د. رائد المصري*

بهدوء.. ولتصمت أبواق الإعلام المأجورة التي تتنطح على شاشات التلفزة تستعرض قوة زخمها وحدة مواقفها في الدفاع عن سلطة الطوائف والمذاهب والدين، رغم أننا في عز إنتفاضة الشعب على الظلم والفساد وفي عز إرتباك أركان السلطة اللبنانية ومنعهم من الحكم بقوة الدستور وحق الشعب وفقدان صلاحية الفاسدين من السياسيين، تتكشف إرتكابات أركان الحكم المذهبي في العفو الجمهوري الخاص بحق مجرمين طالهم عقاب السلطة القضائية ويريدون تمريره وتسويغه على الناس وفق الصلاحيات الممنوحة لفخامة الرئيس، علماً أننا نعمل مع هذا الشعب العظيم على مشروع سياسي وكأننا تخطينا مدة ما تبقى من الرئاسة وهي أقل من ثلاث سنوات حتى لا نقول أكثر، ونستعرض أفضح الإرتكابات القانونية والدستورية والمالية بحق كل من الوطن والمواطن في دولة إنتهت مدة صلاحيتها وفي أزمة نظام سياسي لم يعد يستطيع السير أبداً بعد اليوم رغم تركيب كراسي العجز المدولبة له.

فضيحة بيع الأطفال الشقر والسمر في الجمعيات التي تم توقيف القيمين عليها رغم رفضهم تسليم ما تبقى من أطفال بحجة حماية الكنيسة المارونية لهذا الإرتكاب المخيف، ورغم محاولة التدخل الكنسي والرئاسي للضغط من أجل إطلاق الموقوفين، كما حصل في جريمة المخدرات ونقض الحكم المبرم بحقّ مرتكبيه وإطلاق سراحهم بالعفو الخاص، يدلنا كل يوم على أننا نعيش فترة أسوأ من زمن العصور الوسطى في الوحشية والإرتكابات بحقّ الإنسان والإنسانية، إنها وحشية الطوائف والمذاهب المتلحفة بثوب الدين والوقار، ترتكب أفظع موبِقات العصر وتتهِم الجياع المنتفضين بتخريب البلد والقيام بالإنقلابات على حكومات وبرلمانات شرعية.. إنها تفاهة العصر وعُهر السياسة.

كل يوم يخرج إلينا الآباء المؤسّسين لأكبر رمز للتعصب الديني والمذهبي من رؤساء الحكومات السابقين الذين شكلوا جمعية دفن الموتى، ليتحفوا اللبنانيين بضرورة إحترام مقام رئاسة الحكومة “السُنية” التي تنتهك بالصلاحيات والدعوات للإستشارات النيابية الملزمة وتشكيل الحكومة.. وهذا يدلنا على إنعدام وعُقْم وعطل هذا النظام السياسي المؤسس لسياسة القهر والظلم والفساد وإستباحة القوانين، فهذا هو سبب أزمة حكام السلطة.

بعض أحزاب السلطة، التي تحدثت كثيراً وأحجمت عن تقدمها ناحية الإنتفاضة الشعبية، عبرت عن مخاوفها من مؤامرات خارجية أميركية وغير أميركية وهي محقة، ولكنها غير محقة في كون أن هذه المؤامرات الأميركية لم تبدأ مع إنتفاضة الشعب اللبناني بوجه ظلم السلطة الفاسدة ولن تنتهي بإنتهاء الإنتفاضة، فمؤامرات الخارج مستمرة وأحزاب السلطة سهلت دخولها.. وكفى.

لا تمتلك هذه الأحزاب، في السلطة، أي نفس ثوري على الإطلاق بمجملها، حيث قويت شوكتها في الإنتخابات النيابية الأخيرة وفي تحالفاتها، والخطورة اليوم أنها تعتبر ضرورة الإستقرار في لبنان تتساوى مع تجنب أو إسقاط الفتنة المذهبية، فهذه الأحزاب الحاكمة تخاف من التغيير، وفلقد صارت جزءاً أساسياً من السلطة والفساد والتحاصص والتركيبة السياسية، وهي لا تريد التعامل مع وقائع مجهولة وتريد الثبات والإستقرار والديمومة في تحالفاتها ونهبها للمال العام، وهي تخشى من تطورات جديدة وتحولات لم تقرأها في الشارع ولا تريد غير الإستثمار في السلطة والنظام السياسي على الرغم من كل الموبقات التي إرتكبها وكل الظلم والفساد.. فكيف لأحزاب تدعي الثورية والتغيير تجهد لإبقاء القديم على قدمه ويسعون لمنع إنفراط العقد الحكومي حتى لو كانت على حساب مكافحة الفساد والفاسدين وإسترداد المال العام؟!

إنها معركة وجودية لأحزاب السلطة، بحسب إعتباراتها، مع إنتفاضة الشعب لأنها حركة إحتجاجية شملت كل الطوائف والمذاهب إندلعت بصورة عفوية جراء تراكمات إقتصادية ونَهْبٍ مستمر للسلطة، إنَّه القَهْر الطبقي في لبنان.. هذه المعركة، التي يعتبرها البعض وجودية، تجنَّد لها البعض من أجل قمعها بأدوات الأحزاب الصلبة، فإرتدت سلباً وإنعكست إحراجاً على قوى الأحزاب تلك التي تدعي “الثورية” في وقت تحولت فيه إلى قوة ضاربة بيد السلطة في الشارع ضد المنتفضين، وصار خطاب رئيس التيار الوطني الحر، الذي بلغ في العنصرية والإنعزالية أيما مبلغ، يجعلنا نترحم على خطاب حزب القوات اللبنانية، الذي صار معتدلاً إذا ما أجرينا مقاربة في الموضوع.

نقول أخيراً وأنتم في السلطة أحزاباً وطوائف ومذاهب، ليست لكم أية مصداقية اليوم في محاربة الفساد ولن يكون، ونحن نعتقد أن إحجامكم عن محاربة الفاسدين، من غير الرئيس فؤاد السنيورة، قد كشفكم وكشف عوراتكم المذهبية، وحجم العصب والتعصب الذي يسير شؤونكم.. فلا تدعووا الوطنية والحماية لهذا الوطن.. قد باتت محاسبة السارقين والفاسدين أشد خطراً من محاربة إسرائيل؛ ولكي تنجحوا، إجعلوا من حراك وإنتفاضة الشعب الملجأَ الآمن لأنه حالة عابرة وطنية من دون أن تتهِموا الناس بالعمالة والمؤامرات. تلكهي نظرتكم الفوقية للتعامل مع الناس حتى اليوم، فعندما نقول وجهة نظرنا في ما يخص إصلاح بلدنا، تواجهوننا بالقول أننا مضللين بالدعاية الأميركية والدعاية الإسرائيلية وغيرها من دعايات التدخل الخارجي.. فلماذا تعتقدون أنكم تمتلكون الحق والعقل والوعي وقادرون على أن تفهموا المؤامرات الإقليمية والدولية ضد البلد ومصالح الناس وتتصورون بأننا وباقي الشعب اللبناني شعب تافه لا يستحق أن يقرر مصيره، وأنه مغرر بنا وكأننا صبيان وأنتم الوحيدين الذين يمتلكون الفهم والتقدير؟ كلا، لن تحكموا بعد اليوم.

*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

مصدر الصور: أرشيف سيتا + قناة العالم.

موضوع ذو صلة“الهوتو” و”التوتسي”.. والتطلُّع إلى “الشرق الجديد”