قد يبدو العنوان صادماً بعض الشيء، ولكن عند التوقف قليلاً والتفكير فيه سيبدو منطقياً، حيث أن الكثير من الظواهر السياسية لا يمكن دراسة أبعادها بشكل صحيح وسليم إلا بعد مرور فترة على حدوثها. فبالنظر إلى ما سمّي “الربيع العربي” وبعد سنوات على حدوثه في العام 2011، نرى بأن تأثيراته الجمّة وقعت على الجمهوريات، بنسب متفاوتة، أكثر ما تأثرت به الدول العربية ذات الحكم الملكي.
من هنا، لا توجد أية تأثيرات تذكر لهذا الربيع سوى ما شهدته سلطنة عمان من أحداث، في فبراير/شباط 2011، والمسماة بـ “المسيرة الخضراء”، والتي خرجت تأثراً بما حدث في تونس ومصر لا سيما لجهة غلاء المعيشة وبعض ملفات الفساد، حيث انتهت بتنفيذ العديد من المطالب وإعفاء بعض المسؤولين من مهامهم. غير أن ما يميز تلك الإحتجاجات أنها خرجت مساندة السلطان لتنفيذ مطالبهم ولم تخرج عليه.
في مسألة عُمان، تحديداً، يمكن القول بأن الإحتجاجات لم تتطور لوجود خصوصية ما تتمتع بها مسقط أبرزها لناحية المذهب الديني أو “الإباضية” التي تدين به دوناً عن بقية الدول المحيطة، وطبيعة السياسة العمانية الخارجية المتباينة مع دول الجوار بمن فيهم دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى البيئة الإجتماعية للعمانيين أنفسهم.
الأمر نفسه حدث في كل من الأردن والمغرب. فعلى الرغم من أن هاتين المملكتين يوجد فيها تنظيم قوي للإخوان المسلمين، إلا أنه لم يتم الإنقلاب على الحكم والإستيلام على مقاليد السلطة، كما حدث في مصر وتونس، على الرغم من النفوذ الكبير الذي يتمتعون، بل بقيت الأمور تحت السيطرة لأسباب عدة أهمها “النسب الهاشمي” لكلا الملكين (الذي يعطيهما الحصانة في مواجهة السياسات الحكومية إذ تبقى المساءلة محصورة برئيس الوزراء على أبعد تقدير)، والدعم السعودي بسبب هذا النسب (على الرغم من وجود بعض التباينات أحياناً وآخرها الأزمة السياسية بين الرباط والرياض)، وأيضاً مصالح بعض الدول الغربية في الإبقاء على أنظمة الحكم تلك ومنعها من الإهتزاز.
فيما يخص الأردن، فهو يعتبر بلداً محورياً مهماً جداً منذ نشأته، حيث أنه متأثر إلى حد كبير ببريطانيا حامية الملكيات، إلى اليوم إذ تأتي أهميته في المرحلة الحالية بالذات بسبب دوره الفعال ضمن المشرق. فهو يعتبر نقطة ارتكاز البيكار ضمن أية مفاوضات عربية – إسرائيلية مقبلة من جوانب عديدة أهمها أنه الوصي التاريخي على المقامات الإسلامية في القدس (والتي تشكل أبرز العوائق أمام أية تسوية سياسية مقبلة)، وكونه يشكل الظيهر الفلسطيني شرق نهر الأردن، إضافة إلى أن أية تسوية لهذا الملف قد لا تمر بدون موافقته، ومنها ما يعرف بـ “صفقة القرن”.
أما بالنسبة إلى المغرب، فهناك العديد من الأسباب، إضافة إلى ما سبق، التي تجعل من بقاء الحكم فيه ضرورة حيث أن ثبات الحكم فيه يشكل عامل اطمئنان للدول الأوروبية المجاورة لا سيما فيما يتعلق بمسألة المهاجرين غير الشرعيين إذ يعتبر المغرب أقرب النقاط الجغرافية العربية – الإفريقية إلى أوروبا، إضافة إلى موقعه الإستراتيجي المطل على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي معاً وإشرافه على مضيق جبل طارق، ناهيك عن المشاريع الطاقوية القادمة من الساحل الإفريقي إلى أوروبا.
وبالعودة إلى أحداث البحرين، يمكن القول بأنها كانت الأخطر على الإطلاق، لكن ردة الفعل جاءت سريعة بتدخل قوات “درع الجزيرة” لتثبيت النظام فيها إذ أنها تدخل ضمن الأمن القومي الخليجي، عامة، والسعودي، خاصة؛ وبالتالي، أن أية تأثيرات فيها قد تنعكس على المنطقة بأكملها. إضافة إلى ذلك، يبدو من الواضح بقاء الحراك فيها تحت سقف المطالب الشعبية وعدم تحوله إلى نزاع عسكري. وهنا يمكن مخالفة الرأي القائل بعدم القدرة على عسكرة تلك الإحتجاجات، فموقع البحرين الساحلي يشكل منفذاً مهماً لتهريب الأسلحة، لكن مثل هذا الفعل سيضع إيران على رأس لائحة الإتهام المباشر بتهديد أمن الخليج لكون الأغلبية السكانية هي من الشيعة، وإمكانية تطور الأمور إلى مواجهة، شاملة أو محدودة، لا يرغب أحد بها، ففي ذلك الوقت كانت بوادر اتفاق أمريكي – إيراني، حول الموضوع النووي، تلوح في أُفق مسقط. إضافة إلى ذلك، هناك سبب أساسي ومهم أيضاً يتمثل في أنها محاطة بمجموعة من الدول ذات النسيج السياسي عينه مما يجعل التأثير عليها محدوداً نظراً لقوة جذب المركز.
فيما يخص الجمهوريات، تعد سوريا من الدول التي نجت “سياسياً” من إرهاصات “الربيع العربي” لكنها دفعت ثمناً باهظاً، في الشقين الإقتصادي (كتدمير البنى التحتية) والإجتماعي (كمحاولة تمزيق النسيج الديمغرافي)، بسبب الحرب التي خيضت عليها لأسباب خارجية أكثر منها داخلية، إلا أن الصمود السوري كان عاملاً مهماً في التخفيف من تلك الهجمة، وذلك مرده لعوامل داخلية وخارجية.
على الصعيد الداخلي، ثبت مع الوقت بأن سوريا قد بُنيت على اسس متينة، لا سيما خلال حكم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، إضافة إلى أن المشهد الليبي كان مخيفاً للسوريين مما شد أواصرهم بشكل كبير ظهر جلياً بعد امتصاص الصدمة وجلاء المؤامرة عليها التي كشف خفاياها رئيس الوزراء القطري السابق، الأمير حمد بن جاسم آل ثاني في إحدى المقابلات التلفزيونية معه.
أما على الصعيد الخارجي، كان لافتاً التحرك الروسي صوب دمشق خصوصاً بعد الدور المشبوه الذي لعبه الغرب في الأزمة الليبية، مع صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973/2011، إذ اعتبرت موسكو أنها “خذلت”. من هنا، كان السعي نحو سوريا من أجل عدم تكرار السيناريو نفسه أو على تخفيف حدته، على أقل تقدير، نظراً لأهمية مصالحها فيها، سواء لجهة أمنها القومي أو التواجد على شاطىء المتوسط أو مخزونات الغاز.
بما يخص اليمن، فإن “ثورة الشباب اليمنية” استطاعت إرغام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح من التنازل عن السلطة لمصلحة تقاسمها؛ وبالنسبة إلى العراق، كان التأثير الأمريكي فيه كبير جداً إضافة إلى أنه كان ما يزال يعاني من تفجيرات مميتة جعل مواطنيه يبحثون الأمن أولاً. وفيما يخص لبنان، فهو بعيد كل البعد عن قيام ثورات مطلبية لكون تركيبته الطائفية قادرة على إجهاض أي حراك شعبي مهما كان محقاً.
نأتي هنا للحديث عن كل من السودان والجزائر. يبدو أن موجة “الربيع العربي” (البعض لا يصنف تلك الإحتجاجات ضمن هذا السياق وهو رأي فيه الكثير من الصواب) قد تأخرت بالوصول إليهما، وهو ما يعد عاملاً إيجابياً خصوصاً بعدما رأى كلا الشعبين مدى خطورة ما حدث في دول مجاورة وشقيقة لهم، من قتل ودمار وتخريب؛ بالتالي، كانت المشاغبات التي قام بها بعض المحتجين لا تعدو أكثر من “فشة خُلق” لا أكثر بسبب الأوضاع السياسية والمعيشية التي يمرون بها، ناهيك عن أهمية وقوف الجيش مع المعتصمين قبل دخول “الطابور الخامس” على الخط وإجهاض هذا التحركات، مما أعطى الحراك زخماً قوياً تحاشت فيه كلا الدولتين ما هو أخطر.
فيما يخص السودان، أجاد الرئيس السابق عمر البشير الرقص على حبال المتناقضات، إذ أنه كان يمسك العصا من النصف خصوصاً بعد نشوب الأزمة الخليجية. من هنا، لم تأتِ احتجاجات العام 2011 ثمارها، بل استطاع البشير تجاوزها عبر الكثير من التسهيلات التي قدمها لجميع الأفرقاء وهو ما تم صرفه في مسألة البقاء في الحكم مع القدرة على تجاوز أمر التوقيف الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية على خلفية أحداث دارفور. لكن سبب بقائه في الحكم كان هو نفسه سبب خروجه منه، إذ تقاطعت بعض المصالح العربية والدولية فتم رفع الغطاء عنه ونجح الحراك الشعبي، والذي يمتلك مطالب محقة، بإسقاطه.
في الجزائر الأمر مختلف قليلاً. فهذا البلد له تاريخ حافل بالنضال ضد المستعمر ما جعله نصيراً لحركات التحرر في العالم العربي منتصف القرن الماضي. ففي العام 2011، استطاع النظام فيه احتواء الحراك خصوصاً بعد استشعار الخطر القادم من الشرق حيث قام الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقه، بعدد من الإجراءات كان أبرزها رفع حالة الطوارئ. إضافة إلى ما سبق، توجد بعض العوامل التي أبقت نظام الحكم قائماً أبرزها تداعيات الأحداث التي جرت في دول عربية أخرى، كما سبق وأسلفنا، مروراً بالخوف من وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم واستعادة أحداث سنوات “العشر السوداء” الدموية، وصولاً إلى الطريقة الحضارية، إلى حد كبير، التي يتعاطى فيها، إلى حد الآن، الحراك الجزائري لتحقيق مطالبه من دون المساس بمؤسسات الدولة.
ختاماً ومن دون الدخول بتفاصيل أعمق، يبدو من الواضح بأن الملكيات أثبتت أنها أكثر تماسكاً من الجمهوريات. لذا، يمكن تسجيل بعض من الملاحظات، أبرزها:
- استطاعت الملكيات تطويع المواطن فيها سياسياً، طاعة ولي الأمر، واقتصادياً، إنشاء صناديق لتقديم المساعدات الإجتماعية، ما جعل حركة التقلبات فيها ضمن هامش ضيق جداً.
- بعد سقوط رموز سياسية عن سدة الحكم في بلادها، يبدو بأن هناك اتجاه إلى إعادة إنتاج تلك الجمهوريات على شاكلة الملكيات من تلك قبل الملكية نفسها وربطها فيها بشكل عميق وقوي، حيث يذكر العديد من الباحثين أمثلة على ذلك أبرزها ما يجري في مصر لجهة التعديلات الدستورية وتمديد الولاية الرئاسية، ودعم المشير خليفة حفتر، في ليبيا، لمواجهة حكومة طرابلس المعترف بها دولياً (بما فيها من صراع خليجي – خليجي)، والرفض الضمني للمجلس الإنتقالي في السودان بتسليم السلطة إلى المدنيين وإنهاء حقبة الحكم العسكري، والحديث عن إنشاء تحالف عسكري، الناتو العربي، وربطه بها. كل تلك الأمثلة تشير إلى إعادة إنتاج أنظمة الدول ضمن عقيدة ملكية بغلاف جمهوري.
- إن تماسك هذه الملكيات إلى حد الآن لا يعني حصانتها من السقوط، بل أن الأسوأ يكمن في أن انهيارها سيكون بالجملة ودفعة واحدة، وهذا مردة إلى الترابط الشديد بينها. فكما أن هذا التماسك يعد عامل قوة، فهو بذات الوقت نقطة ضعفها.
- إن ارتباط بعض الملكيات بأجندات خارجية يجعلها عرضة لتقلبات سياسات تلك الدول، ما يعني أن أي تغيير في استراتيجياتها قد يؤدي إلى التضحية بها أو على حسابها.
- شهدت الجمهوريات، على عكس الملكيات، ثورات كان لها بعداً استقلالياً، بغض النظر عن رأي البعض فيها بأنها شكلية، حيث كانت لديها نزعات أو توجهات ما نحو التحرر، بينما العديد من الملكيات بقيت رهينة مصالح الغرب وتوجهاته.
مصدر الصور: منظمة العفو الدولية – الجزيرة – سبوتنيك.