عبدالله جوده محمد*
توطئة
تعتبر الأزمة الكورية من أهم بؤر الصراع الحالية في العالم؛ ذلك أنها شملت في القرن الماضي الصراع الإيدلوجي بين المعسكريين الشرقي والغربي؛ الرأسمالي والشيوعي او الإشتراكي؛ وفي القرن الحالي تحوي في طياتها على الأبعاد الإقتصادية، للمد الصيني، أو السياسية والأمنية، للولايات المتحدة.
إن الأزمة في ظاهرها هي أزمة ثقة بين الأنظمة الكورية وتلك المحيطة بها؛ وقد كرس لذلك التاريخ الأمبريالي لكل دول الجوار بداية من اليابان وحروبها العالمية أو إجتياحها للصين في عام 1937؛ أو النظام الصيني والذي دعم النظام الكوري الشمالي في أول صراع ومواجهة عسكرية بعد الحرب العالمية الثانية.
توصيف الأزمة
- تقديم تاريخي
مرت الأزمة بحالة من الشد والجذب بين النموذج السلمي التفاوصي والصراعي الإستفزازي لكبح القوتين بعضهما لبعض؛ بدأت الازمة مع تقسيم شبة الجزيرة الكورية على أساس أيدلوجي بين المعسكريين إلي شمالي وجنوبي؛ يفصل بينهما خط عرض 38 درجة. وفي عام 1948، إنسحب الإتحاد السوفيتي من الجزء الشمالي، ثم اندلعت الحرب، عام 1950، عندما تجاوزت القوات الشمالية الحدود، وإكتسحت كوريا الجنوبية حيث إستمرت ثلاث سنوات .
الأزمة لم تنتهي بالرغم من تقسيم شبة الجزيرة الى قسمين، حيث أن موجة العداء المتجذرة من قبل النظامين الكوريين والتي تغذيها الأطماع الخارجية لسياسيات الدول لن يكون بالأمر السهل البتة؛ خاصة وأن سطح العلاقات يطفو عليه أحداث صراعية مختلفة أبرزها إغراق السفينة الحربية الكورية الجنوبية “تشيونان” وقتل 46 بحاراً عام 2010؛ أعقب ذلك تدريبات مشتركة بين كل من اليابان وأمريكا والتي اعتبرت أكبر مناورة نفذها جيش الدفاع الذاتي الياباني مع القوات الأمريكية؛ وبمشاركة قوات من كوريا الجنوبية بغرض إظهار التضامن والتنسيق.
- صعود ترامب :
اعكس وصول الرئيس دونالد ترامب الى سدة الرئاسة الاميركية، والتيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا، على طرق تعاطي الأنظمة السياسية الصاعدة مع الأزمات الحالية منها الكورية؛ حيث دعا الرئيس ترامب أولا بلاده في اليابان وكوريا الجنوبية الى نظام الدفع مقابل الحماية؛ مثل إتفاق كوينسي الشهير بين السعودية وأمريكا؛ لذلك إرتى حلفاء امريكا التقليديين الى تعزيز أنظتهم الدفاعية؛ فعمدت كوريا الجنوبية الى تطوير برنامج ثاد (THAAD) وهو نظام دفاع جوي، والذي قال عنه الخبراء بأنه يعد خياراً أفضل من وضع صواعد او صواريخ نووية في كل من اليابان وكوريا الجنوبية.
وفي تطور آخر، دعا الرئيس ترامب نظيره الرئيس الكوري الشمالي الى “الأدب”؛ وأنه لن يتبع سياسة سلفه السابق وهي “نظرية الصبر الإستراتيجي”، واشار الى أن كل الخيارات متاحة. فبعد أيام من إطلاق 59 صاروخ من طراز “توماهوك” على مطار الشعيرات السورية، تحركت حاملة الطائرات الأمريكية “كارل فنسن” صوب شبة الجزيرة الكورية لتبقى متواجدة بالقرب من بؤرة الأحداث الكورية الشمالية.
وفي خضم الأزمة تبقي المصالح الصينية هي الأكبر مع أطراف النزاع، حيث أنها تمتلك علاقات إقتصادية قوية جداً مع كلا من اليابان والكوريتين؛ وستكشف القدرة الكبيرة على المؤامة والمناورة ماهية السياسية الخارجية الصينية، وجزء من مستقبل الصعود الصيني العالمي.
- الصين
تعيش الصين مأزقا حقيقاً في الأزمة الكورية كلما إشتد رحاها ذلك مرده الى العلاقات الإقتصادية القوية جدا والتي قد تصل الى مصافي الشراكة الإقتصادية مع كل من كوريا الجنوبية واليابان، وعلاقات وصفها النظام الكوري الشمالي بأنها لا يمكن الإستغناء عنها من طرف بيكين. تقف بكين في منتصف الدائرة دوما، فالظروف لا تمنحها حق الأختيار ذلك أن بإنضمامها الى المعسكر الكوري الجنوبي تكون قد أخذت صف الولايات المتحدة، ومخالفة بذلك استراتيجيتها التي تقوم على حصر دائرة النفوذ الأمريكية في أسيا. اما اذا إنضمت الى المعسكر الكوري الشمالي، فتستتحول المليارات من التجارة البينية بين الصين وكوريا الجنوبية واليابان الى رماد تذروها الريح في يوم عاصف. من هنا يأتي السؤال الاهم: كيف ستكون الموائمة الصينية بين النفوذ الأمريكي والعلاقات الأقتصادية؟
سوف نحاول الإجابة على هذا التساؤل الكبير، في السطور القادمة، من خلال عرض علاقات الصين بالدول اطراف النزاع.
علاقات الصين بأطراف الازمة
- اليابان
- على الصعيد الاقتصادي
ترتبط الصين بعلاقات إقتصادية قوية جدا مع اليابان بعد تطبيع العلاقات في 1972؛ ذلك أنه في عام 2007 أضحى الصين أكبر شريك إقتصادي لليابان؛ فيما وصل حجم التبادل التجاري بينهم في عام 2011 الى 365 مليار دولار وهو ما يمثل 11% من التجارة الخارجية الصينية؛ و21% من حجم التجارة اليابانية؛ كما يقدر الإستثمار الياباني في الصين بـ 12 مليار دولار؛ لتصل أصول الإستثمار المتراكمة منذ عام 1996 الى 83 مليار دولار أمريكي؛ وتعمل أكثر من 23000 شركة يابانية في الصين وتوفر 10 مليون وظيفة عمل
- على الصعيدين العسكري والسياسي
برغم من العلاقات الإقتصادية القوية إلا أن الجانبان على الصعيدين العسكري والإستراتيجي تسود بينهم الشك وعدم الثقة؛ ويتنامي لدي الجار الياباني نظرية “الخطر الصيني” ذلك أن الصعود الإقتصادي الصيني الكبير جدا لم يمنعها من بناء أضخم الجيوش على مستوي العالم؛ الأمر الذي دعا اليابان الى إستدعاء ماضيها العسكري؛ ففي عام 1998 تم تطوير البرنامج الدفاعي الباليستي (DMB)؛ وإجراء تجربة إعتراض لصاروخ بحري من طراز (SM-3) بالتعاون مع الولايات المتحدة؛ وفي عام 2009 أرسلت اليابان مدمرتين حربيتين لمحاربة القرصنة في خليج عدن؛ وفي العام 2010، تم إحتجاز أفراد طاقم صيد صيني حيث أصرت اليابان على تنفيذ قانونها الداخلي، إلا ان الأمر باء بالفشل بعد إطلاق سراحهم وهو ما أضعف موقف الحكومة اليابانية داخليا.
واهم ما يمكن ملاحظته أنه بالرغم من العلاقات الإقتصادية القوية إلا أنه لم يمنع التنافس العسكري الإعتراضي الياباني في دحض المد الصيني المنتشي في أسيا؛ بمباركة من الولايات المتحدة الأمريكية.
- كوريا الجنوبية
- على الصعيد الاقتصادي
تطورت العلاقات مع الصين الى الشراكة الإقتصادية الشاملة بدلا من التعاونية في 2008؛ وزادت الإستثمارات الكورية في الصين متفوقة على نظيرتها اليابانية متجاوزة الرقم 75 مليون دولار؛ لترتفع الى البلد الثاني الأكثر إستثمارا في الصين.
- على الصعيد السياسي
العلاقات الإقتصادية القوية لم تمنع جذور عدم الثقة التاريخية أيضا، ذلك أن حادث إغراق المدمرة الحربية الكورية الجنوبية (تشيونان) قوبل برد لم يكن على المستوي المناسب من قبل بكين؛ الامر الذي الذي إستنكرته كلاً من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية؛ حيث دعت بكين مجلس الأمن الى التفاوض والخيارات السلمية، لترد كوريا الجنوبية وأمريكا ذات الرد “ليس هذا وقت المفاوضات”.
- كوريا الشمالية
تعتبر كوريا ورقة المناورة الفعلية للصين إذ أنها الداعم الرئيسي للنظام الكوري الشمالي إقتصاديا وعسكريا، وأيضا في منصات المنظمات الدولية.
- على الصعيد الاقتصادي
تعتبر الصين هي أكبر المصدرين الي كوريا الشمالية، هي الشريك الأول لها تليها في ذلك الهند؛ فهي بذلك تعتبر الراعي “الرسمي” لنظام بيونغ يانغ. ولكن حسب ما تم اعلانه من إحصائات رسمية، بلغت التجارة الصينية 1.% من حجم التجارة الخارجية الصينية، كما أن الميزان الجاري اصبح يصب بشكل متطرف لصالح الصين.
- على الصعيد السياسي
ما جعل العلاقات الكورية الجنوبية واليابانية مع الصين مضطربة التاريخ الإستعماري من قبل اليابان تجاه الصين، والدعم الصيني لكوريا الشمالية منذ نشأة النظام الكوري الشمالي حتى يومنا هذا، والإعتراض على القرارات الدولية بحق بيونغ يانغ بالفيتو الصيني، مما شجع العلاقات بين البلدين التاريخ المتواصل من الدعم الصيني للنظام الكوري الشمالي بل إن غالبية الشعب الصيني يرأى أن التعاون الأفضل يكون مع الحليف الكوري الشمالي على حساب الطرفين الأخرين.
سيناريوهات حل الازمة من قبل الصين
لا تمتلك الصين الكثير من الحلول، فعلاقاتها الإقتصادية تضغظ عليها بقوة وتوجهاتها للصعود العالمي بين شد هذا وجذب، وفيما يلي عرض لتلك السيناريوهات.
- سيناريو الضغط
وهذا السيناريو الاقرب للحدوث، وهو قائم على دائرة من الضغط الذي إلا لم يتم بالشكل المناسب سيعرض هذه الدائرة للإنفجار بل والكرة الأرضية، وهو أن تقوم بكين بالضغط علي النظامين الكوري الجنوبي والياباني بغية الجلوس على طاولة المفاوضات في الوقت التي تضغط فيه علي كوريا الشمالية بالشراكة الإقتصادية والدعم غير منقطع النظير. لكن سيكون للصين محددات في هذا السيناريو أبرزها: اولا، عدم تفكيك البرنامج النووي الكوري ووضعه تحت مراقبة دولية (حتى يتم إستدعائه كمبرر ضد النفوذ الأمريكي إذا اخل بمصالح بكين). ثانيا، ستكون هناك تسوية لبعض المشكلات المتعلقة بين الصين وجيرانها، سواء قضية الصين الواحدة أو النزاع في بحر الصين الجنوبي أو المشكلات العالقة بين الصين واليابان حدوديا (مثل إعطاء الشركات الصينية الأولوية في إستخراج النفط من المناطق المتنازع عليها مع اليابان أو تصديره للصين)، وهو الأقرب للحدوث في حالة الدعم من الولايات المتحدة .
- سيناريو التعاون
هو أن تقوم الدول الثلاث بالتعاون إقتصاديا فيما بينها على ان تكون الصين هي حلقة الوصل بعلاقاتها الإقتصادية القوية جدا مع الأطراف الثلاث، وأن تقوم بإنشاء رابطة إقتصادية على غرار “آسيان” كمقدمة للتعاون والذي قد يصل الى تعاون كامل علي مستوي الإتحاد الجمركي شريطة تخفيف البرنامج النووي أو إلغاءه نهائيا. في مقابل، إنهاء العزلة والتعاون مع النظام الشمالي، وهذا التعاون سيخفف التوترات الامنية لأن قيام أي نزاع مسلح سيكون عالي الكلفة للجميع دون إستثناء. يتوقف هذا الامر على إزالة جذور عدم الثقة التاريخية بين الدول الثلاث (اليابان – كوريا الشمالية – كوريا الجنوبية) وما يتعلق بقضايا نساء المتعة في الحرب العالمية الثانية؛ والإشراف الدولي عن كثب بضمانات حقيقية قوية؛ وهو ثاني السيناريوهات حدوثاً.
- سيناريو الصراع
وهو السيناريو الأخير القاتم والقائم على فكرة توتير الاجواء أكثر واضفاء مزيد من الإثارة الى الواجهة، وفي هذا السيناريو يتخلى الجميع عن المنطق، ويضرب بجميع المصالح عرض الحائط وهو سيناريو مستبعد الحدوث؛ ذلك أن قيام حرب ستعصف بالميزان الصيني التجاري بشكل كبير بل وستضع القوة الناعمة الصينية الوليدة في مأزق حقيقي.
*كاتب سياسي
مصدر الصورة: قناة الحرة