د. رائد المصري*
بهدوء.. في عز ثورة الغضب، يعتب البعض ويُمازِح ويخوِّن من نزل إلى الشارع في إنتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول ضد فساد السلطة. لم يترك هؤلاء صيغة إحتجاجية قادها الشعب الجبار، في وجه هذه الطغمة المالية، إلا وساقوا الإتهامات ضده عبر الخطاب “المؤدلَج” متناسين أو غافلين عن أن الناس قد سبقتهم بأشواط كثيرة، وتخطت كل الشعارات والنظريات الحزبية والتأطير المتكلس في بنية هرميتها التي شاخت، آخرها كان “حفلة” التخوين بإستخدام طلاب المدارس والجامعات في الإحتجاجات المؤيدة للثورة – الإنتفاضة، متناسين بأن هذه الهبة الشعبية الثورية هي من أجل هؤلاء الطلاب ومستقبلهم بمختلف أعمارهم لبناء مستقبل واعد منتج. يريدون منا إحتكار الوعي فقط ضمن أعمار وسنين محددة، بدل المشاركة في تعزيزه لتدعيم قوائم الثورة، ومعرفة كيفية المطالبة بالحقوق والمكتسبات في مدارس نضالية أثبتت قدرتها وجديتها في ساحات لبنان وعلى كامل جغرافيته. إنه الوعي المزيف لهذه القلة من “النخب” الإعلامية والتي دخلت مرحلة الموت السريري، وينتظر دفنها بعد تثبيت منجزات الثورة – الإنتفاضة.
إن هدف السلطة الطائفية في لبنان هو الإلتفاف على مطالب الناس، وتمرير الوقت والتهديد بما يسمونه “إنقلاباً” على السلطة أو بإنهياراً مالياً وإقتصادياً للبلاد، وتحميل المسؤولية للشعب المنتفض فيما الناس تريد تغييراً حقيقياً وبنيوياً لهذا النظام المتعفن وطغمه الحاكمة من دون أن يعني ذلك أشخاصاً أو أحزاباً أو قوى أخرى بعينها.
من هنا، لن يكتفي الشعب بقانون رفع السرية المصرفية بل يجب إرفاقه بكشوفات مالية شهرية لكل ناهب وسياسي فاسد سابق أو من يتولّى منصباً عاماً وتقَّدم الى الرأي العام. إن الشعب يريد مكافحة الفساد، ومراقبة المؤسسات، بما فيها الدينية، ومالياتها العامة والمحولة إليها، ومعرفة كيفية إنتشار صفقات الفساد والسمسرات فيها.
إن الخطأ الكبير الذي إرتكبته الأحزاب اللبنانية يكمن في أنها، وبعد إنهاء الحرب الأهلية، لم تطرح رؤية للنظام العلماني والدولة المدنية، بل إكتفت ببعض التقاسمات الطائفية عبر نقل ما كان يأخذه المسيحيون إلى المسلمين، السُّنة بالتحديد. كما أنها لم تقم بالضغط المطلوب لإعداد قانون إنتخابات نيابية خارج القيد الطائفي، بحسب المادة 22 من الدستور، لمصالح ضيقة وأحياناً شخصية؛ وبالتالي، لم يكن لديها مشاريع حقيقة أو جدية لإلغاء الطائفية السياسية من جذورها.
ولتوضيح الفكرة أكثر، سنأخذ ما حدث في رواندا كمثال. دخلت كيغالي في حرب مدمرة، تعود جذورها إلى التقسيمات الإثنية والطائفية التي خلقها وخلَّفها المستعمر الغربي، بين قبيلتي “الهوتو” و”التُّوتسي” أودت بحياة مليون قتيل في مجازر مروعة. وبعد وضع حدٍ لهذا الصراع، قررت الحكومة إعتماد سياسة جديدة للقضاء على تلك الإنقسامات المجتمعية العمودية الحادة حيث تم سنُّ قوانين تمنع التفريق بين أبناء الشعب الواحد، وألغت الإشارة إلى هوية القبيلتين في الكتب والبرامج، وكذلك على بطاقات الهوية الوطنية. فلماذا لا تتعلم هذه الطبقة السياسية المتسلطة في لبنان، مما حصل في رواندا؟ أم أنها حقاً تريد الخراب لشعبها فتمتنع عنه الإصلاحات الجدية؟
هناك عقدة خوف لدى طبقة سياسية من إستفزاز الغرب وسياساته، في حين أنها لو أرادت التوجه شرقاً لحققت إنجازات كبيرة تفوق ما قد تخسره، الدولة اللبنانية ومؤسساتها المالية تحديداً، من جراء عقوبات الغرب على المصارف والمؤسسات المالية والمودعين، لكن هذا الأمر تلزمه الجرأة في إتخاذ هكذا قرار. فلماذا التمسك والخوف والتباكي على حكومة قررت الرضوخ لمصارف الغرب ومؤسساته البنكية، وكشفت “داتا” المودعين لمقربين من المقاومة، ومنعت عودة النازحين الى سوريا لتحرير الإقتصاد اللبناني، ومنعت الدخول الى ملفات الفساد وسارقي المال العام لمحاكمتهم، ومنعت عودة العلاقات مع دمشق وفتح الحدود لتوريد البضائع وإدخال العملة الصعبة؟
لم أفهم بعد، ولم يفهم الشعب المنتفض أيضاً، سر هذا اللغز والتهويل من إسقاط حكومة بهذه المواصفات. إنها مأساة ومفخرة الزهو بالقوة والإنتصار وتوزيع شهادات فحص الدم بالوطنية والعمالة ليس أكثر.
من وحي الثورة – الإنتفاضة، نقول للأحرار بأن الحكومة قد أنفقت أكثر من 500 مليون دولار على “المحكمة الدولية الخاصة بلبنان” من دون نتيجة تذكر، ومن دون تدقيق للجهات الرقابية، إذ لم يقدم المعنيون أي كشف على التقارير المالية لا سيما وأن وهذه المحكمة لم تأتِ بفائدة أو نتيجة ملموسة للدولة والمؤسسات اللبنانية أو للشعب. لكن أكثر الأمور غرابة كان تمسك قيادة حزب الله ببقاء هذه الحكومة، والتستر على إنفاقها وشرعنته، والسكوت عن القرارات الإتهامية الجديدة، وذلك في تجاوز إضافي لأبسط قواعد العدالة وحقوق الإنسان.
وعن هذا الموضوع بالذات، من المهم الكشف عن تعيين الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيريش، لقاضية دولية جديدة، آنا بدنارك، الذي من شأنه تخصيص راتب إضافي يسدد الشعب اللبناني 49% منه.
فهل ينتبه المسؤولون والمقاومة ورئيس الحكومة المستقيل، سعد الحريري، بأن ما يطالب به المتظاهرون والمتظاهرات والمنتفضون والمنتفضات والثائرون والثائرات، في كافة المناطق اللبنانية اليوم، هو مكافحة الفساد، وملاحقة الفاسدين، ومنع الهدر في المال العام، في وقت تخفي المحكمة الدولية تفاصيل صرفها لهذا المبلغ الضخم من جيوب الشعب اللبناني؟
ختاماً، نحن نخوض معركة المقاومة ضد المستعمرين والصهاينة في الخارج، وضد الفساد والمفسدين في الداخل. فشعار “كلن يعني كلن” من الفاسدين والمفسدين، والذي رفعه المنتفضون، يجب أن يشمل المحكمة الدولية، وكل من شرعها، ومولها خلافاً للدستور والقانونين المرعية الإجراء، وبشكل سري ودون مراقبة من وعلى حساب الشعب اللبناني. فهل تريدون فحص دمنا في الوطنية والمقاومة من جديد في مختبراتكم الصدئة؟!
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
مصدر الصور: ميدا إيست أونلاين – Le Point.
موضوع ذو صلة: ماجد: لبنان أمام إصلاح شامل أو إنهيار وشيك