خاص “سيتا”

كاميل غيل*

كانت فترة الحرب الباردة الوحيدة في تاريخ أوروبا والعالم عندما وقفت كتلتان سياسيتان وأيديولوجيتان قويتان مقابل بعضهما البعض. ولكن بالرغم من العداء القوي المعلن، لم يكونا، رسمياً، في حالة حرب. لقد كان وقتاً غير عادياً تماماً في تاريخ دولنا. حالة توتر مستمرة؛ وحروب بالوكالة في العديد من الأماكن المتفرقة من العالم، وسياسة دولية ديناميكية للغاية. كل ذلك، طبع علامة كبيرة في عقول الناس الذين عاشوا في تلك الفترة. وقد انعكس هذا الوضع في العديد من المذاهب السياسية وطرق التفكير السياسي التي نشأت في ذلك الوقت وأثرت على النخب الأوروبية لفترة أطول بكثير مما كان توقعاً. مع ذلك، عندما أعلن القرار الرسمي بشأن حل الاتحاد السوفييتي في 26 ديسمبر/كانون الاول عام 1991، كان العالم مقتنعا بأن عصر الحرب الباردة قد ذهب إلى غير رجعة. وفقاً للكثير من التوقعات والتنبؤات، كان النظام الدولي سيخضع لتغير هام في ذلك الوقت. من نظام ثنائي القطبية إلى أحادي القطب، حيث ستلعبت الولايات المتحدة الدور المهيمن وإلى الأبد. وكان النموذج الأورو- اطلسي هو الذي سيحدد التفكير السياسي في أوروبا مستقبلاً، والنظام العالمي سيحمل علماً وراية واحدة فقط مع شعار “السلام الأمريكي”. غير أن الناس لم يلاحظوا أن نوعا من السلوك الذي أدى إلى إضعاف الكتل السياسية من الحرب الباردة، لن يكون متجذراً في تلك الفترة. على العكس، اتضح أن تلك الظواهر كانت أطول بكثير، وكان لها أثر مباشر على الحالة التي نشهدها اليوم أيضاً، اذ تبين بأن النخب كان معارضة لها تماماً. فهل كان السبب ضعفها الذاتي؟ ام الإفراط في الثقة؟ في الواقع، لا يهم.

هناك شيء آخر أكثر أهمية. الحقيقة هي أن أزمة العالم الغربي أخذت مكاناً، هنا والآن، أمام أعيننا. إن الاتحاد الأوروبي بات يقع وسط أزمة هيكلية وإيديولوجية عميقة وخطيرة. والولايات المتحدة الأمريكية بدأت تفقد بإستمرار القوة في البعد العالمي. هذا السلوك بدأ يقوى من خلال مواقف الرئيس الاميركي دونالد ترامب الواهية. ومع ذلك، فكما تكره الطبيعة الفراغ، فإن الأمر نفسه غير ممكن في هيكل النظام الدولي العالمي على المدى الطويل. النظام العالمي أصبح فضفاضاً أكثر فأكثر وغير مستقر، وكان ذلك وراء السبب في وصول قوى جديدة، كالصين، أو قديمة، مثل روسيا، الى المسرح الدولي من جديد. عندما يتعلق الأمر بروسيا، يبدو لي أن الأمر أكثر تعقيداً. ويمكنني أن أشيد ببطولات الجنود الروس الذين ساعدوا في تحرير سوريا من الإرهابيين المدعومين من الغرب. كما أود أن أعرب عن إعجابي العميق بالإجراءات السلسة للدولة الروسية التي أثرت وجودها في الشرق الأوسط بشكل مباشر على هزيمة داعش، والاستقرار الجزئي للمنطقة. ولكن في الوقت نفسه، لا أستطيع أن أدعي بأنني لا أرى ان وجود روسيا، في الشرق الأوسط، لا يخدم أهدافها أولاً وقبل كل شيء. بالطبع، هذا لا يعني أي شيء سيء بالنسبة لقرَّاء البحث. ومع ذلك، أنا، بصفتي مقيمٌ في بولندا، درس تجربة منطقتنا وبلدنا الذي أتيت منه، لا يمكنني أن أكون غير منتقد لهذا العنوان. لهذا السبب، أريد أن أظهر من خلال هذه المادة، التي لا ادعي أنها شاملة، كيف بدت العلاقات بين بولندا وروسيا في الماضي، وكيف تبدو اليوم، وما يمكن أن تكون عليه في المستقبل.

بدأت العلاقات البولندية – الروسية بالتبلور في القرن السادس عشر، أو حتى قبل. ومع ذلك، بالنسبة لموضوعنا، يكفي أن نقول إن تاريخ علاقاتنا المتبادلة هو “تاريخ صراعات لا تنتهي”، تملاؤه الاحتكاكات والتوترات. في البدء، واجهت الدولة البولندية، والتي كانت قوة حقيقة في القرن السادس عشر الذي توسعت خلاله شرقاً، مقاومة ضعيفة وغير منسقة لدوقية موسكو. تمكن الجيش البولندي حتى من غزو موسكو في العام 1610. ومع ذلك، في وقت لاحق، نتيجة للأزمة الداخلية لدولتنا، تغير الاتجاه، وبدأت بولندا تفقد المزيد من الأراضي لصالح روسيا حتى فقدان كامل للاستقلال في عام 1795. اختفت بولندا عن خريطة العالم لمدة 123 عاماً. كانت بلدنا تحت السيطرة الكاملة من ثلاث قوى: مملكة بروسيا، الإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية النمساوية. الروس، الذين يشبهون بروسيا، حاولوا تدمير الأمة البولندية بطريقة وحشية جداً. كانت اللغة البولندية محظورة، وتم الاعتداء على الشباب وترحيل المتمردين منهم إلى سيبيريا. تم القضاء على جميع بؤر التمرد أو المقاومة. بعد استعادة الاستقلال في عام 1918، اضطرت الدولة البولندية الشابة للقتال من أجل استعادة حدودها. كان هدف البولنديين إنشاء اتحاد فدرالي مكون من دول شرق أوروبا ليكون تحت قيادتهم. لهذا السبب، دعمت بولندا الجيش الأوكراني بقيادة سيمون بيتلورا، الذي أراد إنشاء دولة مستقلة. وصلت هذه القوات حتى كييف. ولسوء الطالع، ونتيجة لتدهور القيادة البولندية، اهبط هذا الهجوم. في يونيو/حزيران عام 1920، وقف الجيش الأحمر بالقرب من وارسو، التي شكلت احدى اهم المعارك في أوروبا ذاك الوقت. بعد انتصار بولندا، استمرت العلاقات بين الدولين في هدوء النسبي، والتي توقفت عن طريق المهمات السرية وأعمال المخربين الشيوعيين الذين لم يتمكنوا من الثأر لهزيمتهم في عام 1920.

تغيرت هذه الحالة بشكل دراماتيكي مع بداية الحرب العالمية الثانية، عندما هاجمت ألمانيا النازية بولندا. الامر نفسه قام به الاتحاد السوفييتي بعد 16 يوماً. شكل ذلك انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي والمعاهدات الموقعة مع بولندا. سيطر الاحتلال على أراضي في شرق بولندا (التي اتفق عليها ضمن اتفاق ريبنتروب – مولوتوف في عام 1939) بشكل دموي وقاسي للغاية، حيث أسفرت هذه العمليات عن تهجير الشعب البولندي إلى الشرق الأقصى، ناهيك عن عمليات النهب والاغتصاب ومضايقة رجال الدين. في ربيع العام 1940، وقعت جريمة في “كاتين”، حيث قتلت “نكفد” السوفياتية (ما كان يعرف بالمفوضية الشعبية للشؤون الداخلية وهي منظمة الشرطة السرية السوفياتية الرائدة) أكثر من 20000 مواطن بولندي (بما في ذلك 10000 ضابطاً). يكفي أن نقول عن ذلك، أن روسيا تحملت المسؤولية عن هذه الجريمة في عام 2010، ووصفتها بأنها “واحدة من أكبر جرائم العصر الستاليني”. كانت فترة ما بعد الحرب فترة هيمنة الشيوعية في بولندا اذ اعتمدت كلياً على الاتحاد السوفييتي. وفي البداية، تعرضت جميع جماعات المعارضة، والوطنيين، والقوميين، والاشتراكيين واليساريين للاضطهاد الشديد. لقد كانت الحالة الاجتماعية صعبة وشديدة للغاية اذ أصابت العمال في مقتل، مما جعلهم ينتفضون ضد السلطات في الأعوام 1956 و1968 و1970 و1980 و1989، الامر الذي ادى إلى الانهيار الفوري للجمهورية الشعبية البولندية، وبالتالي اعتبرت اشارة على قرب انهيار الاتحاد السوفيتي.

اعطى العام 1991 الأمل في تطبيع العلاقات بين بولندا وروسيا. لكن ذلك لم يحدث بسبب الوضع غير المستقر في روسيا، والتي تحولت إلى دولة اتحادية مليئة بـ “الألم والفوضى”، وبولندا ايضاً، لم يكن من الممكن العثور لديها على مفهوم متماسك لتلك العلاقات. في عام 1992، أعلنت بولندا استعدادها الرسمي للانضمام إلى معاهدة حلف شمال الأطلسي، الامر الذي يعبر وضوح توجهاتها وسياستها الدولية نحو الغرب. ولأسباب طبيعية، لم يكن بوسع روسيا هضم ذلك، والتي بدورها احتجت على أي محاولة لتوسيع رقعة التحالف العدائي الاطلسي على حدودها. وفي عام 1994، أدانت بولندا التدخلات الروسية في الشيشان، وفي أوائل عام 2000، تم طرد تسعة دبلوماسيين روس من البلاد للاشتباه في قيامهم بعمليات تجسس. اذاب تشكيل حكومة يسارية في بولندا، والتي مثملت في الواقع معسكر ما بعد الشيوعية، الثلج نوعاً ما، لا سيما بعد ان جاء الرئيس فلاديمر بوتين الى السلطة ودعوته للتعاون مع الغرب العام 2001. مع ذلك، لم يذكر التاريخ أي تقدم ملحوظ. رفض الجانب الروسي تحمل المسؤولية عن مسائل في الماضي، بما في ذلك مجزرة “كاتين”.

تدهورت العلاقات الثنائية تدهوراً كبيراً مع تولي حزب “القانون والعدالة” في بولندا مقاليد الحكم، حيث وضع، منذ اليوم الأول لولايته، سياسة محددة تجاه روسيا. كانت النتيجة قيام روسيا بفرض حظر على استيراد منتجات اللحوم والخضروات. وعلاوة على ذلك، اصاب الاعلان عن مشروع روسي – ألماني لبناء خط أنابيب للغاز في الجزء السفلي من بحر البلطيق تحت اسم “نورث ستريم” او “السيل الشمالي” ضرراً بالمصالح الاستراتيجية لبولندا ودول البلطيق، حيث تم استثناؤها من صياغة الاتفاق كبلدان عبور طبيعية، الأمر الذي لم يحرمهم من الدخل المادي فحسب، بل شكل أيضاً تهديداً مباشراً لأمنهم في مجال الطاقة. وفي العام 2007، تولى الحكومة البولندية حزب “المنصة المدنية” (التي كان يرأسه الرئيس الحالي لمجلس أوروبا دونالد تاسك). وسرعان ما تم التوصل إلى اتفاق بشأن إلغاء الحظر الروسي على المنتجات البولندية. تأثرت العلاقات بين البلدين من كارثة “سمولينسك” في 10 أبريل/نيسان 2010، بعد التحسن الذي اصاب العلاقات البولندية الروسية (على الأقل في المجالين الرمزي والتاريخي). في 26 نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2010، اقر مجلس النواب الروسي “الدوما” قانوناً بالغ الأهمية، من وجهة النظر البولندية، اذ تحملت روسيا رسمياً المسؤولية عن الجريمة في “كاتين”، وبث التلفزيون الروسي، ولأول مرة، فيلماً بولندياً شهيراً بعنوان “كاتين” من إخراج أندرج وجده. وبعد خمس سنوات، عاد حزب “القانون والعدالة” الى السلطة في بولندا بدعم شعبي كبير، لاسيما من تبنيه لنهج سياسي يتمثل في إعلان “الانتفاضة من الركبتين”، أي إجراء سياسة ذاتية على الساحة الدولية.

ولهذا السبب يقف حزب “القانون والعدالة” بشكل صارم وعنيد في دعم مواجهة أزمة الهجرة التي تتجه ببولندا بعيداً عن الاتحاد الأوروبي. الى ذلك، تم تبريد العلاقات مع الشركاء البولنديين التقليديين: ألمانيا (حزب دونالد توسك كان يقال عنه “عملاء ألمان”)، وفرنسا (إلغاء عقد ميسترال)، والاقتراب من الولايات المتحدة (بالتوجه الأورو – أطلسي وذلك بفضل انتصار دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية). لهذا النهج، يدفع حزب “القانون والعدالة” أمريكا لمعاداة روسيا، والذي تحول لاحقاً الى حد المبالغة (وخاصة من قبل وسائل الإعلام والمراكز التابعة لوزير الدفاع الوطني أنتوني ماكييرويتز). لهذا السبب، ردت روسيا على بولندا بمعارضة دبلوماسية لوقف التجميع المعادي للشيوعية في بولندا (والهادف الى تفكيك الآثار السوفيتية المتبقية في بولندا) وتقوم قنواتها الاعلامية بالضغط في هذا المجال.

كما نرى، لقد بدأت هذه الدراسة من القضايا التاريخية وانتهيت بها ايضاً. وعلى الرغم من أن القيم الأخلاقية والتاريخ لا تحددان العلاقات الدولية، كما هو معتقد حالياً، غير ان من المهم هنا التذكير بأنها تعتبر عنصراً مهماً في رسم وتحديد ملامح العلاقات بين بولندا وروسيا. لماذا؟ لانه من الصعب حلها. ولعل هذه الحقيقة تمكن في أنها تترافق مع التاريخ الفريد والصعب جدا لأوروبا الشرقية، أو ربما لانها ذات صلة وثقية بالطابع الخاص لبلدي. بعد كل شيء، يبدو ان البولنديين عاطفيين جداً كونهم يعلقون اهمية كبيرة على القيم التقليدية والتاريخ والأسرة. وعلى أية حال، ليس هناك شك ان هناك حالة من الاستقرار في النظام الدولي الحالي، اذ ان بولندا ستكون أقل قدرة في الاعتماد على تحالفاتها القائمة، وستضطر على نحو متزايد إلى حل مشاكلها بنفسها. ولذلك، في هذا السياق، فإن السلوك الراديكالي الأورو- أطلسي للسلطات البولندية هو سلوك خاطئ، ويفتقر الى عدم وجود سياسة متماسكة تجاه روسيا وهو أمر بالغ الخطورة، حيث انها لا تخدم العلاقات المتبادلة بين هذه البلدان. ولهذا السبب، ستبقى الاسئلة بمستقبل العلاقات واحدة من أكثر التحديات السياسية وإثارة للاهتمام في هذا الجزء من العالم.

*باحث في العلاقات الدولية – يعمل في موقع: 3droga.pl

مصدر الصور: csmonitor.com – polandinarabic.com – روسيا اليوم