يارا انبيعة

على الأرجح أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لم ينتبه إلى أن السياسات الأمريكية ليست متسامحة مع فكرة استخدام إجراء قانوني بهدف عرقلة إجراء قانوني آخر. ففي العام 1973، كان الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، أول من استخدم هذه الحيلة عندما قام بطرد المحقق الخاص المخول بالتحقيق في حادثة “ووترجيت”. لكن الأمور لم تجر كما تمنى، فكانت هذه الخطوة بمثابة فتيل أشعل الغضب الشعبي في وجهه، وأجبر مجلس الشيوخ على الإسراع في إجراء التحقيقات التي دفعته إلى الإستقالة قبل البدء بإجراءات عزله.

هذه الحادثة جعلت المقارنة بين مصير ترامب ونيكسون معقولة إلى حد بعيد. فهذه الأيام، لا توجد كلمة تردد في أرجاء واشنطن أكثر من كلمة “Impeachment” أو الإتهام، وهي الآلية تمكن الكونغرس الأمريكي من البدء بالإجراءات المناسبة لعزل الرئيس قبل إنتهاء ولايته رسمياً. لكن هذا لا يعني أن الكونغرس يعتزم البدء فوراً في هذه الإجراءات بوجه الرئيس ترامب قريباً، لكن العديد من التقارير أفادت بأنه طلب من رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق، جيمس كومي، وقف تحقيق معين قبل أشهر من إقالة الأخير، ما دفع عدداً من خبراء القانون والمدعين العامين السابقين إلى القول بأن ما قام به الرئيس ترامب قد تصل به إلى مرحلة “الإتهام”.

حملة مطاردة

أفادت قناة “CNN” الأميركية بأن البيت الأبيض يبحث إجراءات عزل الرئيس ترامب من منصبه، وجاء في الخبر أن محاميي البيت الأبيض بدؤوا البحث عن إجراءات العزل كإجراء احترازي، فيما تقدم برلمانيون ديمقراطيون ومنظمات يسارية بعرائض، وقعها أكثر من عشرة ملايين شخص، تطالب الكونغرس بدء إجراءات العزل، كما عرض النائبان الديمقراطيان، رشيدة طليب وآل غرين، وممثلو عدد من المنظمات بينها “موف أون” و”ويمنز مارش” أمام مبنى الكونغرس مفتاح “يو أس بي” وصناديق يتضمن العرائض المطالبة بعزل ترامب.

وأمام لوحة كتب عليها “ترامب يجب أن يرحل” قال النائب غرين “بين أيدينا عشرة ملايين سبب لأن نكون هنا اليوم، وكانت طليب العضو بمجلس النواب قدمت منذ يناير/كانون الثاني 2019، مشروع قرار يدعو اللجنة القضائية بالمجلس إلى التحقيق لمعرفة ما إذا كان الرئيس ارتكب أفعالاً تبرر بدء إجراءات عزله.”

في المقابل، جاء رد الرئيس ترامب سريعاً عبر تغريدة له على موقع “تويتر” قال فيها إن الكونغرس “لا يستطيع أن يقيله”، بسبب نتائج تقرير المحقق روبرت مولر، حول قضية التدخل الروسي في الإنتخابات الرئاسية ومحاولاته عرقلة التحقيق، مضيفاً “فقط الجرائم الكبرى والجنح يمكن أن تؤدي إلى إجراءات العزل. لم تكن هناك جرائم من قبلي لا تواطؤ ولا عرقلة. لذا، لا يمكنكم إقالتي”، وتابع ترامب “أن الديموقراطيين هم الذين ارتكبوا الجرائم وليس رئيسكم الجمهوري. تنقلب الطاولة أخيراً على حملة المطاردة.”

وأكثر من ذلك، طالب الرئيس ترامب تمديد ولايته، حيث قال في تغريده له “على الرغم من النجاحات الهائلة التى حققتها كرئيس للولايات المتحدة، بما فى ذلك أعظم اقتصاد فى العالم، وأنجح سنتين رئاسيتين فى تاريخ الرؤساء على الإطلاق، فقد سرقوا سنتين من فترة رئاستي لا يمكن أن تعودا.. لعبة مطاردة الساحرة قد انتهت، لكننا لا يمكن أن ننسى.. اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى”، مشيراً إلى أن هاتين السنتين قد “سلبتا” منه “في المؤامرات المضللة.”

أزمة دستورية

صرحت رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، بأن البلاد تمر بـ “أزمة دستورية” بسبب رفض الرئيس ترامب التعاون مع التحقيقات العديدة التي تجريها لجان بالكونغرس بمجلسيه، لا سيما بشأن التدخل الروسي المحتملة في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة في العام 2016. ولمحت بيلوسي إلى أن الكونغرس قد يكون بصدد إعداد إجراءات أخرى للتعامل مع قضية عرقلة التحقيقات التي يقوم بها المشرعون. كما قال النائب غرين بأنه “لا يمكننا أن نقول إننا نواجه أزمة دستورية ثم لا نفعل شيئاً”، مضيفاً “علينا العمل على العزل، لنترك مجلس الشيوخ يفعل ما يريد وعلينا أن نفعل ما يجب علينا فعله.”

وفي سياق متصل، كشف استطلاع رأي أجرته مؤسسة “رويترز أبسوس” أن عدد الأميركيين الذين يقولون بعزل الرئيس ترامب ارتفع، منذ منتصف أبريل/نيسان 2019، بخمس نقطة مئوية لتناهز النسبة 45%، في حين قال مشاركون بالاستطلاع (نسبتهم 42%) إنهم لا يريدون عزل الرئيس.

إنحراف سياسي

يطالب عدد من النواب الديمقراطيين بعزل الرئيس كما يريد كثيرون منهم استدعاء الأخير للشهادة أمام الكونغرس، ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، إذ يجب أن تمر قضايا العزل عبر مجلس النواب الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، في حين أنه عزل الرئيس من منصبه يستلزم موافقة ثلثي مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون.

وفي أمر لافت، عارضت بيلوسي دعوات عزل الرئيس ترامب مراراً، رغم أنها توصف بأنها واحدة من ألد أعدائه، لكن يبدو بأنها تخشى، كغيرها من الديمقراطيين، من أية عملية العزل قد تشكل انحرافاً سياسياً، وترى أن الحزب يجب أن يعتمد على صناديق الإقتراع، في العام 2020، لإخراج الرئيس من البيت الأبيض؛ فهي تحاول  التعامل بحذر بالغ مع تلك المسألة حيث قالت للصحفيين “دعوني أؤكد لكم أنه مهما كانت القضية والتحدي اللذان نواجههما، فإن كونغرس الولايات المتحدة سيحترم اليمين الدستورية التي أقسم فيها بحماية دستور الولايات المتحدة والدفاع عنه لحماية ديمقراطيتنا. نعتقد أن المادة الأولى، أي البند التشريعي في المادة الأولى، تمنحنا مسؤولية الإشراف على ديمقراطيتنا، وسوف نمارس هذه المسؤولية.”

لكن في أعقاب ظهور تقرير مولر، فإن الديمقراطيين البارزين، بمن فيهم المتنافسون على ترشيح الحزب لإنتخابات الرئاسة ورؤساء اللجان والمشرعون العاديون، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ موقف بشأن العزل، إما تأييده أو رفضه أو اتخاذ موقف وسط.

خطرعلى الديمقراطية

لم يكن آل غرين السياسي الوحيد الذي طالب بإجراء تحقيق مع الرئيس ترامب، فستيف كوهين، ممثل الحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ عن مدينة ممفيس، ومعه خمسة أعضاء آخرين من الحزب الديمقراطي تقدموا كذلك، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، بطلب إجراء تحقيق مع الرئيس ترامب، مبررين طلبهم بأن الرئيس أصبح “خطراً على الديمقراطية”.

وقال النائب كوهين “حان الوقت لنوضح للشعب الأمريكي، ولهذا الرئيس، أن سلسلة التصرفات التي اخترق فيها الدستور الأمريكي يجب أن يجري إيقافها عن طريق التحقيق معه.” وهذه المرة كانت الإتهامات المرفقة بطلب التحقيق تتضمن اتهام ترامب بعرقلة العدالة في التحقيق الجاري بشأن التدخل الروسي في الإنتخابات الأمريكية، كما في عريضة غرين، إضافة إلى اتهامات بخرق الدستور الأمريكي بتلقي آلاف من الدولارات في تمويل أعمال من حكومات خارجية، لإقامة مؤتمرات أو لقاءات في المؤسسات المملوكة للرئيس.

فقدان التأييد الشعبي

وبالرغم من التحسن الواضح في الإقتصاد الأمريكي، من وجهة نظر الإقتصاديين اليمينيين، والإرتفاع العام لمؤشرات سوق الأوراق المالية، وانعكاس ذلك على الأجور الآخذة في الإرتفاع، وقرب الإنتهاء الكامل من وجود تنظيم “داعش” الإرهابي، والسيطرة الكبيرة على معدلات الهجرة غير الشرعية، إلا أن معدلات رفض ومعارضة المواطنين الأمريكيين للرئيس ترامب ترتفع لمعدلات قياسية مقارنة بكل الرؤساء الذين سبقوه.

ليس هذا هو الرقم القياسي الأول له فيما يخص معدلات فقدان التأييد الشعبي، فقد حصد لقب أسرع رئيس أمريكي يفقد تأييد أكثر من نصف الأمريكي، إذ وصلت نسبة المعارضين له إلى 51% من الشعب الأمريكي، في 28 يناير/ كانون الثاني 2017، أي بعد ثمانية أيام فقط من توليه المنصب. أما في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2018، فقد بلغت نسبة مؤيديه 38%، مقابل 56.4% للمعارضين.

بالتأكيد، لا يمكن إرجاع هذه النسب القياسية في المعارضة الشعبية للرئيس ترامب إلى سبب واحد، فالحقيقة أن الأمر أكثر تعقيداً وهناك الكثير من الأسباب التي تصلح أن تكون سبباً منطقياً لتفسير هذه الظاهرة. وترجع الكثير من التحليلات هذا التدني في شعبية الرئيس إلى حسابه الشخصي على “تويتر”، فقد أكدت العديد من استطلاعات الرأي أن أحد أكثر النقاط اتفاقاً بين المحافظين والديمقراطيين أنهم جميعاً يكرهون تغريدات الرئيس. فالمتتبع لتغريداته، يستطيع الخروج بنتيجة عامة وهي أنه مهتم بالنزاعات الشخصية مع بعض المشاهير من الرياضيين والإعلاميين، وكذلك بعض المنصات الإعلامية الشهيرة في الولايات المتحدة أكثر من اهتمامه بالمهام الرئاسية.

في الختام، إن حروب إدارة الرئيس ترامب من كل الأصناف اشتعلت مرة واحدة أو هي على وشك الإشتعال وعلى أكثر من جبهة في الخارج والداخل، من الحرب التجارية مع الصين، فيما الصدام مع إيران يبدو أنه دخل مرحلة التحضيرات الأخيرة. وأما التدخلها العسكري في فنزويلا فما زالت ورقته على الطاولة، في حين غيوم عودتها إلى لغة المواجهة مع كوريا الشمالية تتجمع في الأفق القريب، هذا فضلاً عن نزاعاتها الناشبة مع أكثر من ساحة، كانت كندا آخرها حول الممر المائي الشمالي الغربي القريب من حدود البلدين.

تواكب تلك المواجهات حروباً قانونية وسياسية مع الكونغرس التي تجاوزت الحدود في تجاهل الأصول والقوانين السارية المفعول، وتهدد بالزحف نحو أزمة دستورية مستعصية لو انسدت طرق الحلول والمخارج.

اليوم، الشطط عنوان اللحظة الراهنة في واشنطن، والمعالجات متعذرة. ليس ذلك فحسب، بل إن الوضع مقبل على المزيد من التوتر المشابه كلما ارتفعت حرارة الحملة الإنتخابية، والرئيس الذي رفع في حملته الإنتخابية شعار الإنسحاب من الحروب، يتجه نحو الإنقلاب على شعاره، فتفاقم أزمة رئاسته خاصة بعد صدور تقرير مولر، ربما يجعل ورقة الخارج مغرية لتغيير اللحن، ما يطرح تساؤل الآتي: هل كان تزامن هذه الأزمات والتحديات صدفة؟

وفي إشارة إلى مسألة الإنتخابات الرئاسية للعام 2020، فقد يكون الرئيس ترامب الأوفر حظاً خصوصاً وانه قام بتنفيذ الغالبية العظمى من وعوده الإنتخابية، وجلب الكثير من الأموال التي خففت من نسب البطالة. كل ذلك إذا ما تركنا جانباً القيام بأية حرب خلال فترة رئاسته، حيث يرى المراقبون بأن الرئيس الأمريكي نادراً ما يتم تغييره عندما تكون البلاد في حالة حرب.

مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.

مصدر الصور: ABC News – الجزيرة – فوكس نيوز.