لوسيان سيريس**

سأبدأ حديثي بوصف “النظام المعولم” ككل قبل الإنتقال إلى الفروق الدقيقة الداخلية. يعاني العالم بأسره حالة من العدم التناسق العام المتزايد. هذا هو التأثير الرئيسي للعولمة، ولن ينجو أحد منه. العولمة هي تسريع للإتصالات ووبنفس الوقت الحد من المسافات عن طريق التقدم التقني. وفقاً للتعريف الديكارتي، فإن الفضاء هو “جزء إضافي من الأجزاء”، لكنه سيصبح “جزءاً من الأجزاء الداخلية”؛ الأجزاء تخترق جزءاً داخل الآخر، وهذا ما يسبب تشويشاً كبيراً على نطاق الأرض بأكملها. جميع الفروق، الحدود، الإختلافات والهويات تتعرض للهجوم، كيانات وثقافات منفصلة سابقاً أصبحت الآن مختلطة، تتحول إلى أشكال هجينة، مركبة، معقدة، متناقضة، غامضة، مخنثة، فوضوية.

يمكننا رؤية ذلك بوضوح؛ ونريد تسريع هذا التوحيد العالمي غير المترابط أكثر: هذا هو مشروع القطب الواحد ما فوق القومي والمدعوم من جماعات الضغط العالمية بكافة أنواعها. ولكن يمكننا أيضاً أن نبقى يقظين بشأن مخاطر هذا التوحيد العالمي غير المتماسك والسعي إلى تنظيمه على طريقة التعددية القطبية المتماسكة مع احترام الحد الأدنى من المسافات بين الكائنات والهويات وبالتالي الأمم: إن مشروع عالمي مضاد متعدد الأقطاب هو ما ندافع عنه هنا في شيشيناو.

يستند النموذج الجيو – سياسي الجديد الناشئ إلى التضارب ما بين التماسك وعدمه، الذي يحدد كل شيء آخر. إن القطب الأطلسي الأوحد الذي تمكن من الجمع، كما نرى في أوكرانيا، بين التفوق الأبيض والصهيونية والجهادية والمثلية ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية، يشكل تخلياً تاماً عن التماسك؛ ثقافة “أي شيء” تسعى إلى زج العالم بأسره في حلقة عنف عمياء. في المقابل، تتميز القوى الأوراسية (روسيا، الصين، إيران، الخ) بواقعية حريصة على الحفاظ على السيطرة وتنميتها، ومواجهة الآثار المدمرة للعولمة، واستعادة الحد الأدنى من التماسك في هذا النظام غير المترابط عالمياً.

إن طبيعة النظام السياسي ثانوية للغاية. إذا فازت الأطلسية أو فاز محور التماسك، فمن الواضح أن هذا سيؤدي إلى انقراض جميع أشكال الحضارة. كيف يُرد على هذا التهديد؟ إن الهجوم لا طائل منه، أما الدفاع الجيد فيكفي. في الواقع، إن المشروع الأطلسي “أحادي القطب” غير قابل للإستمرار وهو يدمر نفسه بنفسه تحت وطأة تناقضاته. هنا، أصل إلى ما قصدته من عبارة الإنهيار؛ دراسة انهيار الحضارات. يميز ديمتري أورلوف- Dmitry Orlov بين خمسة مراحل من الإنهيار: مالي، تجاري، سياسي، اجتماعي، ثقافي، يمكننا أن نضيف إليها نوعان: الإنهيار النفسي الإدراكي. بدا الإنهيار النفسي الشامل واضحاً في الغرب الرأسمالي منذ سبعينيات القرن الماضي، ما أدى إلى انفجار حقيقي للأمراض العقلية بجميع أنواعها. اليوم، توجد مرحلة جديدة تتمثل في إلغاء الحكم، للفرق المشترك، بين ما هو طبيعي ومرضي؛ وبشكل أوسع بين ما هو طبيعي وما هو غير طبيعي في شكل نسبي عام ينبثق منه تسلسل هرمي جديد يكون فيه ما هو غير طبيعي متفوق على الطبيعي نفسه.

حتى القرن الثامن عشر، تم تعريف القاعدة الإجتماعية، القاعدة التي يجب اتباعها، على أنها توافق لآراء الأغلبية، وكان على الجميع الإلتزام بها. الجماعية تفوق الفرد. منذ نشر برنارد ماندفيل كتابه “حكاية النحل”، في العام 1714  وتحت عنوان “الرذائل الخاصة.. المنافع العامة”، انقلبت الليبرالية على مفهوم التوازن في إجماع الأغلبية هذا، إذ تم التنديد به بوصفه إضطهاداً للأفراد والأقليات، إلى أن قامت بتحريف مفهوم المعيار نفسه. لا يوجد أية قاعدة معيارية مفروضة على الأفراد والأقليات، فكل فرد أو أقلية لها الحق في تحرير أنفسها وتحديد قواعدها الخاصة، ويجب على الجميع قبول القواعد الجديدة للعبة، بمعنى أن كل فرد يستطيع إتباع النظام الذي يريده.

وبعد إجراء عملية “التسييل”، يدخل المجتمع ضمن الحالة “الغازية” بحيث تنطلق جميع المعايير المشتركة على شكل بخار. والمعيار الجديد هو أبعد ما يكون عن الإجماع: إنه الإستثناء، الحالة الفريدة، الباطلة، التعدي، والتوحش. من الواضح أن هذا النظام غير المركزي والمحكوم بالتدهور الحتمي لن يكون ناجحاً، وأن تصحيحه سياسياً سيؤدي إلى تفاقم الوضع. فتحت عنوان المساواة والتسامح والتنوع، تنطلق السياسات العامة والخاصة بشكل منجهي لتفيد تلك الأقليات، والتي تشمل عائقاً عقلياً: التوحد، والتثلث الصبغي، والشره المرضي، والإدمان المتعدد، ومشاكل تغيير الهوية بجميع أنواعها، والمسماة بـ “الهوية المائعة”. فالإضطرابات العقلية باتت خيارات الحياة التي يجب أن نتعلم إحترامها، بل تم إعدادها كنموذج من خلال “العمل الإيجابي”. في الغرب، فاز الطب النفسي المضاد للفرويدية الذي رفض التمييز بين الصحة العقلية والأمراض العقلية.

في فرنسا، إن عواقب إنعكاس القيم مأساوية. أكثر فأكثر، يقوم الناس بإعطاء تعليقات غير متسقة؛ كما أنهم يتصرفون بشكل غير طبيعي، يوماً بعد يوم، مما يعطي انطباعاً بأن هناك المزيد والمزيد من منهم مصاب بالجنون. بالطبع، لن يصبح الجميع مجنونًا بالمعنى السريري، ولكن القدرة على التفكير المنطقي القائم على الحقائق تختفي. الصبر والقدرة على الحفاظ على التركيز على المدى الطويل بات منسوبه منخفضاً. اضطرابات الوعي وفرط النشاط تسيطر على المجتمع بأسره. لهذا السبب، أنا أتحدث عن الإنهيار المعرفي، ما بعد النفسي. التفكير العقلاني غارق في مبدأ اللذة، والسعي إلى الإدمان على الإثارة، والإندفاع، والحساسية المفرطة، والإفراط في النرجسية، وعدم النضج العاطفي، والهروب إلى الواقع الإعلامي، و”واقع ما بعد الواقع” و”عالم ما بعد الحقيقة”.

هناك تخلي تدريجي عن اللغة البشرية، المكتوبة والشفوية، والتفكير المفصل. كذلك، يوجد سقوط لقدرات الأشخاص الفكرية، بما فيها المجالات الباطنية العليا للسلطة، وهي ليست من الأوليغارشية بل هي حكومة غبية؛ مؤلفة من أغبياء غير قادرين على فهم أن “الحكم بالفوضى” يعد أمراً سيئاً بالنسبة لهم. السلطة تقضي وقتها في تفتيت المجتمع، لكنها في حد ذاتها تفقد وحدتها وتنهار. إن كل مستوى من الهرم الإجتماعي، دون استثناء، يغرق ببطء في الفوضى والإضطراب. يزداد انعدام الأمن بإضطراد ويؤثر على الأحياء البورجوازية أكثر فأكثر. كذلك، تتحمل الهجرة نصيباً من المسؤولية في هذا الإنهيار الحضاري، لكن الشعب الفرنسي – الأوروبي، الذي ما زال يمثل الأغلبية السكانية، هو الذي جعل إيمانويل ماكرون يفوز، في العام 2017، برئاسة الجمهورية وكذلك الأمر سيحصل في العام 2022. إن الإنقطاع التام للعقل الفرنسي يعطل غريزة المحافظة، ويؤدي إلى خيارات سياسية إنتحارية وغير طبيعية.

إن الغرب الليبرالي ومشروعه الأحادي القطبية يغمرهما مبدأ اللا عقلانية. في مواجهة نظام “فخور بالمرض”، ماذا نفعل؟ في فرنسا، لا يزال الناس أكثر، أو أقل، اتصالاً بالدول الأخرى للحصول على المساعدة، بما في ذلك مجموعة “فيشغراد” وروسيا. بحماية من الليبرالية حتى تسعينات القرن الماضي، طورت موسكو رؤية سياسية وجيو – بوليتيكية نزيهة تعتمد على السياسة الحقيقية. ففي مواجهة الأطلسية، يطبق الكرملين استراتيجية دفاعية تتمثل في “إدارة المرض”. لا هجوم أمامي لأن المعارضة المعلنة تعزز عدم استقرار وإتساق النظام. لا تغذية للإنفعال. العولمة هي القزم: “لا تطعم القزم!”

ولفهم أفضل للجيوبوليتيك الروسي، والصيني أيضاً، يجب أن نتخلى عن هذا المفهوم المعرفي الليبرالي المسمى بـ “الفردية”، والتي تعد فلسفتها أساسية، بحيث أدت إلى رؤية الأشياء من خلال منطق متعارض بين جوهر الفردية والخلايا الآحادية الدقيقة. لكن النظام أكثر أهمية من الفرد. لذلك، من الضروري اعتماد نهج نظامي يؤدي إلى رؤية الأشياء من حيث الترابط بين أجزاء النظام، بما في ذلك عند وقوع أي نزاع. تمتلك روسيا مدرسة عظيمة لعلم التحكم الآلي منذ الحقبة السوفياتية، والتي تعمل على نمذجة وإمكانية التنبؤ بالظواهر الإجتماعية لا سيما في هذا المجال المستمد من النظرية المسماة “التحكم الإنعكاسي”. هذا النهج يفتح نظرة منهجية للصراع: لتحييد العدو، لم يعد عليَّ أن أكون في الصفوف الأمامية للمواجهة بل في خلق إعتماد متبادل متكامل بينه وبيني عبر مضاعفة حلقات ردود الفعل بحيث أنها تضرب نفسها عندما تضرب بي، وهو ما يسميه علماء التحكم الآلي بـ “الإرتداد”، وهذا يعتبر أمراً جيداً عندما تنعكس إيجابياً عليَّ، وهو ما يعرف بمبدأ “الدائرة الفعالة”.

يشير أندرو كوريبكو – Andrew Korybko، المتخصص في الحرب الهجينة، في مقالاته إلى أن روسيا تسعى إلى تقديم نفسها كعامل توازن عام بين جميع الأطراف، بمعنى أنها فاعل محايد في موقع الحكَم ويحتل المركز في “رقعة الشطرنج” الجيو – سياسية. يضرب كوريبكو مثالاً على العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وإسرائيل وإيران، بما في ذلك عملية التكامل الأوراسي حيث تريد موسكو جلب إسرائيل، وإيران أيضاً. تتمثل الإستراتيجية الروسية هنا في إدخال كل من إسرائيل وإيران في نظام مترابط يجبرهما ميكانيكياً على تهدئة التوترات بينهما. “نتحدث مع الجميع.. نحن على اتصال بالجميع”، بمن فيهم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لأن هذا بالضبط ما لا يريده الأخير. إن هذا المنهج السياسي العالمي الذي يعتمد على الربط بين جميع الجهات الفاعلة جيوبوليتيكياً هو مفتاح فهم الإستراتيجية الروسية العظيمة، التي يجب أن تصبح الإستراتيجية الأوراسية العظيمة، من لشبونة إلى فلاديفوستوك، تحت عنوان “عالم متعدد الأقطاب”.

لمنع نشوب الحرب، يجب علينا بالفعل منع قيام معسكرات معادية. لذلك، من الضروري خلق أقصى قدر من الترابط بوجه معسكرات العدو كي نجلعها متعارضة مع إمكانية فصلها عن بعضها البعض. منذ آلاف السنين، تحدث الإستراتيجيون الصينيون عن كسب الحرب دون قتال. هذا لا يعني عدم القيام بأي شيء؛ بإختصار: إنه “لا فعل” حيوي يعمل ضمن الصراع المعلن من دون الإعلان عن نفسه. إن الانتصار في الحرب دون قتال يعني منع ظهور معسكرات واضحة المعالم تتصادم بشكل مباشر، وذلك للإبقاء على اتصال مع الجميع، وللحفاظ على ترابط جميع الأطراف الفاعلة حتى لا تحدث المواجهة، أو على الأقل ألا تكون مباشرة، أو تؤثر على الجميع، بما في ذلك المعتدي، إذا ما حدث ذلك في نهاية المطاف.

بهذه الطريقة، وليس العكس، سننتصر في الحرب ضد الأطلسي والعولمة أحادية القطب. عليك أن تحمي نفسك من الشيطان، لكن يجب ألا تضربه. ضرب الشيطان يجعله قوياً ويزيد من مستوى العنف لديه؛ وبالتالي، يزيد من عدم الإستقرار وعدم الإتساق العام، وهذا ما يريده بالتحديد. لكي تؤذي الشيطان حقاً، عليك أن تتركه حيث هو مع العمل على إدماجه ضمن نظام أكبر. قد يقول البعض أن هذا النهج الإستراتيجي البارد يشبه هيكلياً المسيحية الخيرية، وخاصة في التفسير الذي قدمه رينيه جيرارد – René Girard. هذا ما أعتقده أنا ايضاً.

من هنا، سوف أختتم كلمتي بدعوة إلى ضرورة توافر حسن النية من أجل فتح فصل جديد من الدراسات الأوراسية التي تتناول هذا التقارب بين الحكمة المسيحية، والحكمة الآسيوية، وعلم التحكم الإجتماعي فيما يمكن تسميته بـ “فن القتال الجيوبوليتيكي”.

*ألقيت في “منتدى شيشيناو” الثالث بعنوان: المؤتمر الدولي “بعيداً عن لحظة الأحادية القطبية – توجهات متعلقة بعالم ناشئ متعدد الأقطاب” الذي عقد في سبتمبر/أيلول 2019.

**باحث في العلوم الإنسانية – فرنسا.

مصدر الصورة: منظمو المؤتمر.