جيل إيمانويل جاكيه**

في العام 1997، كشف زبيغنيو بريجنسكي – Zbigniew Brzezinski في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” الرؤية الإستراتيجية التي تشكل عماد السياسة الخارجية للولايات المتحدة وهي: من أجل تأسيس هيمنتها العالمية، يجب على الولايات المتحدة السيطرة على أوراسيا، وخاصة محيطها (أي حافة اليابسة وفقاً نيكولاس سبيكمان – Nicholas Spykman) والتي تحتوي على القوى القارية لـ “قلب العالم”، مثل فرنسا وألمانيا وروسيا أو الصين والهند مؤخراً.

بعد تفكك الإتحاد السوفيتي ونهاية نظام الثنائية القطبية للحرب الباردة، حاولت الولايات المتحدة إنشاء نظام آحادي القطب، تسيطر من خلاله على العالم، من أجل تحقيق القيم الليبرالية الغربية التي ستجلب السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان والإزدهار للشعوب كافة. لكن إعتداءات 11/9 ناقضت هذه التوقعات، والغريب أن الحكومة الأمريكية، بقيادة جورج بوش الأبن ومفكري المحافظون الجدد، لم تجرِ أية عملية لإعادة التقييم فيما يخص رؤيتها القادمة للعالم. فلقد تم تجاهل التعددية والقانون الدولي والأمم المتحدة؛ وفي العام 2003، هاجمت الولايات المتحدة العراق على الرغم من أن هذا البلد لم يكن يحاول، في ذلك الوقت، تطوير أسلحة دمار شامل، أو له صلة بهجمات 11/9، أو حتى بتنظيم “القاعدة”. فلقد تم تدمير العراق، من ضمن النزاعات اللامنتهية في الشرق الأوسط، وتفاقم مشاكله بشكل خطير جراء هذا العدوان. كذلك، تم التخلي عن عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، كما قامت إسرائيل بضم هضبة الجولان السورية.

لقد كان “الربيع العربي”، في العام 2011، فرصة للولايات المتحدة وحلفائها في الخليج (قطر أو السعودية أو الإمارات) وتركيا وإسرائيل لزعزعة الإستقرار في بلدان مثل سوريا أو ليبيا، والتي تمثل أنظمتها المستوحاة من القومية العربية عقبات أمام أجنداتها الإقليمية. من هنا، لعبت السياسة الخارجية التي تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها، في الشرق الأوسط أو أفغانستان خلال الحرب الباردة ثم خلال “الربيع العربي” ودعمهم للأحزاب الإسلامية أو الجماعات المسلحة، دوراً في التطور الإقليمي والعالمي للإرهاب.

بينما كانت إيران، خلال العقد المنصرم، بصدد إقامة علاقات دبلوماسية وإقتصادية مع الولايات المتحدة، لكن واشنطن قررت العودة من جديد إلى المواجهة مع طهران. وعلى عكس ما أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال زيارته إلى السعودية، فإن إيران ليست راعياً للإرهاب الإسلامي ولا تشكل تهديداً للدول الأوروبية. فلقد كانت طهران أيضاً ضحية للإرهاب الإسلامي السني، وخاصة تنظيم “داعش”، حيث تعاونت مع العديد من الدول في الحرب ضد تلك الجماعات الإرهابية. وفيما يتعلق بالأزمة مع إيران، لا تنظر الولايات المتحدة إلى مصالحها في المنطقة بل إلى مصالح كل من السعودية وإسرائيل لمنع إيران من أن تكون قوة إقليمية.

أما في أوروبا، توسع “الناتو”، ومعه الولايات المتحدة، خلال تسعينيات القرن الماضي بحيث أذكى وفاقم الصراع في البلقان أو القوقاز مجدداً، كالصراع في جورجيا وأوسيتيا الجنوبية في العام 2008. ويعد الصراع الذي يضرب الشرق الأوكراني، منذ العام 2014، أحد عوامل ضعف الإتحاد الأوروبي من الناحيتين السياسية والجيو – بوليتيكية، إضافة إلى اعتماده الإستراتيجي على الولايات المتحدة من خلال الناتو. وبعد أقل من 20 عاماً بقليل على الحرب اليوغسلافية و15 عاماً من الحرب في كوسوفو، فشل الإتحاد الأوروبي بمنع اندلاع صراعات جديدة داخله سامحاً بذلك للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بتعزيز نفوذهما على حدود روسيا.

أدت هذه السياسة، الهادفة لإقامة نظام عالمي آحادي القطب تحت هيمنة الولايات المتحدة، إلى نشوب عدة صراعات على مدار الثلاثين عاماً الماضية، وأضعفت بشكل خطير القانون الدولي، بالإضافة إلى عمل ومصداقية العديد من المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة. فلقد أعادت واشنطن، ومعها حلف “الناتو”، الحرب الباردة مجدداً إلى أوروبا عبر استغلال الخصومات القومية القديمة أو القضايا اللغوية العرقية (أوكرانيا)، وإستذكار جرائم الشيوعية (أوكرانيا وبولندا) لتوسيع الفجوة بين روسيا وجيرانها.

ومع ولادة القوة الصين الجديدة و”طريق الحرير”، تحرك المحور العالمي شرقاً بإتجاه آسيا والمحيط الهادئ. فمع البقاء ضمن “الناتو” وغياب الشراكة المميزة مع روسيا، يمكن القول بأن إمكانية قيام دول الإتحاد الأوروبي بموازنة قوة الصين في أوراسيا ضعيف للغاية. ففي الوقت الذي يواصل فيه مفكرو “المحافظون الجدد” الأمريكيون و”الأطلسيون” الأوروبيون الدفاع عن النظام العالمي آحادي القطب تحت القيادة الأميركية المرحب بها، فإن صعود “البريكس” يظهر أن النظام العالمي الآن أصبح متعدد الأقطاب، وأن الوقت قد حان، لبعض القوى الغربية، لإحترام المبادئ الأساسية للقانون الدولي التي قوضها التسلح بحقوق الإنسان.

يتماشى إحترام القانون الدولي وسيادة الدول وميثاق الأمم المتحدة مع رؤية نظام عالمي متعدد الأقطاب، وهو نظام يعترف بتعدد وحرية الأمم، تتمتع فيه كل دولة بنفس الحقوق وتظل صاحبة القرار في تقرير مصيرها. توفر الأمم المتحدة منبراً مناسباً لذلك لكن بعض القوى العالمية، ولا سيما القوى الغربية منها، قد “هدمت” بعض مبادئها وأدائها. فمن أجل تطوير العالم نحو نظام متعدد الأقطاب، يجب إصلاح مجلس الأمن الدولي، غير أنه لا يوجد أي توافق في الآراء حول هذا الشأن بعد بسبب الخلافات التاريخية والسياسية بين بعض البلدان (الصين – اليابان والهند – باكستان). لذلك، إن احترام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وتنفيذ المادتين 46 و47 منه والمتعلقتان بإنشاء لجنة أركان عسكرية للأمم المتحدة (التي تتمثل مهمتها في مساعدة مجلس الأمن)، يمكن أن يمنع “الناتو” من إنتهاك القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة أو تجاوز التفويض الذي قد يمنح له، كما حدث أثناء النزاعات في كوسوفو وليبيا.

 

*ألقيت في “منتدى شيشيناو” الثالث بعنوان: المؤتمر الدولي “بعيداً عن لحظة الأحادية القطبية – توجهات متعلقة بعالم ناشئ متعدد الأقطاب” الذي عقد في سبتمبر/أيلول 2019.

**صحافي ودبلوماسي – سويسرا.

مصدر الصورة: منظمو المؤتمر.