“إن جهاز الاستخبارات الوطني، الذي تجاوز كونه مجرد منظمة تقوم بجمع المعلومات والإبلاغ عنها، جعل تركيا بلداً قادراً على استخدام المعلومات الاستخبارية في الدبلوماسية. وبفضل العمل الناجح لهذه المنظمة، امتلكنا القدرة على خدمة مصالحنا الخاصة، في أي مكان من العالم، دون الحاجة إلى إذن أو مساعدة من أي دولة أخرى”. رجب طيب أردوغان، يناير/كانون الثاني 2021.
لقد تحول جهاز الاستخبارات الوطنية التركية (Milli İstihbarat Teşkilatı | MİT) في السنوات الأربع الأخيرة، الى فاعل رئيسي في ميكانيزم صناعة القرار الخارجي للجمهورية التركية. بل انه ليس من المبالغة ان اعتبرنا، أنّ هذه المؤسسة السيادية قد أصبحت القاطرة الفعليّة لتركيا في رحلتها نحو اعادة التموقع الاستراتيجي على الساحتين الدولية والاقليمية. علما وأن هذا الجهاز ومنذ تأسيسه في 1965 الى حدود سنة 2009 قد بقي في أدوار ضامرة أو شبه مهمشة في المضمار المذكور. ويمكن إرجاع هذا التطوّر الى جملة من العوامل والسياقات، لعلّ أهمّها اندلاع الربيع العربي وما أنتجه ذلك من تحديّات جديدة للأمن الخارجي للدولة التركية، نتيجة انهيار أو ترهّل عدّة أنظمة في المنطقة وتعاظم ادوار جملة من الفواعل من دون الدول في تشكيل المشهد الاقليمي من ناحية، وتخلي تركيا عن سياسة “الصفر مشاكل” التي تحركت ضمنها منذ 2002، بانخراطها القوي في صراعات المحاور الاقليمية من ناحية أخرى.
طبعا لا يمكن اهمال الفرد او شخصية القائد، كإحدى المستويات الثلاث (الفرد، الدولة، المجتمع الدولي) لتحليل العلاقات الدولية، من أجل فهمٍ أفضل لطبيعة اسهام “ديبلوماسية الاستخبارات” في قيادة تركيا على الساحة الدولية. اذ ان التكوين الأكاديمي والمسار المهني لهاكان فيدان رئيس المخابرات التركية، يدلان على شغف هذا الأخير بالسياسات الخارجية وقناعته الراسخة بضرورة تطوير أدوار جهاز الاستخبارات في هندستها وتنزيلها، اذ تناول هذا الموضوع بالذات في بحثه للماجستير طارحا النموذجين الأمريكي والبريطاني كتجارب مقارنة تدعم اطروحته. وفي نفس السياق حملت رسالته للدكتوراه عنوان “الدبلوماسية في عصر المعلومات: استخدام تكنولوجيا المعلومات في التحقق”. كما أنه شغل منصب رئيس الوكالة التركية للتعاون والتنسيق الدولي “تيكا”، التي تعتبر من أهم الأذرع الخارجية التركية، اضافة الى تقلبه بين وظائف عديدة ذات صلة بالسياسات الأمنية والخارجية في الدولة التركية والمنظمات الدولية على حد سواء. علاوة على كل ذلك فقد جمعت فيدان علاقة وثيقة جدا بداوود أوغلو او كيسنجر تركيا -بلفظ الدكتور ابراهيم البيومي- الذي وضع الأسس النظرية للسياسات الخارجية لتركيا العدالة والتنمية. ورغم ان كتاب “العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية” يدرّس في الاكاديميات العسكرية التركية منذ سنوات عديدة، الا أن فيدان يبقى وبدون أي شك من أكثر البيروقراطيين السامين الأتراك تمكّنا من مضامينه ان لم نقل أكثرهم على الاطلاق. ومع صعوده في 2010 كوكيل لجهاز الاستخبارات، بدأت رؤيته التجديدية في ايجاد طريقها نحو الواقع، لتتبلور في شكل تغييرات محورية على مستوى بنى الجهاز وأدواره، ومن ضمن ذلك تأسيسه ل “وحدة تحليل الاستخبارات الخارجية” المتخصصة في السياسات الخارجية.
وتزامنا مع ترقية فيدان ليصبح رئيسا لوكالة المخابرات في 2018، بدأت النقلة النوعية في الأدوار الديبلوماسية ل “أم أي تي” في الظهور المكثّف، حيث وردت في نفس السنة، ولأول مرة على الإطلاق، محاور بأكملها تحت عنوان “ديبلوماسية المخابرات” ضمن التقارير السنوية لأنشطة الأجهزة الاستخباراتية التركية. كما أنها برزت بشكل لافت في نفس السنة على الساحة الإعلامية العالمية، من خلال ادارتها بحرفية عالية، لملف اغتيال الخاشقجي وتسريباته. ويمكن فهم هذا التطور، في إطار ما شهده الجهاز من اعادة هيكلة وتوسيعٍ للصلاحيات، بعد ما ناله من دعم وربط مباشر برئاسة الجمهورية إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة في صائفة 2016. ومن جهة أخرى فإن ما بدأت تشهده الساحة الدولية من سيولة متسارعة في الأحداث، وما ينذر به ذلك من تغييرات مطّردة في موازين القوة وخرائط النفوذ حول العالم، دقت نواقيز الحذر والأهبة لدى العقل المؤسساتي التركي، فكان من الطبيعي أن يدفع بأكثر خلاياه الذكية تنظّما ودقّة والماما بالمعلومة أكثر فأكثر نحو أدوار طلائعية، لتشقّ بالبلد عباب زمن التحوّلات، بما يضمن احراز تركيا لأكبر قدر من فرصه، وتجنبها لأكبر قدر من هزّاته وتشظيّاته. وليست تركيا في هذا المنحى بالاستثناء بين دول العالم أو المنطقة، بل أن البيروقراطيات الصلبة والذكية عادة ما تتصدر واجهة الساحة الدولية، في مثل هاته اللحظات الحرجة كالتي نعايش.
وبالمحصّلة فقد سمح انتهاج تركيا منذ نهايات الـ 2016 لما أصطلح على تسميته بـ “الديبلوماسية الخشنة”، للمؤسسات الأمنية والعسكرية على حد سواء، بمساحات أكبر في صياغة تحركاتها الخارجية. الا أنه ومع بوادر انطلاق مرحلة اعادة ترسيم شبكة العلاقات الإقليمية في ربيع 2018، والتي ظهرت تعبيراتها بوضوح أكثر منذ مؤتمر العلا في مفتتح 2021، قد جعلت “ديبلوماسية الباب الخلفي” بقيادة تشكيلات الاستخبارات تتقدم على غيرها من المؤسسات الأخرى بما في ذلك الجيش. اذ ان خصوصية العمل الاستخباراتي يمكّن من المحافظة على قنوات التواصل المفتوحة، مع أكثر الأطراف الخارجية منافسة او حتى عداوة لدولة ما. وبذلك كانت ال “أم أي تي” الأكثر قدرة وامتلاكا للأدوات، لتقدّم الصفوف في مرحلة تطبيع العلاقات، مع دول احتدم الصراع معها منذ انقلاب 2013 في مصر.
وإن شواهد ومؤشرات الدور الريادي الذي اصبحت تضطلع به تشكيلات الاستخبارات في مطبخ الشؤون الخارجية التركية بعد ذلك، أكثر من أن تحصى؛ فالجميع يذكر الصورة الشهيرة لمستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد مع الرئيس اردوغان في مفتتح الاعلان عن الانعطافة الكبرى في العلاقات الثنائية بين بلديهما. لم تكن تلك المحطة المزلزلة اعلاميّا، محض صدفة او انعراجة مفاجئة. بل كانت نتاج مسار بنائي وعمل استكشافي مطوّل، مهّدت له واشرفت على تقدّمه القنوات الاستخبارية لكليهما.
وعلى نفس النحو سار استئناف المحادثات مع المصريين، من خلال نسق تصاعدي من اللقاءات الأمنية، منذ تواصل الملحقين العسكريين بسفارة كلا البلدين بالجزائر في مايو/أيار 2018، ثم لقاء روما، وأخيرا زيارة هاكان فيدان للقاهرة والتي انطلق معها مسار من المفاوضات مع نظيره عباس كامل رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية، انعقدت آخر اجتماعاته المباشرة في سبتمبر/أيلول الماضي، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيورك. وأما مجهودات تذويب الجليد في علاقة بنظام الأسد، وما وقع تداوله مؤخرا من تصريحات ديبلوماسية عالية المستوى في الخصوص، فقد جاءت كثمار لاتصالات مكثفة بين رئيس المخابرات التركية واللواء علي مملوك مدير مكتب الأمن الوطني السوري، كان آخرها زيارة هاكان فيدان لدمشق في سبتمبر/أيلول 2022.
وفي نفس الشهر زار هاكان العراق ليلتقي رؤساءه الثلاث (الجهورية، الوزراء، البرلمان)، من اجل تطبيع العلاقات السياسية والأمنية مع بغداد، بعد ما شابها من توترات على خلفية العمليات التركية داخل الأراضي العراقية. كما اوردت تقارير صحفية، أن المحادثات الثلاثية بين تركيا وفنلندا والسويد، والتي انعقدت في يوليو/تموز الفارط بمدريد بغية رفع الاعتراض التركي على انضمام البلدين المذكورين للناتو، كادت تصل إلى طريق مسدودة لولا تدخل فيدان بمقترح مرضٍ إثر راحة القهوة التي توسطت اللقاء. هذا علاوة على اشادة اردوغان بنفسه في يناير/كانون الثاني 2021، خلال افتتاحه لمبنى القلعة (المقرّ الجديد للمخابرات التركية) بأدوار “ديبلوماسية المخابرات” في ادارة الملفين الليبي والسوري، وخاصة في الاشراف على العلاقات بالفصائل المسلّحة فيها.
وأخيرا وليس آخرا فقد استضافت أنقرة منذ ايام فقط، اللقاء الأول من نوعه منذ انطلاق الحرب الاوكرانية، بين مديري المخابرات الروسية والأمريكية، لمناقشة مخاطر استخدام الأسلحة النووية اضافة الى ملف تبادل السجناء بين البلدين، فيما بدى على أنه اعادة ضبط للخطوط الحمر للاشتباك الروسي الغربي في أوكرانيا. وفضلا عن كل ذلك وغيره، فان فيدان ملازم لأردوغان في جل المحطات الديبلوماسية الكبرى (قمم العشرين، الناتو، مسار أستانا، منظمة الدول التركية…)، وهو كذلك ذو حضور دائم في تنقلات أهم الوفود الوزارية -مع وزيري الخارجية والدفاع- نحو دول المنطقة.
كل ذلك كان يشير، الى أن تركيا بقيادة ديبلوماسيتها الاستخباراتية، مصرّة على حثّ الخطى نحو اعادة التموقع الاستراتيجي ضمن عالم تعدد القطبية الآخذ في التشكل، بما يكفل لها ترسيخ استقلال قرارها الاستراتيجي. بل انها دأبت على اعلان تطلعها لذلك صراحة على لسان أردوغان تحت عناوين ورؤى استراتيجية متعددة، من قبيل “تركيا الكبرى” أو “العالم أكبر من خمس” و”الوطن الأزرق”، ولعل آخرها “القرن التركي” الذي وان بدى في المقام الأول، كشعار انتخابي جذاب او في أحسن الأحوال رؤية مستقبليّة عامة، تعاني فراغا مضمونيا في مجمل أركانها، الا أن المتابع الموضوعي لتطور موقع تركيا خلال السنوات الأربع الأخيرة على الساحتين الدولية والإقليمية، سيرى جيدا أنها تسير بخطى ونسق ثابت نحو تبوء أدوار وازنة في الأمن الكبير للعالم، اذ أنها وبقيادة ديبلوماسيتها الأمنية قد أصبحت مساهمة في:
– أمن الغذاء العالمي: الوساطة في اتفاقية تصدير الحبوب بين روسيا وأوكرانيا عبر البحر الأسود.
-أمن الطاقة الأوروبي: في طور التحول الى مركز اقليمي وازن لنقل الطاقة نحو الاتحاد الأوروبي، اعتمادا على اكتشافات البحر الأسود وما ستناله من نصيب في شرق المتوسط، اضافة الى الخطوط الآذرية والقادمة من آسيا الوسطى عموما. وقد عزز ذلك اعلان روسيا عن ثقتها في تركيا كوسيط، قادر على تأمين نقل غازها مستقبلا نحو أوروبا.
-الهجرة غير الشرعية: خط أمني متقدم لحماية الاتحاد الأوروبي من الأمواج البشرية الزاحفة من الشرق الأوسط وشمال افريقيا وآسيا الوسطى.
– مكافحة الإرهاب: عضو فاعل في الجهود والتحالفات الدولية لمكافحة الإرهاب ذو الخلفية الاسلامية، اضافة الى الأجندة الوطنية في محاربة الإرهاب اليساري سواء حزب العمال الشيوعي الكردستاني (PKK) او وحدات الحماية الكردية في سوريا (YPG)، وكذلك منظمة غولن (FETÖ) المحسوبة على التيار الإسلامي.
-تأمين مونديال قطر: تدفق مجموعة من ضباط المخابرات التركية المتخصصين في مكافحة التجسس على المقر الرئيسي للمخابرات القطرية في الدوحة، للعمل مع نظرائهم القطريين على تأمين كأس العالم. هذا بالطبع اضافة الى اعداد غفيرة من الشرطة والدرك وقوات مكافحة الشغب والجيش.
وبالتالي فإن العملية الإرهابية الأخيرة منذ أيام في اسطنبول، وان كانت ربما تستهدف خلط أوراق الانتخابات المقبلة أو التأثير بشكل أو بآخر على مناخاتها وتحالفاتها، فإنها بالتأكيد تحمل رسائل مسيئة لصورة تركيا كـ “صانع استقرار” على الساحتين الإقليمية والدولية ويمكن فهمها في سياق محاولة الإضرار بمستقبل مكانتها العالمية من خلال التشكيك في قدراتها ومنظوماتها الأمنية، خاصة لما حمله الشارع المستهدف من رمزيات سياحية، اقتصادية، ثقافية، وسياسية.
وفي المقابل كانت رسائل الجهات الرسمية التركية حريصة على تصدير صورة الواثق من امكانياته والمسيطر على الوضع، فاكتفى أردوغان بتصريح في المطار ولم يلغ سفرته الى أندونيسيا للحضور في نادي العشرين الكبار، وبعدها بقليل نزل وفد وزاري لزيارة منطقة الانفجار وطمأنة المواطنين، ومن ثمة أخذ وزير الداخلية سليمان صويلو في التأكيد على إمساك الدولة التركية بكل خيوط اللعبة، فكشف حتى عن المدن التي أصدرت منها التعليمات أو مرت منها منفذة التفجير. وأما الأجهزة السيادية فقد كانت بالتأكيد تتحرك في كواليس كل ذلك مستشعرة أنها أول المستهدفين من العملية، فكان ردها على درجة عالية من الاحترافية والسرعة. وبالتأكيد فإن هذا الهجوم الأول من نوعه منذ 6 سنوات في إسطنبول، ستكون له تأثيراته على القراءة الجيوبولتيكية للجمهورية التركية، وعلى أدوار تشكيلاتها الاستخباراتية ضمن عقلها المؤسساتي، ولو كان ذلك بشكل جزئي أو مرجح لمقولات موجودة سلفا، من قبيل ضرورة الاستمرار في العمليات العسكرية لإنشاء المنطقة الآمنة في شمال سوريا أو منع تأسيس كيان انفصالي كردي فيه. ولأن كانت المؤشرات الأولية دالة على تعزيز اعتداء تقسيم لدور ال “أم أي تي” في إدارة الشؤون الخارجية لتركيا، خاصة مع انطلاق عملية “المخلب-السيف”، الا أن ذلك يقف على مدى نجاحها -بالتنسيق مع غيرها من مؤسسات الدولة التركية- في جعل هذا التفجير يبدو كاستثناء عابر، وضروري لإثبات صحة كل قاعدة.
مصدر الصور: صحيفة زمان – AP.
إقرأ أيضاً: إيران – تركيا.. الأخوة الأعداء
أيمن عبيد
كاتب/ ناشط سياسي – ألمانيا