بدعوة من “مركز الرافدين للحوار”، عقد ملتقى الرافدين للحوار لقاءه السنوي في فندق الرشيد ما بين السادس والعشرين والتاسع والعشرين من شهر سبتمبر/ أيلول، تحت عنوان: “العالم يتغير”، بحضور أكثر من 300 شخصية عربية وإسلامية وأجنبية وحوالي 1000 شخصية عراقية من مختلف الأطياف الفكرية والسياسية والامنية والدينية.

عقد الملتقى وأمتنا والعالم العربي والإسلامي تعيش حالة عدم اليقين والارتباك والقلق وعدم الاستقرار، بسبب التدخلات الأجنبية واذكاء الصراعات الطائفية والمذهبية والحروب والأزمات السياسية والأمنية التي تواجهها امتنا والعديد من الدول العربية والإسلامية، مما انعكس سلبا على استقرارها، في ظل غياب المشروع القومي النهضوي والعربي، وسبل المواجهة، وعدم توفر الإجابات المقنعة عن مختلف التحديات المحلية والعربية والعالمية.

ورغم التأزم السياسي القائم في العراق نتيجة الفساد المستشري ودستور برايمر وعدم الاتفاق على شخصية رئيس الحكومة، والأجواء السياسية والأمنية الضاغطة التي تعيشها بغداد هذه الايام وقصف المنطقة الخضراء بثلاثة صواريخ لحظة انعقاد مجلس النواب العراقي للتجديد لرئيسه، الا إن ذلك لم يؤثر في استمرار أعمال الملتقى بنجاح ملفت لكل الجلسات والنقاشات التي استمرت طيلة الأيام الأربعة لانعقاده، ولا بد من التنويه بالإدارة الناجحة للملتقى ودقة التنظيم، ومشاركة معظم الأجهزة الرسمية والمؤسسات الحكومية والمصرف المركزي العراقي، وعدد كبير من المؤسسات الخاصة ومراكز الدراسات العربية والدولية، وشخصيات أجنبية من مختلف أنحاء العالم في هذا الملتقى.

تناولت ورش عمل الملتقى العديد من الموضوعات والملفات، بعضها يتعلق بالشأن العراقي بشكل مباشر، والبعض الاخر يتعلق بهموم العالم العربي والإسلامي، بالاضافة الى قضايا عالمية وفكرية عامة، تمحورت حول:

– منظومة الفساد: افة مستحكمة.. حلول خجولة.
– دور المنظمات غير الحكومية في توجيه السياسات العامة ودعم دولة القانون.
– العالم يتغير: من اتفاقية باريس الى ميثاق غلاسكو للمناخ.
– الدستور العراقي: خروقات مستمرة.. تعديلات مؤجلة.. حلول غائبة.
– قطاع الطاقة: ضرورات الحوكمة.. مسارات التنويع.. افاق الاستدامة.
– التحول الرقمي من الارض الى الفضاء: فرص للنمو الاقتصادي ام تهديد للأمن القومي.

هذا بالإضافة الى جلسات نقاشية ولقاءات خاصة تناولت:

– عالم ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية: التحديات الجيوسياسية واحتمالات الحرب الكونية
– عشرون عاما من التغيير السياسي في العراق: ادارة التعقيد وجدليات الاستمرار.
– من ساحات الاحتجاج الى قبة البرلمان: جدليات التغيير ومالات المستقبل.
– “قمة بغداد للتعاون والشراكة”: ضرورات العمل الايجابي لمواجهة التحديات.
– قدرات الردع الدفاعي والجهد الامني ركائز اساسية في تعزيز السياسة السياسة وحماية المجتمع.
– “الحزام والطريق” و”البوابة العالمية”: تقاطع الاستراتيجيات والاستقطاب الدولي.
– مشكلات التعليم العالمي: أزمة البحث العلمي والمؤثرات السياسية ومتطلبات المستقبل.
– ازمات المغرب العربي “تونس” و”ليبيا” جدليات الصراع ورهانات المستقبل.
– استدامة الامن الغذائي تعثر سلاسل التوريد واستراتيجيات المواجهة.
– افغانستان: مستقبل مجهول بين تجدد الصراع وخيارات التعايش.
– العشائر: اصالة التقاليد.. ضرورات الحداثة.. ايجابية الدور.
– تمكين المرأة عالميا الممارسات والادوار والوسائل.

كل هذه الموضوعات السياسية والفكرية والأمنية والبيئية والاجتماعية كانت محور الجلسات والنقاشات، مما أتاح للمشاركين الإطلالة على المشهد العراقي وأزماته عن قرب، ومواكبة المتغيرات في العالم وإدراك حجم المخاطر التي يواجهها العالم اليوم بسبب الصراعات والحروب وقضايا البيئة والغذاء، وتراجع دور المنظمات الدولية واستمرار خطر الإرهاب وانتشار العنصرية والتطرف.

بإضافة إلى حرص إدارة الملتقى على تخصيص لقاءات خاصة شارك فيها عدد من القيادات العراقية (رئيس مجلس النواب الأستاذ محمد الحلبوسي، رئيس تيار الحكمة السيد عمار الحكيم، رئيس الوزراء العراقي الأسبق الدكتور حيدر العبادي، والأمين العام لحركة عصائب أهل الحق، الشيخ قيس الخزعلي، ووزير الخارجية فؤاد حسين، ورئيس جهاز مكافحة الإرهاب الفريق أول ركن عبد الوهاب الساعدي، وقيادات أخرى متنوعة سياسية واقتصادية). وخصصت جلسات أخرى فكرية تناولت العديد من قضايا الفكر الإسلامي وتحدياته اليوم، شارك فيها مفكرون عرب ومسلمون.

كمشاركين في هذا الملتقى الحاشد والمتنوع، نستخلص حجم الارتباك والقلق وعدم الاستقرارالذي نعيشه في امتنا وعالمنا العربي اليوم بسبب ازماتنا الطائفية والسياسية والامنية، والتحديات العالمية وانعكاس تداعيات الحرب الكونية التي تدور رحاها على الساحة الاوكرانية بين روسيا الاتحادية من جهة وامريكا والاطلسي من جهة اخرى، والإرباك الفكري الكبير وعدم توفر الإجابات المقنعة عن مختلف التحديات العالمية والاقليمية والمحلية اليوم، لا سيما بعد فشل التجارب العربية في الحكم في بناء دولة المواطنة التي تحقق العدالة الاقتصادية والسياسية والحقوقية ، ومواجهة التحديات الجديدة التي تواجهنا والتي تتطلب رؤية مستقبلية إستشرافية ومشروع نهوض متكامل يجيب عن الأسئلة الكبيرة .

ورغم وجود عدد كبير من المفكرين والناشطين على الصعد الفكرية والعلمية والتنموية في الملتقى، نستنتج من خلال المناقشات والاستماع للعديد من آراء المشاركين حجم القلق والرعب الذي يسود العالم اليوم بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا والصراعات الدولية في أكثر من بلد، إضافة لأزمات الغذاء والطاقة والبيئة. والخوف الأكبر من أن تتطور هذه الصراعات والحروب إلى حرب نووية في أي لحظة، في ظل عدم وجود رادع يمكن أن يمنع استعمال الأسلحة النووية، وفي ظل تراجع دور المنظمات الدولية وعدم قدرتها على وقف هذه الحروب والصراعات، وغياب الآلية العملية لدى الأمم المتحدة لوقف الحرب وعجز مجلس الأمن عن اتخاذ أي قرار عملي وحاسم.

لقد كان ملفتا جداً غياب الرؤية المستقبلية والمشروع القومي والعربي لمواجهة التحديات، وغياب فلسطين كقضية مركزية لامتنا والعالمين العربي والاسلامي، وغياب حرب اليمن وانعكاساتها على كل منطقة الخليج، وغياب نقاش الحرب الكونية على سوريا توأم العراق القومي وترابط المصير والمسار بين التوأمين. وغياب لبنان ايضا بازمته البنيوية المستعصية على الحل. والتي لولا مداخلاتي في ورش العمل لما ذكر اسم لبنان وسوريا في الملتقى.

في ورشة عمل “الحزام والطريق” و”البوابة العالمية”: تقاطع الاستراتيجيات والاستقطاب الدولي. والتي شارك فيها وزير التخطيط العراقي “د خالد بتام النجم”، وسفير الصين في العراق “تسوي وي”، ورئيس الديوان الملكي الاردني الاسبق “د جواد العناني”، “والسناتور بلوشان خان” رئيس لجنة التجارة في مجلس الشيوخ الباكستاني، والسيد “اندريه ديسي” رئيس معهد الشؤون الدولية في ايطاليا. وبعد مداخلات المشاركين القيمة وكلام وزير التخطيط العراقي عن الاتفاقية الصينية العراقية وميناء الفاو والقناة الجافة واهميتهما لعراق المستقبل، ولغياب ذكر سوريا في ورشة العمل هذه، كانت لنا مداخلة اكدت على اهمية موقع سوريا الجيوسياسي كبوابة لطريق الحرير على البحر المتوسط وموقع سوريا في استراتيجية الحزام والطريق، واهمية موانئ سوريا ولبنان كموانئ لطريق الحرير والحزام الاقتصادي،ومشروعنا في لبنان للاتجاه شرقا وطرحنا للسوق المشرقية المشتركة بين كيانات الهلال الخصيب لتامين الدورة الاقتصادية الواحدة والتكامل التنموي الاستثماري في هلالنا الخصيب. وتساءلت عن سبب غياب سوريا عن ورشة العمل هذه، وسألت وزير التخطيط العراقي الا تصل قناة الفاو الجافة الى مصبها على ساحل سوريا؟، وسألت ايضا عن المعوقات التي أخرت انجاز ميناء الفاو التي نعرفها جميعا وهل زالت هذه المعوقات؟. اجابني رئيس الديوان الملكي الاردني مؤكدا على مركزية سوريا في استراتيجية الحزام والطريق وان غابت عن الحضور في هذه الندوة فهي في موقع القلب في هذه الاستراتيجية.

وايضا كانت لنا مداخلة في ورشة عمل، “عالم ما بعد الحرب الروسية الاوكرانية: التحديات الجيوسياسية واحتمالات الحرب الكونية”. بعد تحميل الحرب الروسية على اوكرانية مسؤولية هذه التداعيات، اكدنا في مداخلتنا على تحميل الولايات المتحدة الامريكية والاطلسي مسؤولية هذه التداعيات بسبب عدم اخذ هواجس روسيا الأمنية بعين الاعتبار ودفع الحلف الأطلسي للتمدد شرقاً في حدائق روسيا الخلفية، وتشجيع أوكرانيا على الانضمام للاطلسي لدفع روسيا لتنفيذ العملية السكرية الخاصة في اوكرانيا. ورغم تحذيرات صندوق النقد والبنك الدولي للرئيس جو بايدن بان هذه الحرب ان وقعت ستقضي على توقعات النمو المتوقعة في العالم الرأسمالي ، وسترفع التضخم وستتسبب بارتفاع كبير في اسعار الطاقة مما يؤثر بشكل كبير على سلاسل التوريد وارتفاع اسعار السلع، وستتسبب بأزمة غذاء عالمي لان روسيا تصدر حوالي 30 % من قمح العالم والاسمدة، واوكرانيا على 3.5 % منه .لكن الرئيس بايدن لم يصغي لهذه التحذيرات بل دفع روسيا للفخ الاوكراني لاستنزافها هي والاتحاد الاوروبي معا لأن شركات تصنيع الاسلحة الامريكية وشركات انتاج البترول والغاز هي المستفيد الاول والوحيد من هذه الحرب. وتطرقت الى الحرب الاعلامية التي يقودها الغرب والتي تشوه الحقائق وتكيل بعدة مكاييل، وتحمل روسيا مسؤولية تداعيات الحرب والازمة الانسانية للاوكرانيين ولشعوب العالم التي سببتها هذه الحرب ،وسألت المشاركين لماذا تحتجز الموانيء الاوروبية القمح الروسي والأوكراني الذي مررته روسيا بوساطة تركية وحجبته أوروبا عن العالم بإيعاز أمريكي، ولماذا لا تفرج أمريكا والأطلسي عن مئات ملايين الأطنان من الأسمدة والحبوب التي تبرع بها الرئيس بوتين إلى فقراء العالم، ولماذا ترفع أمريكا وأوروبا حقوق الإنسان في أوكرانيا وتتناسى حقوق الانسان في فلسطين المحتلة واليمن وسوريا التي يعاني شعبها الموت جوعا نتيجية الاحتلال الامريكي لشمال شرق سوريا ونهبه سلة الغذاء والطاقة السورية في الرقة ودير الزور ونتيجة عقوبات قانون قيصر. وتساءلت لماذا هذا العنصرية والتمييز في التعاطي مع حقوق شعبنا محملا امريكا والاطلسي كل المأسي والمعانات التي تعانيها سوريا معتبرا ان استمرار معانات سوريا هي وصمة عار في وجه امريكا والاطلسي والاتحاد الاوروبي والضمير الانساني العالمي.

انتهت حوارات ملتقى الرافدين في بغداد التي أصابت في تحديد شعار الملتقى “العالم يتغير “ونجحت في توصيف المشكلات والمخاطر القادمة والتحديات على كل الصعد. لكن هذه الحوارات عجزت عن تقديم الحلول او تقديم تصور واضح لمستقبل امتنا والعالم الذي تغلب عليه الصراعات والحروب وازمات الغذاء والطاقة وتداعيات ما بعد الحرب الكونية في اوكرانية وانتهاء صلاحية النظام العالمي احادي القطب ومستقبل النظام العالمي الجديد ومخاض ولادته. كل ذلك يتطلب المزيد من الجهود والتحركات لوقف تلك الصراعات والبحث عن الآليات المناسبة لمعالجة اسباب الحروب والأزمات.في ظل غياب المؤسسات الدولية القائدة والقادرة على وقف الانهيار.

نعود من بغداد والخوف والقلق الذي كان ينتابنا فبل زيارتها زاد بعد انتهاء الملتقى بسبب الخوف على بغداد ومستقبل العراق والخوف على مستقبل امتنا والعالم العربي والرعب الذي يجتاح العالم اليوم، والخوف الأكبر من عدم تلمس وجود حلول قريبة لكل هذه الأزمات. ووضع آليات للحلول أو في تقديم مشروع إنقاذي جديد يخرجنا من هذه الأزمات، على أمل أن تتيح الملتقيات والمؤتمرات الأخرى التي يجب ان يشهدها عالمنا العربي لتحقيق هذه المهمة الكبرى.

مصدر الصورة: مركز سيتا.

موضوع ذا صلة: العالم العربي والصراع الروسي – الغربي

رياض عيد

باحث في العلاقات الدولية والجيوبوليتيك/ مركز سيتا – لبنان