فالسيناريو الأقرب هو ضم منطقة “ج” التي تشكل 60% من مساحة الضفة الغربية، ولا يزيد عدد سكانها على 10% من السكان، حيث تستطيع التعامل معهم كما تتعامل مع فلسطينيي الداخل المحتل.
هنا، يمكن القول إن السلطة مقبلة على التفكك، وتحويل الضفة إلى بلديات ونظام حكم ذاتي، فالخريطة الجغرافية للضفة تغيرت أصلاً على أرض الواقع في ظل وجود مستوطنات إسرائيلية متصلة ببعضها بعضاً، تفصل بين المدن الفلسطينية التي باتت محاصرة بمعابر خارجية يتحكم بها الجيش الإسرائيلي.
فهل ستنتهي السلطة؟ هذا السؤال الذي يدور في عقل كل قائد في السلطة الفلسطينية حالياً لكونهم يدركون حقيقة الخطر القادم عليها حيث يعتبر الكثير من المتابعين بأنهم أنفسهم من جلب هذا الخطر بدءاً من عدم توحدهم، والإستفراد بالقرار السياسي، وعدم تصحيح مسار و”خطيئة” اتفاق أوسلو، والإستمرار في هذا المستنقع دون الخروج منه.
لكن الأمر الغريب، بحسب المتابعين، هو إصرار رئيس السلطة، محمود عباس، على المفاوضات مع سلطات الإحتلال، واستعداده للقاء رئيس حكومته، بنيامين نتنياهو، مع أن الأمور على الأرض ومن خلف الكواليس وفي الغرف المغلقة تغلي وتهدد القضية الفلسطينية بل تلتف حول عنقها، في حين تقوم هذه القيادة بالتعاطي مع هذه الوقائع الخطيرة ببلادة ودون تحرك كشخص ينتظر التفاف حبل المشنقة على عنقه وهو يملك فرصة للنجاة ويرفض هذه الفرصة.
مهمة مصرية
قالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية بإن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، يعكف على استقطاب زعماء عرب لحشد تأييدهم للصفقة، حيث نقل موقع “ميدل إيست مونيتور” البريطاني عن سمدار بيري، كبير محرري شؤون الشرق الأوسط بالصحيفة، أن الأمر الجلي بـ “صفقة القرن” هو مدى “استغراق الرئيس المصري في الإتفاقية”.
وأوضح بيري في مقاله أنه “كان يسود اعتقاد بادئ الأمر أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، هو من يحشد الدعم للصفقة، إلا أن الرئيس السيسي الصديق الممتاز للرئيس الأميركي وجد نفسه مؤخراً في موقع القيادة”، ويقول أيضاً إن حكومته “ترى في السيسي جاراً وشريكاً مؤازراً لإسرائيل يحرس شبه جزيرة سيناء حيث يقضي آلاف الإسرائيليين عطلة عيد الفصح.”
وعلى الرغم من أن الرئيس السيسي لا يعرف تفاصيلها الدقيقة، فإن الكثير من المحللين يرى بأن دوره يتمثل في استقطاب الجانب “المعتدل” من العالم العربي لدعم خطة الرئيس ترامب للسلام. فحسبما ورد بموقع “ميدل إيست مونيتور” نقلاً عن بيري، فإن دور الرئيس المصري يكمن في إمكانية استقطاب الأردن والمغرب والسعودية ودول الخليج، وربما قطر.
ومضى المقال إلى الزعم أن مصر ستقود العالم العربي لقبول ما يسمى بـ “صفقة القرن”، وسوف يطلب منها المساهمة بأفكارها في الخطة قبل استكمال كافة التفاصيل. بالمقابل، ستحصل على حزمة مساعدات اقتصادية ضخمة من الإدارة الأميركية، فيما يخلص الصحافي الإسرائيلي إلى القول إن “بصمات” نتنياهو واضحة في كل أجزاء خطة السلام تلك.
ملفان أساسيان
في حديث لمركز “سيتا”، يقول الدكتور موفق محادين، الباحث الأردني، حول “صفقة القرن” إنها “ليست مجرد اتفاقية أو معاهدة على غرار وادي عربة أو أوسلو، بل استراتيجية عمل ومناخات موضوعية تعود إلى عقدين على الأقل. ويمكن القول إنها تتألف من ملفين؛ الأول، ملف موضوعي بنيوي، من مقدماته إعادة هيكلة الدول والمجتمعات المستهدفة في الشرق الأوسط وتفكيكها، وإعادة تشكيلها كبنى اجتماعية – اقتصادية مفرغة من كل أشكال السيادة، كالجيش والخارجية والقرارات السياسية، وبما يحولها إلى محيط تابع للمركز الصهيوني اورشليم الجديدة، على إيقاع روما الأمريكية الجديدة.”
ويتابع الدكتور محادين أن الأمر الأخطر “على الصعيد الإقتصادي، تكفلت به أدوات مثل البنك وصندوق النقد الدوليين عبر الخصخصة، كما تكفلت به على الصعيد السياسي والعسكري أدوات مثل الرجعية والطائفية المسلحة.”
ويشير الدكتور محادين إلى “المقدمات الواردة في كتاب شمعون بيريز – الشرق الأوسط الجديد – وتقارير مؤتمرات هرتسليا التي دعت إلى إقامة بنى تحتية على مستوى الإقليم مرتبطة بالإستحقاقات الصهيونية وسعي العدو بتجديد نفسه ووظيفته من خلال ذلك. ومن الأمثلة الظاهرة على ذلك المطارات وطرق النقل الكبرى والمناطق المؤهلة ومشروع سكة الحديد التي يراد لها أن تصل الخليج بميناء حيفا، وكذلك مشاريع مثل ناقل البحرين (الميت – الأحمر) وخط الغاز وصندوق الاستثمار الإقليمي.”
أما الملف الثاني، فيقول الدكتور محادين بأنه “الملف السياسي التي تشير المعلومات، حتى الآن، إلى أنه يتضمن إنهاء وشطب كل ما يعرف بقضايا الحل النهائي كقضية اللاجئين، وذلك بتصفية قضيتهم خارج فلسطين المحتلة وتوطينهم في البلدان التي يعيشون فيها، ناهيك عن إنهاء مسألة القدس من خلال تهويدها ووضع اليد على الجولان. يضاف إلى ذلك، السماح المؤقت بإقامة سلطة فلسطينية ضمن قطاع غزة في مقابل إحياء صيغة الكونفدرالية التي تربط ما تبقى من الضفه الغربية مع الأردن من خلال رسم التفكيك وإعادة هيكلة كل مؤسساته وتغيير شكل الدولة ووظيفتها واستبدال الحرس البيروقراطي القديم بأشكال من الحرس الليبرالي الجديد.”
أخيراً وعلى الرغم مما تنشره وتسربه الصحف الأميركية والإسرائيلية عما تقول إنها مضامين “صفقة القرن” التي وعد كوشنير بالكشف عن مضامينها بعد عيد الفطر، يبدو من الجلي بأن احداً لا يعرف تفاصيلها، فعدم وضوح التصريحات الأمريكية حيال الصفقة تؤكد أن ثمة مخطط لإبقاء المنطقة في حالة قلق دائم وفي حالة تشكيك لا تنقطع لضرب علاقات دول المنطقة بعضها ببعض عبر تسريب اطلاع طرف دون آخر على تفاصيلها، وعبر نشر أخبار تتعلق بضرورة أن يكون في المنطقة شريك للولايات المتحدة لتمرير الصفقة من خلال الضغط على الفلسطينيين والأردن، بطبيعة الحال، للقبول بها.
قبل أيام، قال كوشنر إنه يجب على الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، تقديم تنازلات لتمرير الصفقة. لكن هناك أسئلة تطرح نفسها. ما هي التنازلات المطلوبة من الفلسطينيين؟ وما مدى خطورتها مع التنازلات التي يتوجب على الإسرائيليين تقديمها؟ ولماذا تحرص الإدارة الأمريكية على إبقاء المنطقة عرضة للإشاعات والتشكيك الذي يأخذها يمنة ويسرة؟
تبدو الإجابة واضحة لا سيما عند الحديث عن الرغبة الأمريكية في الحصول على تنازلات من دول المنطقة قبل الإعلان الرسمي عنها. فعلى الرغم مما قاله غرينبلات أن “الملك عبد الله الثاني والأردن حلفاء أقوياء للولايات المتحدة”، غير أن ذلك لا ينفي حقيقة الضغوط على عمان التي دفعت صلابتها تجاه الموقف الأمريكي من جعل غرينبلات يصرح بذلك، وهو ما يؤكد حاجة الولايات المتحدة للأردن وصدقية ما قاله الملك عندما أطلق لاءاته الثلاث الشهيرة إذ أن للأردن كلمة ليقولها في هذا الشأن.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: Toronto Star – كاتيخون – الجزيرة.