د. هشام حمدان*

قمت، بتاريخ 27 أبريل/نيسان 2019، بزيارة معهد ثقافات مواطني تكساس في مدينة سان أنطونيو الجميلة، ترافقني رفيقة دربي وشريكة عمري عفاف. وهذا المعهد تابع لجامعة تكساس في سان أنطونيو، ويحتوي معرضاً دائماً عن أولئك السكان الذين جاؤوا من مختلف أنحاء العالم لإستيطان هذا المنطقة من الوسط الغربي في الولايات المتحدة الأميركية. وقد رفع علم لبنان أمام هذا المعهد، بين أكثر من ثلاثين علماً من مختلف أنحاء الكرة الأرضية، كما رفعت إشارة للبنانيين إلى جانب الأوروبيين والآسيويين وغيرهم من مغتربين أسسوا هذا المجتمع في تكساس.

يقع هذا المعهد في منطقة تكثر فيها الشواهد التاريخية والمرافق الحيوية لمدينة سان أنطونيو. فهو يجاور متحف منطقة ألامو الشهير حيث جرت، في العام 1836، معركة طرد المكسيكيين من تكساس وضمها إلى الولايات المتحدة. كما يقع بجواره برج أميركا الذي يرتفع بعلو يزيد على الـ 75 طابقاً. وتقع بجواره أيضا المحكمة وكذلك كبرى الفنادق والمراكز الثقافية والمؤسسات السياحية الممتدة على جانبي نهر سان أنطونيو.

كنا نتطلع بشوق لزيارة الجزء المخصص باللبنانيين ضمن المعهد. لم نفاجأ بما حملته المعروضات، من أسماء مغتربين جاؤوا بظروف صعبة من مختلف أنحاء لبنان، ومن كل الطوائف والمذاهب، وتحملوا المشقات وكافحوا بصبر وعناد، من أجل بناء مستقبل أولادهم وتأسيس حياة هانئة ومريحة لهم ولعائلاتهم. كما لم نفاجأ بما حملته هذه المعروضات من شواهد عن سرعة اندماجهم في المحيط الجديد الذي اختاروه وطناً بديلاً، وتحولهم إلى رموز مميزة في هذه الولاية. فاللبناني حمل معه هوية وطن الأرز الثقافية، المتجذرة بالإنفتاح، والتعاضد، والعيش المشترك.

تميزت الجاليات اللبنانية في القارة الأميركية، كما في كل بلدان العالم، بإمتلاكها لمؤسسات عديدة شكلت معالم مميزة في البلدان التي استوطنوها. كما أن أفرادها احتلوا مواقع مهمة سواء في مجالات السياسة، أو الإقتصاد، أو العلوم والثقافة وغيرها. وهم انتشروا في كل ناحية من تلك البلدان، وحضورهم المميز لم يختلف من منطقة إلى أخرى. ففي كل زاوية في تلك البلدان برزت نجاحاتهم الخارقة واللامعة وعلاقاتهم المميزة. وتمتع هؤلاء بسمعة طيبة وكانوا محبوبين. وقد جعلوا اسم لبنان وصورته خالدة في ضمير المواطن حيث أقاموا. وأعطوا وطننا موقعا أساسياً له ميزته في الفكر السياسي والوطني العام الدولي. أنا لا أخفي أن هذا الأمر جعلني أكثر تشدداً في العلاقات المتصلة بالجالية، وسعيت لأن يستعيد لبنان، الوطن الأم، هذه الثروة الضخمة أو أن يستفيد من دورها لتعزيز مكانته ودوره كجسر ثقافي وحضاري بين الشرق والغرب.

أنا لا أدري كم هي ثروات المغتربين في الخارج، لكني أعلم أن الإغتراب اللبناني في المكسيك وحده يملك ما نسبته 10% من الدخل القومي الصافي لذلك البلد علماً أن المكسيك تحتل المركز الـ 14 على لائحة الدول الأقتصادية الأكثر قوة في العالم. ولطالما سعيت أن يكون لبنان مدخل هذا البلد العملاق إلى العالم العربي خاصة وأن المكسيك  كانت تسعى جاهدة لتعزيز علاقاتها مع هذه المنطقة ووقعت 52 اتفاقية في العام 2016 مع أربع دول عربية فقط.

ظلت النظرة للإغتراب في الوطن الأم مادة تجاذب سياسي (أرقام في حضور الطوائف والمذاهب في البلاد) أو مادة نفعية (أرقام للإستفادة من إمكانياتها المالية ولا سيما لخدمة قيادات سياسية وتبادل منافع معها). ولم نلمس يوما قراءات عامة ولا جلسات منابر إعلامية، ولا إشارات من المسؤولين عن موقع يلعبه الإغتراب في التخطيط الإقتصادي، سواء في القطاع الخاص أم العام، ولا عن مدى أهمية دمج هذا الإغتراب  في استراتيجيات العمل الوطني الدولي لتفعيل الحضور اللبناني على الخريطة الدولية.

لقد تركزت النظرة اللبنانية بشأن الإغتراب بشكل كبير على الإغتراب الحديث، وعلى مواقع إنتشاره، ولم يحظ الإغتراب القديم بأي اهتمام حقيقي. وسمح المسؤولون عن رسم سياسات لبنان بإسقاط هذا الإغتراب القديم من الحسابات السياسية، وتجهيله، وتجاهله، والقفز فوقه، وبالتالي تجاهل مواقع انتشاره والتي هي بالتحديد في القارة الأميركية.

لا أحد في العالم يعرف تاريخ لبنان وقدرة اللبنانيين وقوة الإغتراب اللبناني، يمكن أن يصدق أن لبنان يعاني مثل هذه الظروف الإقتصادية المريرة. وقد كنت أحزن بعمق لأن شعب لبنان لا يحظى من المسؤولين، عن صنع القرار في وطنه، بما يستحقه من فرصة للعب دوره على الساحة الدولية. لبنان هو انعكاس لهم، ففي المرآة صور رائعة لأداء اللبنانيين، سواء داخل لبنان أو خارجه، ولكن ذلك الأداء فشل أن يتحول إلى حالة وطنية جامعة. فبالرغم من كل الظروف التي مر بها، يمتلك لبنان مقومات ثقافية وإنسانية هائلة، وقيمة اقتصادية مميزة صنعها له الله كما إنسانه منذ قرون، ولكن قدره وقدر شعبه أنهم باتوا ضحية لسياسات دول كبرى، سمحت بتحويل هذا الوطن المميز في هذه المنطقة من العالم، إلى ساحة حرب ودمار لأغراض لا تخصهم، وتركتهم مسجونين في كانتونات طائفية مقيتة.

لماذا نتغاضى عن هذه الثروة الوطنية الهائلة؟ لا يجب أن يظل التعاطي مع الإغتراب موسمياً، أو عشوائياً، أو أن يكون حكراً على فئة ولا تكون منفعتها إلا ضئيلة جداً قياساً بما يمكن أن تقدمه هذه الجالية لو تم التعاطي معها بروح الإنتماء الوطني. ربما يرى السياسيون أن الإغتراب ليس فقط قوة اقتصادية لبلدنا، بل هو قوة تغيير حقيقية قد تعيد لبنان وحدة وطنية وتجعلهم يخسرون ما يجنونه من مغانم الكانتونات الطائفية التي ساهموا بصنعها في الحرب التقسيمية التي أوقعنا بها أعداء لبنان.

لقد عملت صادقاً لإنجاح تلك اللقاءات الإغترابية التي عقدت في لبنان، إلا أنني كنت صريحاً وصادقاً ومخلصاً في إبداء رأيي بهذا الصدد، وكتبت ما اعتبرته خلاصة قناعاتي بعد خبرة طويلة في العمل الإغترابي، وأعلنت رأيي بوضوح، خلال الملتقى الدبلوماسي في بيروت العام 2014، مكرراً أن الإغتراب سلاح لبنان الأمضى والأفعل، وأن هذا السلاح لن يؤتي ثماراً من دون توافق وطني. ودعوت بالتالي لأن يشمل الحوار الوطني موضوع الإغتراب، فيكون جزءاً من استراتيجية وطنية متفق عليها. وطالبت، وما زلت اطالب، بضرورة جعل الإغتراب مادة للحوار الوطني يدخل في رسم الإستراتيجيات العامة التي تشمل كل جوانب الحياة في البلاد: الإنمائية والإقتصادية والمالية والبيئية والثقافية والتربوية والرياضية وغيرها. وبمعنى آخر، فقد دعوت إلى تفعيل شعار لبنان طائر بجناحين: المقيم والمغترب، لكي يصير الإغتراب جزءاً لا يتجزأ من التخطيط الوطني في كل مفاصل الحياة العامة للشعب.

*سفير لبناني متقاعد

مصدر الصورة: الحرة.