كونراد ريكاس**

لقد انتهى العصر الذي كانت تصور فيه روسيا على أنها “إمبراطورية الشر”؛ ربما ليس إلى الأبد، ولكن بالتأكيد فيما يتعلق بعاملين طويلي الأجل. العامل الأول، التغيير في التسلسل الهرمي للأهداف الأمريكية. والعامل الثاني، إعادة توجيه، أو حتى إعادة التنظيم، الإتحاد الأوروبي.

بالفعل، إن السؤال يدور حول ما إذا كانت روسيا اليوم ستنتقم من الصين بسبب دبلوماسية الـ “بينغ بونغ” بين الرئيسين الراحلين ماو تسي تونغ وريتشارد نيكسون، التي بقيت واحدة من أشهر القضايا الجيو – سياسية في العالم، بل حتى في التاريخ. من هنا، إذا قرر الروس قبول عرض أميركي واضح، إلى حد ما آخذين موقع الجانب الأمريكي في صراع الرأسمالية الصناعية الرجعية (التي يتولاها الرئيس الحالي دونالد ترامب) ضد المركز الجديد الناشئ للرأسمالية المالية في بكين وشنغهاي، فلربما مرة أخرى (كما لم يحدث من قبل) سيسوون اللعبة العالمية ولفترة طويلة.

ومع إتخاذ مثل هذا الخيار، سيكون من الصعب العودة إلى السابق ليس هذا وحسب بل أكثر من ذلك بكثير؛ فالتقسيم الحالي للعالم بين غرب وشرق، سيظل ساري المفعول ولكن قد يتعين حينها الإعتراف بموسكو كأحد العواصم المتساوية في النظام الإقتصادي والسياسي العالمي المنتصر. وهنا أقول “ربما”.

هذا الخيار تدعمه إتجاهات غربية قوية في القيادة السياسية الروسية، أو “الأوربة الجديدة”، وكذلك طبيعة إقتصاد الإتحاد الروسي نفسه. من المعلوم أيضاً أننا في أوروبا الوسطى بتنا مقتنعين الآن بهذا الخيار، ولأننا على مسافة أقصر من تلك التي مع اشنطن. لذلك، نحن مطيعون، بشكل خاص، للتعليمات الواردة من هذا الإتجاه. ولكن على عكس ما يقوله الأمريكيون للروس، فإن نقاط الخلاف العديدة بين موسكو وبكين لا تكاد يذكر، إن لم نقل معدومة. فلماذا تغلق روسيا إحدى إتجاهات الصراع مع الغرب في وقت يفترض عليها فتح إتجاه آخر مع الشرق الأقصى أكثر تنموياً وتوجهاً نحو المستقبل؟

ولكن حتى بالنسبة إلى هذا السؤال المهم، توجد إجابة بسيطة. هناك بعض المراكز المهمة تسعى بشكل كبير إلى إقناع الروس بأنهم “يعتمدون على الصين”. بالتالي، عليهم كسر هذا الإعتماد، والإنضمام إلى التنافس في منطقة آسيا الوسطى، والتصرف مع الصين على نفس المنوال الذي تتصرف فيه اليوم، أكثر أم أقل، كل من بولندا وليتوانيا تجاه الإتحاد الروسي. بالطبع، لن تتمسك روسيا بالغرب، ومن الأغلب أن ذلك لن يصبح ممكناً أبداً. لذلك، قد تبدو المقارنة خاطئة، ولكن يجب أن تكون الأمثلة البولندية أو الرومانية مستبعدة بما فيه الكفاية لدى صانعي القرار في روسيا لتجاوز هذه النصيحة الجيدة هذه المرة.

الوقت وعامل التبادل

ليست روسيا حريصة على إتخاذ إجراءات معاكسة؛ على سبيل المثال، الإنخراط في تحالف معادٍ للولايات المتحدة. هذا الدرس الدبلوماسي التقليدي تم فهمه جيداً في الكرملين ووزارة الخارجية الروسية، بحيث أن التحالف الأفضل الوحيد هو مع جيشهم وأسطولهم. بفضلهم، أصبح الروس أحد اللاعبين الأساسيين في الشرق الأوسط، والذي بدوره ساعد على تحقيق تحول جيو – سياسي واستقلال واحدة من أقرب دول الناتو، تركيا. هذه مجرد إمكانات، ولكن توجد إمكانية قائمة لحل سريع للأزمة الأوكرانية (إذا تم اللعب بطاقة كييف مرة أخرى) والتي بفضلها تم وقف عملية التصعيد في هذه البقعة من العالم. لذا، يجب أن نكون جميعاً ممتنين للكرملين. وقبل كل شيء، إن استمرار القوة هو من يمنح روسيا ما تحتاجه أكثر: الوقت.

تحتاج روسيا إلى وقت لتسريع عملية التحديث الداخلي، والإرتقاء بالمجالين الإجتماعي والبنية التحتية إلى المستوى الذي وصلت إليه بالفعل الإمكانيات السياسية الروسية. بالتالي، إن الهدوء على الحدود يشكل المصلحة الأهم لموسكو، ولكن ليس في مقابل الدخول في صراعات أخرى، وبشكل عام، وبأي ثمن. فالدبلوماسية الحديثة لم تعد تنكر مبدأ “إفعل”- Do ut des، بل توافق على أن عامل التبادل يبقى ضرورياً، لكن لا أحد قادر على التنبؤ بما يمكن أن يقدمه الغرب لروسيا، إلى جانب خفض التوتر.

إن الشيء الوحيد المتبقي للمحرضين هو أن موسكو لا تزال تتصرف بنفس الطريقة بمنح “البرابرة الشرقيبن شهادة القيم الغربية” التي كانت سارية منذ عقود ولـ 30 عام خلت. ولكن دعونا نأمل بأن يتذكر الروس أيضاً، أنه حتى الآن، أنه عندما يصرفهم أحد “أصدقائهم الجيدين” عن الشؤون الشرقية ويجرهم إلى أوروبا، فإنه بذلك يدخلهم في مشاكل هائلة وخسائر ودمار وضرورة البدء بكل شيء تقريباً من البداية.

حسناً، لكن الروس أنفسهم هم من سيقررون ما إذا كانت هذه السياسات ستؤتي ثمارها وبأية شروط. ولكن ماذا عن الإستنتاجات الخاصة بنا، أي بقية سكان أوروبا؟

سوروس يغير “النغمة”

إن الإستنتاجات العامة واضحة وصحيحة، بطريقة أم بأخرى، إذ أن الإنفراج العالمي في العلاقات مع روسيا قادم في النهاية وإن لم يكن حتى عبر الرئيس ترامب، لأن “الإتحاد القديم” يسعى هو أيضاً إلى تحقيق ذلك، وفي مقدمته فرنسا وألمانيا. يرجع ذلك، في المقام الأول، إلى أزمة الاتحاد الأوروبي بأسره ومكوناته الأساسية، والحاجة لحل المشاكل الإجتماعية والعرقية المتزايدة، ووقف الضغط من المجتمعات التي تطالب بما يقوم به الرئيس فلاديمير بوتين أي التركيز على مشكلاتهم الذاتية بدلاً من إستقطاب مخططات غربية والسعي الدائم لبث شعارات دعائية.

ومع ذلك، فهم صامدون على الرغم من أن مؤيديهم اضطروا أيضاً إلى تغيير توقعاتهم وإعادة توجيه استراتيجياتهم. فالرئيس ترامب يريد التعاون مع روسيا لسحبها نحوه في صراعه مع الصين، وكذلك جورج سوروس الذي يريد دائماً أن تصبح روسيا جزءاً من “النظام العالمي الجديد”، ومشروع العولمة القائم على مبادئ الرأسمالية المالية العالمية وشعارات الديمقراطية الليبرالية و”المجتمع المفتوح” وما إلى ذلك، أو على الأقل وقف دعم أعداء هذا التوجه إذ غالباً ما يتم تصنيف موسكو في هذه الخانة. فـ “السلام من أجل الديمقراطية” هو عرض سرورس، حتى وقت قريب، أو بتعبير أدق “السلام في مقابل الإستسلام والمحاذاة”. اليوم، إن ضعف “المركز الغربي” لسوروس من شأنه أن يجعل هذه الصفقة سخيفة، لذا فقد أعادوا صياغة مقترحهم ليصبح: السلام، والسلام فقط ولنتوقف عن النظر إلى جانبكم.

من هنا، على نسخة بروكسل الأوروبية، التي لا تزال تعتمد على الولايات المتحدة مع اختلافها قليلاً من الناحية الأيديولوجية، تعديل وتغيير أولوياتها على الصعيد الداخلي من أجل البقاء والإستمرار، دونما ذلك على صعيد القضايا الخارجية، على غرار سياسات الرئيس ترامب. فباريس وبرلين، ومن خلفهما بعض بعض الكتل، تعتبر أقل اعتماداً على واشنطن، وبالتالي تتحفظ على مسألة المواجهة مع روسيا. فالميول الشعبوية في كلا البلدين، بالإضافة إلى ايطاليا، باتت أقوى من ذي قبل، وهي ترى بأنه من الضرورة إيجاد تعاون وثيق ومباشر مع روسيا على أساس القيم والمصالح التي تعارض بشدة ما بنيت عليه منظومة بروكسل.

فهذا هو الجواب على سؤال الأساسي. ترغب أمريكا في مشاركة روسيا، وبدرجة أقل أيضاً مراكز التعزيز الأخرى بما فيها أوروبا، بحيث أن مثل هذا التحول سيحافظ، بأكبر قدر ممكن، على النظام العالمي الآحادي وبالتالي على الآحادية القطبية، أو على الأقل تحتاج واشنطن إلى المساعدة في ضمان موقعها ضمن عالم ذات التعددية القطبية. بالتأكيد، يعتبر العرض أكثر جاذبية من ما هو حاصل اليوم وفي ظل العلاقات الدولية الحالية. ولكن، هل هذا هو العرض الوحيد؟ حسناً، لا يمكننا إغفال التهديدات الموجودة.

تمثل النخب الأوروبية تنازلياً دفاعياً لمشروع لا يزال خطيراً حتى اللحظة، وهو يكمن في إستبدال الآحادية القطبية بالعولمة القائمة على الليبرالية، آحادية “بوبر”. فهل المشروع الثالث ممكن؟ مشروع قائم على سيادة المجتمعات وهويتها الحقيقية؟ بالنسبة للكثيرين، لا يزال هذا الأمر مثالياً. ربما، سيكون ذلك مهمة روسية جديدة، كما في عامي 1812 و1945. ومع ذلك، لا يمكن أن يتحقق إلا بوعي ومشاركة منا جميعاً.

*ألقيت في “منتدى شيشيناو” الثالث بعنوان: المؤتمر الدولي “بعيداً عن لحظة الأحادية القطبية – توجهات متعلقة بعالم ناشئ متعدد الأقطاب” الذي عقد في سبتمبر/أيلول 2019.

**خبير في الإقتصاد والجيوبولتيك – بولندا.

مصدر الصورة: منظمو المؤتمر.