نبيل أنطوان بكاني*

كشفت صحيفة “بلومبورغ” هذا الأسبوع، عن حنق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من تزايد نشاطات الصين بمنطقة الشرق الأوسط في “حرب” الكشف الجيني عن فيروس “كورونا” في ظل ما يشبه هوساً عالمياً فاق في هيجانه التسابق نحو التسليح العسكري، وذلك بعد ورود معلومات عن تكثيف شركة “بي.جي.آي” الصينية التي تعد من كبريات مراكز “دي.إن.آي” وعلم الوراثة عالمياً، نشاطها في المنطقة.

يحدث ذلك في وقت ما زالت تنهال فيه الإنتقادات على الرئيس ترامب، الذي بدا قبل يومين كأنه يحتفل بتخطي بلاده عتبة الـ 100 ألف وفاة ناجمة عن الفيروس، مستمتعاً بممارسة الغولف، مصراً على إظهار لا مبالاته بحجم الكارثة، وهو الإستهثار الذي أكدته تصريحاته، قبل أسابيع، عندما طالب بحقن المرضى بالمطهرات ومحاليل التعقيم أملاً في أن يكون ذلك الحل السحري والأخير للأزمة الوبائية التي تسبب فيها بتهوره عند استهانة بالتهديد وتقديمه تطمينات جوفاء بدل إتخاذ إجراءات استعجالية فعالة، وفشله في وضع خطة واقعية لمواجهة الجائحة، ما دفع رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، لإتهامه، في نهاية مارس/آذار 2020، بالإنكار “المميت” للمدى الحقيقي لإنتشار الفيروس وحدته بعد تخطي حاجز الألفين وفاة مقابل النقص في وسائل الفحص للكشف عن الفيروس، ورفضه وقتها إصدار توجيهات بإنتاج المعدات الطبية الضرورية ما تسبب في اتساع البؤر الوبائية.

قبل ذلك، وفي حين ظل هو متشبت بموعد فتح الإقتصاد، بحلول 12 أبريل/نيسان 2020، كان استياء حكام الولايات يتزايد لعدم توفير الدعم اللازم لحكوماتهم والحكومات المحلية لتمويل خطط مواجهة تفشي الوباء. ومع تأخر أميركا في اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة لمنع انتشار المرض، كانت دول صاعدة، من ضمنها بلدان عربية، قد نفذت المرحلة الأولى لخطة محكمة أبانت عن حنكة سياسية لحكوماتها، مقدمة سلامة أوطانها وشعوبها على حساب الإقتصاد والمنفعة المالية، وهو الأمر الذي تخلفت فيه كل من أوروبا وأميركا على حد سواء.

أمام هذا الموقف المحرج، لم يجد الرئيس ترامب مخرجاً إلا محاولات بائسة ويائسة للتغطية على فشله بإطلاق تصريحات مضللة أكد فيها على وفرة عينات الفحص وسهولة إجراء الفحوص، بيد أن الجواب الحقيقي جاء من البيت الأبيض، مطلع مارس/آذار 2020، حين كشف أن الولايات المتحدة لا تملك كمية كافية من عدد الفحص المخبرية، وهو ما فسره العدد المخجل من الكشوفات التي أجرتها السلطات الصحية حيث لم تتعدى 26 فحصاً لكل مليون شخص، بينما أجرت كوريا الجنوبية، مثلاً، أربعة آلاف فحصاً لكل مليون شخص.

الرئيس ترامب الذي فشل في استثماره السياسي للأزمة بعدما حاول تصديرها إلى الشرق الأقصى والذي اعتمد على “حدسه”، كما عبر عن ذلك بلسانه خلال اتصال بمحطة “فوكس نيوز”، في تكذيبه أرقام الوفيات التي أعلنتها منظمة الصحة العالمية، اليوم قد فقد السيطرة تماماً على التحكم في انتشار الوباء، في عدد من الولايات، بعد تجاوز عدد الوفيات الـ 100 ألف، وتخطي عدد الإصابات حاجز 1.7 مليون شخص. في هذا الوقت، تكون الصين الواقعة في أقصى آسيا، قد استطاعت تشييد مراكز اختبار لها في الشرق الأوسط، في كل من السعودية والإمارات وإسرائيل، داخل مدة قياسية لم تتعدى شهراً، بعد خروجها من الأزمة، لتظهر كقوة وحيدة بدون غريم قوي في الساحة الدولية.

الحنق الأميركي يزداد حدة عندما نعلم أن الصين استطاعت الظفر بملايين الدولارات من وراء عقود لتشييد مراكز فحص جيني لفيروس “كورونا” في منطقة “نفوذ” الرئيس ترامب الذي لا يتوقف “سيلان لعابه” كلما زادت الحاجة إلى أموال الخليج، أو ما يعرف بالحلفاء التقليديين في المنطقة، خاصة السعودية والإمارات إلى جانب إسرائيل التي تبث لها عجز أميركا عن تقديم أية مساعدة فعالة لها لمحاصرة الوباء. فحسب صحيفة “بلومبورغ”، وجهت واشنطن تحذيراً لحلفائها في المنطقة من مغبة فتح الباب للشركة الصينية، ومقرها شنتشر، لإقتحام مجال اختبارات ينتظر أن تكون مكثفة لمحاصرة الفيروس أمام استمرار تصدر هذه البلدان أعداد الاصابات في المنطقة بتسجيلها آلاف الحالات الإيجابية يومياً.

عاد الرئيس ترامب، وبكل انعدام أخلاقي وبجاحة، لعادته المعهودة في “لي الذراع” بإرسال خطابات تهديد لحلفائه في حال سمحوا للصين بإقامة مراكز اختبار في بلدانهم، بمنح بيكين حق الوصول إلى بيانات شخصية ذات قيمة عالية لها تأثير على الإقتصاد المستقبلي لهذه البلدان، في خطوة أقرب إلى المقايضة على الإختيار بين التضحية بآلاف أو عشرات آلاف المواطنين المهددين بالإصابة يومياً وبين ضمان استقرار اقتصاداتها تحت مظلة الحماية الأميركية.

وفي هذا السياق، نقلت “بلومبورغ” أيضاً عن مسؤول أميركي، وصفه للشركة الصينية بـ “هواوي الجينات” في إشارة الى شركة “هواوي” الصينية المتخصصة بتكنولوجيا الإتصالات والهواتف الذكية، التي ترى فيها واشنطن خطراً محدقاً على اقتصادها المعلوماتي، بسبب ما تقول أنها تجاوزات في نظام أمن المعلومات.

المؤكد، اليوم أن الرئيس الأمريكي فشلت في التأثير على حلفائها في المنطقة، كما فشلت قبل شهرين في استعداء حلفائها في العالم للصين. فالحرب الكلامية وتبادل الإتهامات بين رئيسي الدولتين وتسمية الرئيس ترامب الوباء بـ “الفيروس الصيني”، لم يثر اهتمام القادة الأوروبيين الذين كانوا منشغلين بإستجلاب الكمامات الصينية وتوفير معدات التنفس من بلاد ماو تسي تونغ. ومقابل هذا التحول العالمي المضطرد نحو الإهتمام بالتجربة الصينية في إدارة أزمة “كورونا”، بدت الولايات المتحدة منقسمة سياسياً أمام إكراهات تجاوز عدد الوفيات فيها ثلاثة أضعاف دول أخرى كانت مصنفة من الأكثر تأثراً بالجائحة.

شركة “بي.جي.إن” الصينية تعمل على بناء ما يعرف ببنك الجينات الوطني في الصين، منذ العام 1999. وفي هذا الصدد، كشف رئيس المجموعة الصينية وكبير مسؤولي التطوير فيها أن الشركات التابعة للمجموعة لديها صلاحيات التعامل مع عينات المرضى والوصول إلى بياناتهم. وحسب المعطيات التي سردتها “بلومبورغ” عن نشاطات الشركة في دولة الإمارات، أن المختبر الذي شيدته الشركة في أبو ظبي، منتصف مارس/آذار 2020، قادر على إجراء عشرات الآلاف من الإختبارات يومياً للكشف عن الفيروس التاجي بمساعدة الروبوتات الصينية في إعداد العينات، ويمكن أن يمتد ليكون له دور إقليمي، حيث وردت إشارات عن إمكانية توسيعه ليغطي مناطق مجاورة، بعد تزويد الشركة لحكومة أفغانستان بأول دفعة من مجموعات الفحوص.

حسب تقارير إعلامية سعودية، فإن الإتفاقية بين السعودية والصين، التي جاءت نتاجاً لإتصال هاتفي بين الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس الصيني شي جين بينغ، تعد من أكبر العقود في المجال بقيمة بلغت 995 مليون ريال حيث ستوفر بموجبها الشركة الصينية تسعة ملايين فحص لتشخيص “كوفيد 19” يشمل تسعة ملايين شخص في المملكة، مع توفير جميع الأجهزة والمستلزمات، كما تضمن العقد إرسال الصين خمس مئة من الأخصائيين والفنيين المختصين في الإختبارات إلى المملكة.

فضلاً عن ذلك، تتضمن الإتفاقية إنشاء ستة مختبرات إقليمية كبيرة في مختلف المناطق السعودية، من بين هذه المراكز مختبر متنقل قادر على إجراء عشرة آلاف فحص يومياً. إلى جانب ذلك، يضمن العقد تدريب الكادر السعودي في مجال الصحة ونقل الخبرة إلى المملكة، وإجراء الفحوصات اليومية والفحوصات الميدانية الشاملة وتدقيقها وضمان جودتها لمدة ثمانية أشهر، بالإضافة إلى تحليل الخريطة الجينية لعدد من العينات داخل المملكة، وتحليل خريطة المناعة في المجتمع لعدد مليون عينة، والتي سيكون لها الأثر البالغ في دعم الحكومة في إدارة خطط مكافحة الجائحة.

المؤكد أن الاتحاد الأوروبي، المنافس الأول للصين بعد الولايات المتحدة، يعاني وضعاً صعباً لم يعرفه منذ نشأته، وأن جزء كبيراً من آسيا والشرق الأوسط الكبير وأفريقيا، جميعها بات على مرمى حجر من “المارد الأصفر”، الذي عرف كيف يوظف حكمة الصينيين القدامى في التعامل بالعقل والتعقل مع أخطر أزمة يمر منها العالم المعاصر. وبدل أن تنزلق هذه الدولة إلى مستنقع الرأسمالية الغربية في طمعها وجشعها وتوظيف عملة المقايضة التي استعملها الرئيس ترامب أبشع وأغبى استعمال، قدمت، وعلى طبق من ذهب، لدول صاعدة، أغلبها لم تربطها بها يوما أية تحالفات، دعماً لوجيستياً وفنياً وتدريبات، وتجربة مبهرة، ستساعد هذه الدول ليس فقط في اجتياز المرحلة العصيبة وإنما في تطوير منظوماتها الصحية في المستقبل القريب وعلى المدى المتوسط إن هي عرفت كيف تتعامل مع هذه الفرصة، الأمر الذي من المحتمل جداً أن يكسب بيكين أصدقاء جدد، ويساهم في تسريع مد “طريق الحرير” الإقتصادي، تمهيداً لتحول عالمي بقيام مركز جديد للعالم في الشرق الذي كان منذ بدأ التاريخ موطناً لأولى الحضارات، على أنقاد العالم الغربي.

إن قطاع الدواء، الذي ظل مسيطراً عليه من طرف أوروبا الغربية والولايات المتحدة، يمثل الإقتصاد الأهم بعد البترول، ويوظف عشرات الآلاف في أميركا حيث تتواجد ست شركات من ضمن عشرة شركات كبرى مستحوذة على صناعة الأدوية في العالم. وفي ظرفية مصيرية كالتي يشهدها العالم اليوم، فإن أي تقارب صيني قاعدته الإحترام المتبادل تحت شعار “لا غالب ولا مغلوب”. وفي ظل تخلي واشنطن عن دورها القيادي المزعوم وقيادتها لما يسمى “العالم الحر” وعجزها الداخلي قبل عجزها خارجياً عن الوفاء بتعهداتها التاريخية المضمنة في اتفاقيات التعاون لحلفائها وأصدقائها الذين جنت منهم ترليونات الدولارات طيلة عقود، فإن هذا التقارب لن يكون إلا بداية لسحب الهيمنة الأورو – أميركية من على باقي العالم، كما أنه سيكون لا محالة بداية عهد جديد لمرحلة ستكون حبلى بالمؤامرات الغربية والخطط الشيطانية، الصهيونية – البريطانية – الأميركية، أو ثالوث الشر الذي يهدد العالم.

*صحفي ومحلل سياسي عربي – المغرب

مصدر الصور: العربي الجديد – مصر العربية

موضوع ذا صلة: رفع مسؤولية الصين عن نشر وباء “كورونا”