سمر رضوان*
إن مدينة إسطنبول، ذات البُعد الإقتصادي المهم، هي صورة مصغرة عن تركيا. مدينة امتلكت أهمية متميزة عبر القرون، وأبرز ما يميزها موقعها الدفاعي وتوسطها بين الشرق والغرب، وأوروبا وآسيا.
وتبرز أهمية السيطرة السياسية عليها من قِبل الأحزاب التركية حيث يقول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن “من يحكم إسطنبول.. يحكم تركيا”. من هنا، أتت هزيمة الحزب الحاكم في إنتخابات إسطنبول، وللمرة الثانية، ضربة سياسية مدوية لحزب “العدالة والتنمية”، حيث حصد الخيبة من جديد على الرغم من مساعيه القضائية الناحجة، من خلال الطعن بالنتيجة السابقة.
إن سقوط رئيس الوزراء السابق، بن علي يلدريم، أمام شاب معارض، أكرم إمام أوغلو، يعد مؤشراً مهماً على وجود حالة تغيير حقيقية ضمن الداخل التركي بعد حالة الإختناق السياسي بفعل سياسة الرئيس أرودغان وحزبه الحاكم، لمدى عقد ونيف من الزمن.
مستقبل صعب
لا شك أن هذه الخسارة فتحت الأبواب على مصراعيها، وبرز في العلن أسئلة مهمة جداً أبرزها: ما هو مستقبل أردوغان وحزبه سياسيا في تركيا؟ وهل يُعتبر ذلك نهاية حقبة سياسية سيئة على تركيا وبداية أخرى أكثر إنفتاحا وحرية؟
إن خسارة يلدريم، من المنظور العام، تعني أن الديمقراطية قالت كلمتها. لكن وبتحليل بسيط، إن الشعب التركي هو من قال كلمته، ورأى أن البلاد ذاهبة إلى مجهول من خلال تكريس نمط الإسلام السياسي، عبر “إخوانية” أردوغان وحزبه الذي حاول تعميمها في تركيا بدلاً من العلمانية التي عاشت فيها على مر عقود خلت.
لا بل أكثر من ذلك، لقد حاول نقل تجربته إلى الخارج، كما في سوريا، إبان شهر العسل السابق بين البلدين، إلى جانب تحالفاته مع كل الدول ذات الهوى الإخواني كقطر ومصر، في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، والسودان، في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير.
من هنا يمكن القول بإن الرئيس أردوغان نظر بعين حزبه وأنصاره لا بعين الشباب التركي ككل، وظنّ أنه بتصدير مشاكله إلى الخارج سيحقق نوعاً من التوازن في الداخل، أسوةً بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقارناً نفسه بدولة عظمى. فطموحه، الذي يفوق تقبُّل الأتراك، أودى به وحزبه إلى خسارة كبرى المدن التركية، كأنقرة وأزمير إضافة إلى إسطنبول، وسيبدأ العد التنازلي لمسيرة حكم لم تكن يسيرة على تركيا وشعبها.
هذه الإنتخابات ستحدد المستقبل السياسي للرئيس أردوغان خاصة في الانتخابات الرئاسية القادمة، العام 2023، الأمر الذي يعني أن الحزب الحاكم ينتظره وضع معقد وصعب جداً، بعد هذه الخسارة الكبيرة.
هزمنا يلدريم وغداً أردوغان
بتعبيرات وكأنها عرس حقيقي وإحتفالات، عمّت مدينة إسطنبول مهللة بإنتصار مرشحهم الشاب وصادحين بصوتٍ مرتفع “كل شيء سيصبح جيداً” وهي عبارة أكرم إمام أوغلو في حملته الدعائية. هذه الجملة تعطي انطباعاً سلبياً عن الوضع التركي بأنه غير صحي ويحتاج إلى تحسين كبير على وجه السرعة. فمنذ فترة حكم الرئيس أردوغان وإلى اليوم، أصابت تركيا العديد من الأزمات الإقتصادية، من إنهيار لليرة والعقوبات الإقتصادية، وصولاً إلى الخلاف الحاد بين كل من المعارضة والحزب الحاكم حول قضايا إقليمية ودولية، منها سوريا وليبيا، ناهيك عن اعتماد سياسة “المراوغة” واللعب على الحبال ما بين روسيا والولايات المتحدة.
كل تلك الأحداث وغيرها، شكلت محفزاً مهماً وكبيراً للمعارضة من أجل إجراء تغيير ما في هذا الستاتيكو، وهو ما صعب الأمور أمام أي مرشح مستقبلي لحزب “العدالة والتنمية” للوصول إلى منصب رئيس الوزراء أو رئيس البلاد. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل توجد شخصية داخل الحزب الحاكم يمكنها أن تهزم إمام أوغلو في أية انتخابات قادمة؟
اليوم، هزمت المعارضة يلدريم وأنهت مستقبله السياسي والتنافس لم يعد مفتوحاً على مصراعيه، بل تحدد بشخص الرئيس أردوغان وحده. فحتى يعيد الحزب الحاكم ترميم نفسه من خلال تغيير بعض من سياسته، يبدو أن حقبة الخلافة التركية ذات النفس الإخواني باتت مهددة بالزوال، لكن يمكن الإستفادة من الخسارة واعتبارها فرصة للمراجعة والتصويب وإعادة احتواء الأصوات الناقدة داخله، والتخفيف من حدة الخطاب ضد المعارضة، ورفع سقف حريات الإعلام والتعبير، وهو أمر مستبعد في ضوء إدارة متشددة إسلامياً ناهيك عن تداعيات الإنقلاب الفاشل في صيف 2016.
شارة الإنطلاق
إن نتيجة الانتخابات هي إشارة البدء لمسارات متضاربة ومتعاكسة على الساحة السياسية التركية، لكنها تتقاطع جميعها في نقطة واحدة وهي أن المعارضة لن تسمح للرئيس أردوغان وحزبه بالتفرد بالسلطة بعد الآن.
هذه الإنتخابات شكلت اختباراً حقيقياً لشعبية الرئيس أردوغان، بعد فوزه في كل الإنتخابات منذ وصول حزبه إلى السلطة في العام 2002. فبعد سيطرة أردوغان طيلة 25 عاماً على كبرى المدن التركية كإسطنبول وأنقرة، معقلا حزب “التنمية والعدالة”، إلا أن الحزب واجه انتكاسة غير مسبوقة في تلك المدن نفسها.
في الختام، يبدو أن الرئيس أردوغان سيواجه، من الآن وصاعداً، مشاكل وعقبات قد تعرقل شعبيته داخل حزبه بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية التي أفرزتها سياساته الأخيرة في المنطقة. فخسارة الحزب، وللمرة الثانية في فاصل زمني قصير، لن تشكل ضربه له فحسب بل من شأنها تعزيز الإنشقاقات الداخلية، خصوصاً وأن إسطنبول لها حيِّز جميل في قلب الرئيس لأنه كان يوماً ما رئيساً لبلديتها وحقق لها الكثير من الإنجازات في حينها.
*المدير التنفيذي في مركز سيتا
مصدر الصور: العرب اليوم – النهار.