د. عبدالله الأشعل*
هناك عدد من المظاهر التي رصدناها وتشير إلى تراجع إنتماء المواطن العربي للأمة العربية والدولة القطرية، والطريف أن زعماء القومية العربية الذين أكدوا على وجود الأمة العربية كانوا أحد أسباب ضعف الإنتماء إلى الدولة القطرية نفسه ذلك أن القراءة الفاسدة لمعنى الأمتين العربية والإسلامية ساهمت بشكل مباشر في إضعاف هذه الدولة والإنتماء إليها رغم أن نداءات القومية العربية إنطلقت من الدول القطرية كبيرها وصغيرها.
فالثابت أن هؤلاء الزعماء لم يكتشفوا الأمة ولم يبتكروها، وإنما رفعوا الشعارات دون أن يتبعوها ويحققوها من منظور علمي وواقعي، ومن الصدف الغريبة أن النظم الدكتاتورية هي التي احتمت بالأمة العربية. كما أن التنظيمات الإرهابية “الإسلامية” احتمت بالأمة الإسلامية حيث دفعت الدول العربية ثمناً باهظاً لحروب القوميين والإسلاميين. ولكن على وجه العموم، كان الفهم الخاطئ للأمة العربية يعني عدم الوقوف أمام الدول القطرية، وكذلك الحال وبشكل أوسع في حالة الفهم الخاطئ للأمة الإسلامية. فالإستبداد العربي، المتشح بالعروبة والإسلام، هو السبب الرئيس في تراجع انتماء المواطن العربي إلى أمته وإلى دولته، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن قسوة الحاكم العربي واستنفاد خيرات بلاده ورهن إرادتها مقابل الإحتفاظ بمنصبه والتغطية على فساده جعلت المواطنين غرباء في بلادهم، وتمنوا أن يغادروها إلى أي مكان آخر وخاصة إلى الدول الديمقراطية التي ينعم المواطنون فيها بالخير السياسي والإقتصادي والحضاري بينما يعاني المواطن العربي في بلده من القحط السياسي والإضطهاد، والتمييز لصالح السلطة وأنصارها، والنهب المنظم لثروات بلاده وأصبح غريباً ومطارداً مقابل أن ينعم منتفعوا السلطة بخيرات البلاد لأنهم يجيدون ممارسة حرية واحدة وهي “حرية التسبيح بحمد الحاكم”.
أما على مستوى الأمة، فقد ارتبطت النكبات العربية بشعارات المستبد العربي القومية، وبرر أنصار هؤلاء الزعماء ضرب الغرب لهم بأنهم أرادوا الخير لبلادهم، لكن المؤامرة كانت أكبر من طاقتهم، فهؤلاء إما مغيبون وإما منتفعون. فقد خطط الغرب بإستخدام “المستبد” العربي وسقطاته لوصم العروبة بالهزيمة والتخلف والسخرية، فأصبحت العروبة وصمة تلحق بمن تطلق عليه تماماً كما حدث للإسلام بسبب المسلمين. والطريف في الأمر أن الغرب إستخدم عقله، بينما غيَّب الحكام العرب عقول مواطنيهم لأن الغرب الديمقراطي ينتج حكومات تسعى إلى تحقيق مصالح أبنائها خاصة إذا كانت الثروة في يد العرب الذين تأكد الغرب أنهم عديموا الأهلية، فأصبح مال السفيه أجدر بأن يتمتع به العاقل.
أيضاً صادر الحكام العرب عقول المواطنين حرصاً على سلطتهم، وقد أشار الشاعر السوري نزار قباني في قصيدته الرائعة “يوميات سياف عربي” إلى أن الحاكم العربي عندما فكر أن يعتزل السلطة نهاه ضميره ومشكلته الكبرى هي من يتولى بعده جلد العبيد الذين استعبدهم الحكام لقرون طويلة والعبيد لا يعيشون دون أن يجلدهم السيد. وأظن أن وسائل الإتصال الحديثة كفيلة، ولو بعد مائة عام، أن تنهي هذه المعادلة وأن تفتح عيون الشعوب على الحقائق البائسة.
أما مظاهر تراجع الإنتماء عند المواطن للأمة، فهي ظاهرة في الكثير من التجليات منها أن الشعوب لا تملك حتى أن تشجع فريقاً رياضياً لدولة أخرى يعاديها حاكمهم رغم أنهم يشاهدون المباريات، ومن المظاهر المخيفة أن ترى عربياً يطربه هزيمة الجيش السوري بل وبعض السوريين؛ لا بل الأنكى أن بعض المصريين، نكاية في السلطة، فرحوا بخروج المنتخب القومي من تصفيات كأس الأمم الأفريقية لأن انتصار الفريق سيستغل من جانب السلطة التي يتخذ منها الكثيرون موقفاً سلبياً للحديث عن معزوفة الإنجازات وهذا بلا شك موقف محزن. قسْ على ذلك أيضاً، في مصر، مسألة محاربة الإرهاب، وموقف النظام من بعض الدول المعادية له، كقطر وتركيا. وقد سبق وقلنا بأن الشعوب العربية يجب ألا تتأثر بصراعات النظم، كما أن الشعب الواحد يجب أن يحرص على وطنه بطريقة إيجابية وألا يكون موقف الحاكم منه سبباً في المشاعر السلبية اتجاه هذا الوطن.
في هذه المناسبة، يعتقد البعض أن العصر الملكي ارتبط بالرخاء رغم الإحتلال البريطاني، وأن الحكم الجمهوري ارتبط بالحكم العسكري الذي عانت مصر تحته منذ بدايته كما عانى المصريون. الحقيقة إن الحكم الملكي ليس أفضل من الجمهوري، ولكن ارتباط الحكم العسكري بالإستبداد هو الذي جعله يقدس الجمهورية والنظام الجمهوري رغم أنه هو نفسه، وتوالي السلطة بين أركانه يتناقض مع النظام الجمهوري.
يقودنا ذلك إلى قضية أوسع وهي الإعتقاد بأن الدولة الوطنية ليست براقة كما صورها “المستبد” العربي، حيث إنتهى الأمر إلى التبعية وتمزق الدولة والطبقية والتخلف وتردي مكانة العرب مما جعل الكثيرين يقارنون بين الإحتلال الأجنبي وبين الحاكم الوطني، وقد تبنى الإستاذ المزروعي، منذ وقت طويل، نظرية مفادها أن “إنقضاض المستبد العربي على السلطة بترتيب من المستعمر” ما دفع إلى مطالبته بإعادة المستعمر إلى العالم الثالث ما دام الحكم قد فشل في إدارة البلاد. بالنسبة لي، أفضل العكس وهو تدريب المواطن العربي على ممارسة الحرية والخروج من العبودية التاريخية، فمن العار أن الحاكم العربي الذي برر حكمه بجلب الحرية للوطن والمواطن أن يكون أقسى على المواطن من المحتل الإجنبي.
أخيراً، أريد أن أؤكد في نهاية هذا العرض على أن الأمة العربية والدول القطرية حقيقة، وأن العلاقة بينهما علاقة تكامل لا تصارع، وأن هذه الحقائق ليست مرتبطة بالتعبئة النفسية لـ “المستبد” العربي بوهم محاربة إسرائيل، فقد انكشف كل شيء وازدهرت إسرائيل بسبب هذه “المسرحية”. من هنا، لا بد من الحكم الوطني الرشيد الذي يستقل بالبلاد عن الخارج، والذي يتيح لشعبه الحرية الكاملة المسؤولة مما يشاعم في تنمية وطنه والمحافظة على ثرواته، وأن يحترم الدستور والقانون الذي أقسم عليه عدة مرات. بهذه الطريقة، نضمن انتماء المواطن إلى وطنه وليس إلى نظامها، ويكون انتمائه الوحيد إلى أمته العربية.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصرية الأسبق.
نشر بالتزامن مع جريدة الإستقلال.
مصدر الصور: شبكة رصد الإخبارية – دي دبليو.