ايرنيو سيمناتور**
النظام والواقع
يتميز النظام الدولي الحالي، الذي يشمل النظام المشترك بين الولايات والمجتمع العالمي والعولمة الإقتصادية، بديناميكيات ثلاث: (1)التجزئة، (2)الإستقطاب، (3)المواجهة. والديناميكية الأخيرة تشير إلى مسألة إلى إعادة تشكيل التحالفات العسكرية بالإضاف إلى مخاطر كبيرة تتمثل في إمكانية حدوث نزاعات بين الصين والولايات المتحدة وروسيا والوقوف على شفير “فخ ثوسيديدس”، التي ابتكرها الباحث الأمريكي غراهام أليسون – Graham Allison، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد.
هذه المخاطر تنتمي إلى النظام التاريخي بحيث أنها تنتج سياسات متناقضة تتمثل في شراكة من التنافس والعداء. هذه السياسة تدور حول السيطرة على أوراسيا ومنطقة المحيط الهادئ الهندية، حيث تكتمل الإستراتيجيتين: (1)قلب العالم، (2)وحافة اليابسة.
أجبرت المنافسات، التي تهز أجزاء كثيرة من العالم الآن، الشرق والغرب على تشديد تحالفاتهما العسكرية، والبدء في البحث عن مشروع جديد لضمان الأمن في أوروبا، والاستقرار الإستراتيجي والوحدوي للفضاء الأوروبي.
ومع ذلك، فإن أية محاولة لتحديد أي نظام إقليمي لا يمكن تصورها اليوم إلا من منظور النظام العالمي، والبحث عن أشكال التوازن والإستقرار على هذا الكوكب.
بالعودة إلى الثالوث الجيو – سياسي والإستراتيجي لروسيا والولايات المتحدة والصين، وكذلك في أوروبا والهند واليابان، فإن حرية المناورة للقوى الإقليمية في الشرق الأوسط والخليج وإيران يجب أن تكون مفهومة. فهنا، يكمن أحد مفاتيح الإستراتيجية العامة للقوى العظمى.
النظام ومستويات قوته
من وجهة نظر تحليلية، يفرض النظام الدولي عدة مستويات من القوة:
– أقطاب القوة الكلاسيكية المتمركزة في كل مكان والمتضاربة فعلياً (أمريكا، أوروبا، روسيا، الصين، الهند)
– ثنائي القطبية العالمية المخفية المرتكزة على قواعد غير المتماثلة (الولايات المتحدة والصين)
– وجود ثلاثة مناطق نفوذ رئيسية، مستوحاة من ثلاث مناطق حضارية، وهي أوروبا والولايات المتحدة والمملكة الوسطى.
في هذا السياق، يصبح المسرح العالمي الكبير حيث تعد الإستراتيجيات متعددة على ما يلي: عالمية الأمم المتحدة، اقتصادية لمؤسسات “بريتون وودز”، والأمن والعسكر من خلال نظام التحالفات الإقليمية (الناتو).
إن التفرد الجيو – سياسي للولايات المتحدة، أكبر جزيرة في العالم، سيضطرها للتصالح مع الإمتداد الواسع لأوراسيا، مركز ثقل التاريخ.
والسؤال هنا: هل ستصبح أمريكا قطب قوي بين أقطاب آخرين، متنازع معها ولكنها تبقى القطب المهيمن؟
الحركات الإستراتيجية وتناقضات التحالفات في أوراسيا
في أي نظام دولي، يشير تراجع اللاعب المهيمن إلى تشديد التحالفات العسكرية. تقدم هذه اللحظة نفسها كتناقض للخيارات بين القوى المحافظة (قوى الوضع الراهن) والقوى التخريبية (المراجعين أو المستائين).
اليوم، تنقسم استراتيجيات اللاعبين الرئيسيين على المسرح العالمي، بالنسبة للغرب، إلى دفاعية لتحقيق الإستقرار واليقظة النشطة، وللشرق، إلى هجومية للتخريب وتحدي التسلسل الهرمي الحالي للسلطة.
وبالتالي، تبرز حركتان إستراتيجيتان متنافستان، في الوقت الحالي، على المستوى العالمي، وهما:
– التحالف الصيني – الروسي: الذي يهدف إلى ضمان الإستقلال الإستراتيجي لـ “قلب العام” في حالة النزاع، وتعزيز التعاون عبر القارات في البنى التحتية الرئيسية من خلال تعزيز مبادرة “حزام واحد طريق واحد” بمشاركة حوالي 70 دولة.
– استراتيجية “احتواء” القوى القارية من قبل القوى البحرية لـ “حافة اليابسة” (أمريكا، اليابان، أستراليا ، الهند، أوروبا، إلخ) كحزام شبه جزيري خارج أوراسيا
من هنا، دعونا نتذكر أن كلا الطرفين في حالة من التنافس المعلن، مع أهداف استراتيجية معارضة.
في الواقع، يتم تعريف المحور الصيني – الروسي بأنه “منافس استراتيجي” أو “منافس منظم” (خاصة من قبل الإتحاد الأوروبي) بحيث يرفض الخضوع للنظام العالمي الذي أنتجته الحرب العالمية الثانية وصممته الولايات المتحدة.
النظام متعدد الأقطاب. “حفل عالمي للأمم” أم تعزيز “للحوكمة العالمية”؟
إن السمة الأساسية لنظام التعددية القطبية تتمثل في أنها لا تقوم على العولمة، في شكل “الحوكمة العالمية المعززة” مع المؤسسات الدولية متعددة الأطراف (الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، G7، G20)، التي تكمل النظام الأمريكي، وتهدف إلى دمج الدول الأعضاء في لعبة تعاونية عالمية. يسعى النظام متعدد الأقطاب إلى تحديد المصالح الأساسية للجهات الفاعلة الرئيسية، والتي تتعارض أهدافها تقريباً.
وبالتالي، فإن الهدف ليس تحديد التوازن بناءً على مفاهيم التبادل والتعاون، بل التنبؤ بخرق إستراتيجي، تحت سطح الإستقرار الظاهر.
من أوروبا إلى أوراسيا: تغيير في النماذج الجيو – سياسية
إن نهاية القطبية الثنائية، مع تفكك الإتحاد السوفياتي، خلقت نوعاً من التوتر ما بين الجهود الطاردة المركزية للدول المجاورة، “الأجانب الأقرباء”، الذين يسعون إلى تحرير أنفسهم من المركز الإمبراطوري، ورد فعل موسكو العكسي، التي تعتبر حريصة على استعادة سلطتها على المحيط من خلال سلسلة من التحالفات المغلفة، كمنظمة شنغاي للتعاون ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي.
تفتقر روسيا، وجميع دول آسيا الوسطى (إلى حد ما) ودول الخليج والشرق الأوسط والمغرب العربي، إلى قادة لديهم خبرة في الديمقراطية. في المقابل، لكن الإتحاد الأوروبي، بهدف التأثير والسيطرة على التوترات، ليس لديه مفهوماً جغرافياً استراتيجياً واضحاً لمفهوم “قلب العالم”، الذي يبدأ على حافة البحر المتوسط ويشمل الهضبة التركية والقوقاز قبل الوصول إلى منطقة الأرض المحورية في آسيا الوسطى.
بالنسبة إلى الحلف الأطلسي، قام بتطوير مفهوم إلتحام المصالح الجيو – سياسية للغرب، في هذا الإمتداد الواسع بين أمريكا وأوروبا.
“تراجع المهيمنين”: تناوب على الهيمنة أم “ثورة منهجية”؟
إن السؤال الذي ينبثق من النقاش حول دور الولايات المتحدة، في الوقت الحالي، هو ما إذا كان “الاستقرار المهيمن”، الذي ضمنته أمريكا منذ سبعين عاماً، في طريقه إلى الإختفاء آخذاً معه إنخفاض الهيمنة والحضارة الغربية، أم أننا نواجه تناوباً على الهيمنة وعالم ما بعد الإمبراطورية.
يمكن صياغة السؤال، المصاحب والمساوي في الأهمية، على النحو التالي: ما هو الشكل الذي سيتخذه هذا الإنتقال؟
هل سيأخذ بالفعل الشكل المألوف لسلسلة من نزاعات، بمعنى أن أحدهما يؤدي إلى الآخر وفقاً لنموذج الفيلسوف الفرنسي ريموند آرون – Raymond Aron استنادًا إلى قراءة القرن العشرين، أم سيتخذ شكل تغيير صراع شامل للحضارة، فكرة المجتمع وشخصية الإنسان وفقاً لنموذج روبرت شتراوس-هوبي – Robert Strausz-Hupé المتمثل في “الثورات النظامية” التي تميزت بأربع فترات ثورية كبيرة في التاريخ، والتي احتضنت عالم العلاقات الإجتماعية والسياسية للعالم الغربي، والتي المناطق الحضارية المعروفة؟
كل واحد منكم سيفهم بأن ما طرحناه هو سؤالنا جميعاً، في هذا الوقت وهذا المنتدى.
إلى من ينتمي المستقبل: الفضاء الكوكبي والديمقراطية والدول القومية
في بيئة مترابطة، إن الدول اتي تشكلت على أساس قومي وحضاري ستتقدم، فهي تتمتع بمقومات مستدامة، على أساس الإستقرار السياسي سواء أكان تقليدياً أم حديثاً، كما ان تماسكها الجغرافي والبيئي سمحان لها بتأكيد حضورها عبر التاريخ، وستضمن لها بقائها.
من الناحيتين الفلسفية والإستراتيجية، فإن المقاربة الجديدة للعملية التاريخية ستكون منهجياً وتعددياً ومعقداً، ومتناقضاً مع الأسلوب الديالكتيكي والعالمي للهيكلية الغربية.
اليوم، يكشف الجانب الآخر من التاريخ عن خيبات الأمل المريرة لأزمة الشرعية لدى الديمقراطيات، ومفاهيم حكم القانون والحقوق العالمية، والذنب الكبير في الفصل بين العلاقة الحميمة ما بين المصالح العالمي والفردية لصالح مفاهيم ورؤى تفتقر إلى السمو، ما يمهد الطريق أمام ثورة التقاليد والماضي كأشكال حقيقية للتاريخ.
في مقابل ذلك، يظهر توسيع “النموذج الديمقراطي”، في شكله التجريدي، كتعبير عن رؤية طوباوية للتاريخ، تتعارض مع تفسير مسيحي للعالم التاريخي.
على هذا المقياس، تشهد التقاليد والمجتمعات التقليدية على أشكال أخرى من “التاريخ”، غير مكترثة بفكرة العقلانية والشك و”الديمقراطية”، بصرف النظر عن طبقاتها العالمية والليبرالية وغير العضوية، والتي يتم استبعادها بأي حال من التداول.
إن تفسير الديمقراطية على أنها “نموذج” يعني أيضاً إنكار حقيقة أن الأنظمة السياسية تتطور وفقاً لقوانينها الخاصة، أو وفقاً لفردية تاريخية خاصة بها، والتي تظهر في أوروبا على شاكلة دول ذات سيادة أو دول وطنية
*ألقيت في “منتدى شيشيناو” الثالث بعنوان: المؤتمر الدولي “بعيداً عن لحظة الأحادية القطبية – توجهات متعلقة بعالم ناشئ متعدد الأقطاب” الذي عقد في سبتمبر/أيلول 2019.
** رئيس المعهد الأوروبي للشؤون الدولية – بلجيكا
المراجع:
(1) Heartland: “The Geographical Pivot of History”, 1904, Halford Mackinder.
(2) Rimland: The Sea Border of Eurasia, or “Inner Crescent”, the geostrategic concept of Nicholas Johan Spykman.
مصدر الصورة: منظمو المؤتمر.