يارا انبيعة
في طريقها كي تصبح صانع الهواتف الذكية الأكثر إنتاجاً في العالم – 2019، أعلنت وزارة التجارة الأمريكية أنها ستضيف شركة “هواوي” الصينية، والشركات التابعة لها، إلى “قائمة الكيانات” بمكتب الصناعة والأمن التابع للوزارة بحجة أن الشركة تشكل خطراً على أمنها القومي لإستخدامها شبكة اتصالات من الجيل الخامس G5، واتخاذ الصين الشركة وسيلة لأنشطة تجسسية ما يقيد حركة شراء أجزاء أو مكونات من شركات أمريكية بدون الحصول على موافقة من الحكومة الأمريكية.
فبعد أن فرضت واشنطن تعريفات إضافية على البضائع والسلع الصينية بقيمة 200 مليار دولار أمريكي من 10% إلى 25%، فإنها فاقمت من حدة الإحتكاكات التجارية المستمرة منذ عام بين أكبر اقتصادين في العالم على الرغم من عقد 11 جولة من المحادثات التجارية الثنائية بين الجانبين.
القائمة السوداء
يتعدى القلق الذي ينتاب شركة “هواوي”، منذ إدراجها على القائمة السوداء للتجارة في الولايات المتحدة، حظر شركة “غوغل” القيام بأي عمل معها ليمتد إلى تعليق الشحنات من الرقائق المكونة لأجهزتها المحمولة، فتلك الشركات، مثل”إنتل”، و”كوالكوم”، و”برودكوم”، و”سيلينكس”، أخبرت موظفيها أنها لن تزود “هواوي” بشحناتها حتى إشعار آخر.
إن هواوي تعد أكبر منتج لأجهزة الإتصالات في العالم، رغم أنها تخضع لتدقيق شديد بعدما أبلغت واشنطن حلفاءها بألا يستخدموا التكنولوجيا الخاصة بها بسبب مخاوف من اتخاذها وسيلة لأنشطة تجسس. وفي هذا الإطار أيضاً، أفادت صحيفة “نيكي آسيان ريفيو” أن شركة “إنفنيون” الألمانية لصناعة الرقائق علقت الشحنات إلى “هواوي تكنولوجيز” في مؤشر على أن حملة واشنطن على شركة التكنولوجيا الصينية بدأت تعرقل الإمدادات خارج الولايات المتحدة.
وتابعت الصحيفة بالقول إن “إنفنيون” ستعقد اجتماعات لمناقشة الوضع وإجراء تقييم، مضيفة أنه لم يتضح بعد ما إذا كانت الشركة الألمانية ستستأنف العمل مع “هواوي” بعد استيضاح الجوانب القانونية. يأتي ذلك في وقت تشير فيه الأرقام إلى أن مبيعات “إنفنيون” السنوية لـ “هواوي” تصل إلى 100 مليون دولار أو أقل.
خنق للإبتكار
يرى العديد من المراقبين أن الولايات المتحدة وصفت نفسها ذات مرة بأنها نموذج التجارة الحرة والعادلة، لكنها ومن خلال إقامة الحواجز التجارية لا تحقق هذا المثل النبيل على أرض الواقع. ففي الوقت الذي تطالب فيه واشنطن بتعزيز الوصول إلى السوق وتعزيز حماية حقوق الملكية الفكرية من جانب البلدان الأخرى، فإنها تتصرف بشكل يناقض تلك المطالب، حيث أغلقت أسواقها لتخنق بذلك الشركات الإبتكارية الصاعدة.
إن مثل تلك الإجراءات يسير ضد الإتجاه العام للعولمة الاقتصادية، إذ أنه ومع تحول التعاون الوثيق بين الشركات من مختلف البلدان إلى اتجاه لا يمكن الرجوع عنه، فإن الحمائية لن تحقق شيئاً سوى الإضرار بكل الأطراف، وستكون الشركات الأمريكية هي الطرف الذي سيعاني جراء التقييد المفروض على “هواوي” خلال المرحلة القريبة جداً.
وفي بيان للشركة، قالت “هواوي” إن تقييدها فيما يتعلق بإقامة الأعمال في الولايات المتحدة لن يجعل هذا البلد أقوى وأكثر أمناً، لكنه سيساهم فقط في تحديد خياراته ليلجأ إلى بدائل أدنى وأكثر تكلفة، بما يؤدي إلى تأخره في نشر تكنولوجيا الجيل الخامس، وربما يؤدي في النهاية إلى الإضرار بمصالح شركاته والمستهلكين فيه.
هذا وتفيد تقارير إعلامية بأن “هواوي” أعربت بالفعل عن استعدادها للتوقيع على اتفاقيات عدم تجسس مع الحكومات الأجنبية، لتجعل معداتها تفي بمعايير عدم التجسس وعدم وجود أبواب خلفية. ولكن ولسوء الحظ، تجاهلت الولايات المتحدة تلك الحلول وتمسكت بالأحادية، ليس فقط ضد رغبة الصين وإنما أيضا ضد رغبة الشركات والمستهلكين فيها أيضاً.
مخاوف أمنية
كتب محللون أنه ومع الأخذ في الإعتبار حقيقة كشف العديد من قضايا الأمن الإلكتروني في الولايات المتحدة، فإنه من المثير للسخرية ومن غير المعقول للغاية أن توجه واشنطن أصابعها نحو الصين بشأن المخاوف الأمنية.
بالنسبة للصين، التي نجحت بالفعل في تجاوز آثار إجراءات التقييد والحجب والعزل التي قامت بها الولايات المتحدة عبر العقود الماضية، فإن أية عقوبات أمريكية إضافية لن توقف تقدمها التكنولوجي أو تنميتها الإقتصادية إذ لا يبدو منطقياً تجاهل حقيقة أن الصين تلحق بالولايات المتحدة في مجالات معينة، ولا ينبغي اعتبار تقدمها تهديداً، وإنما يتعين اعتباره فرصاً هائلة للتعاون، فرفض تلك الحقيقة لن يمثل خطوة جيدة في تطبيق شعار حملة الرئيس ترامب الشهير “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”.
إستعداد مسبق
يفرض قرار الرئيس ترامب قيوداً فورية على الشركة الصينية تزيد بدرجة كبيرة صعوبة حصولها على تكنولوجيا الشركات الأمريكية بدون موافقة الحكومة، إذ قد يؤدي هذا الحظر التجاري إلى إلحاق أضرار جسيمة بقدرة “هواوي” على القيام بأعمالها، حيث تعتمد الشركة الصينية على رقائق “إنتل” لأجهزة الكمبيوتر والأجهزة الجوالة، بينما تتزود من شركتي “برودكوم” و”سيلينكس” برقائق تتعلق بالشبكات الخاصة بها.
لذلك، عملت “هواوي” على تصنيع المعالجات الخاصة للعديد من هواتفها، إلا أنها قد تحتاج إلى بعض الرقائق من الشركات الأمريكية، حيث نقل موقع “إنجادجيت” التقني عن تقارير أن “هواوي” كانت تستعد لإحتمال تعليق الشحنات، فخزنت عتاد ورقائق خاصة بها، إلا أن هذه الإمدادات قد تكفي لبضعة أشهر فقط، فقد تضطر إلى البحث عن بدائل أو تفقد جانباً هاماً من مجال عملها، وهو الأمر الذي لا ترغب فيه الصين، حيث يمكن أن يكون لتراجع الشركة آثار بعيدة المدى على الإقتصاد.
وفي هذا المجال، صدر تقرير جديد عن “بلومبرغ” يُظهر أدلة على أن شركة “هواوي” كانت تستعد للقرار الأمريكي بوقف ترخيص نظام تشغيل “أندرويد”، ويشير التقرير إلى أن معرض تطبيقات “هواوي”، الذي كان موجوداً على أجهزة هواوي وHonor Android لفترة من الوقت، هو في الواقع إجراء وجهد جاد “وإن كان سرياً إلى حد ما” لبناء بديل حقيقي لمتجر “غوغل بلاي”. كما كشفت “بلومبرغ” أن شركة “هواوي” قدمت عرضاً لصانعي التطبيقات، في العام 2018، يضمن مساعدتهم على التقدم الناجح في الصين، إذا قاموا بإنشاء برامج لمعرض التطبيقات الخاص بها.
من هنا، قال المدير التنفيذي لشركة هواوي، ريتشارد يو، إن الشركة “تطور نظام تشغيل خاص بها، وقد يدخل السوق في خريف هذا العام (2019)”، وتابع قائلاً “من الممكن أن يتم إطلاق نظام التشغيل الخاص بالشركة في خريف هذا العام كأسرع مدة وكأبعد تقدير في ربيع العام المقبل (2020).” كما أشار يو إلى أن النظام سيكون موحداً لجميع الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة اللوحية وغيرها من المنتجات، مضيفاً “نحن على استعداد لمواصلة التعاون مع غوغل ومايكروسوفت، لكن ليس لدينا خيار آخر، فنحن مضطرون.”
ومثل جميع بائعي هواتف المحدثة بنظام “أندرويد” الأخرى، تدرك “هواوي” مدى اعتمادها على تطبيقات الطرف الأول ومنصة تطبيقات “غوغل” على الرغم من أنها تخضع لتدقيق مكثف من جانب حكومة الولايات المتحدة. لذا، فمن المنطقي تماما أن تحاول “هواوي” الإستعداد للتداعيات المحتملة لفقدان علاقة العمل المشترك مع غوغل. ومع ذلك، يبدو أن خطط متجر التطبيقات البديل من “هواوي”، تعتمد على فقدان إمكانية الوصول إلى “غوغل” كشريك تجاري فقط.
أزمة أسهم
أزمة هواوي لم تؤثر على نفسها، بل جعلت الأسهم الأوروبية تتكبد خسائر واسعة النطاق في ملامح مشهودة لتدهور التجارة العالمية. وفي تراجع ملحوظ لمؤشر “داكس” الألماني انخفض 1.65%، وهبط المؤشر “كاك 40” الفرنسي 1.5%، فيما هبط مؤشر الأسهم الإيطالية 2.7&، تحت ضغط خسائر أسهم “بنك إنتيسا سان باولو”، مع تداولها بدون الحق في توزيعات الأرباح.
كما انخفض مؤشر قطاع البنوك الأوروبي 1.6%، مع هبوط سهم “دويتشه بنك” 2.9%، ليسجل مستوى إغلاق قياسي منخفض، كما لم تقف تأثيرات “هواوي” عند هذا الحد إذ تأثر قطاع السفر والترفيه الأوروبي كذلك بنسبة تصل إلى 1.4%، مع انخفاض سهم “رايان إير” 4.6%، فيما يتوقع أن تتكبد الشركات الأمريكية خسائر قد تصل إلى 56.3 مليار دولار على مدى خمس سنوات، إضافة إلى تهديد 74 ألف وظيفة.
مضاعفات سياسة الحمائية
يبدو أن تيار الحمائية القديم قد عاد لإكتساب زخم جديد في الولايات المتحدة، التي صعدت مؤخراً من وتيرة حربها التجارية مع الصين، ومع ذلك، فإن تلك الممارسة “الأنانية” التي لطالما دأبت الولايات المتحدة على انتهاجها، سترتد عليها لتؤذيها من جهة، وتلقي بظلال كثيفة ومظلمة على الإقتصاد العالمي من جهة أخرى.
وفيما يخص هذه الحرب التجارية، يمكن القول بأنه ليس هناك من منتصر فيها ولكن من المرجح أن يتعرض مُشعلها لضرر أكبر؛ بالتالي، من الأجدر تمسك الجميع بعقلية التعاون الإيجابي والتعددية والعمل على بناء اقتصاد عالمي مفتوح والتمسك بنمو تشاركي وشامل، أما السياسات القائمة على الأنانية والإكتفاء الذاتي فإنها غير واقعية ولن تؤدي إلى أي نتيجة مُرضية. لذا، لا بد من حل الإحتكاكات التجارية الصينية – الأمريكية من خلال المشاورات والحوار بناء على مبدأ المساواة والإحترام المتبادل والمنفعة المشتركة.
هوس التنمر
يبدو ظاهراً إدمان واشنطن على سياسة التنمُّر التي بدأت تشكل تهديداً للإستقرار والسلام في العالم، حيث تبدي حماساً شديداً في التلويح بعصى الرسوم الجمركية ضد شركائها التجاريين الرئيسيين بمن فيهم حلفاؤها، مثل دول الإتحاد الأوروبي واليابان وكندا. هذا ويعتبر بعض المحللين بأن النية وراء هذه الأفعال واضحة وبسيطة وهي “إنها مصرة على تحطيم أي شيء ترى أنه يمثل تهديداً لهيمنتها على العالم”. هذا بالضبط ما تفعله منذ أن أصبحت قوة عظمى في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
من هنا، يرى مارتن ولف، كبير المعلقين الإقتصاديين في صحيفة “فاينانشال تايمز” الأمريكية، أن واشنطن تؤمن بالصفقات أكثر من التحالفات، والثنائية أكثر من التعددية، وعدم القدرة على التنبوء أكثر من الثبات، والسلطة أكثر من القانون، والمصالح أكثر من المبادئ.
ختاماً، يمكننا القول إن جوهر النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية قام على تعزيز التعاون متعدد الأطراف والعولمة الإقتصادية، لكن يبدو أن “هوس” واشنطن بالهيمنة ينشر بذور المواجهة في أجزاء عديدة من العالم، ويقتل النظام العالمي الذي ساعدت في تأسيسه والذي انتفعت منه كثيراً خلال العقود الماضية.
فمن أجل تعزيز مصالحها الوطنية الأساسية، تحتاج الولايات المتحدة لعلاج نفسها من إدمانها للتنمر وتحمل مسؤولياتها كقوة عظمى من أجل المصالح المشتركة للعالم. “كونك متنمراً قد يجلب لك مزايا مؤقتة، ولكنك تتجه نحو إيذاء نفسك على المدى البعيد”.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: رويترز – Nikkei Asian Review – TechNode.