كيفورك ماكس خاجيريان*
أجبرت سلسلة الأحداث الدراماتيكية في الشرق الأوسط، المخطط لها مسبقاً، الدول الرائدة عالمياً على تغيير سياستها في المنطقة. إن سرعة تواتر الأحداث وعدم المعرفة الكاملة بمخططات تلك الدول بالإضافة إلى الخطط الدفاعية السياسية للدول المُطاح بها، أدت إلى حدوث اضطراب في السياسة الروسية في المنطقة، فلم يكن أحد على علم بحجم تلك “الفوضى الخلاقة” التي ستمتد لما هو أبعد من رسم حدود سياسية ونظم اقتصادية جديدة. لذلك، حاولت روسيا قدر الإمكان الابتعاد عن التدخل في الشؤون الداخلية في لدول الشرق الأوسط، واكتفت بدعمها السياسي للقيادات العربية التاريخية مع عدم اعتراضها على الحركات الإسلامية المعتدلة التي تخفف حدة الصراع القائم.
بالإضافة إلى أن العلاقات التجارية الروسية – الشرق أوسطية لم تكن قد إرتقت إلى المستوى الذي يستحق من أجله تدخل موسكو العسكري الروسي للحفاظ على مصالحها. ففي العام 2011، تشير الإحصائيات أن 69% من إجمالي اقتصاد موسكو ناتج عن أرباح سوقي النفط والغاز لكنها، بشكل أو بآخر، ستبقى مرتبطة بتلك المنطقة وإستقرارها بإعتبار أن الثقافة الإسلامية مكون متنامي الوتيرة في ديموغرافيتها.
السياسة الروسية و”الربيع العربي”
حين تمت الإطاحة بنظامين عربيين المصري والتونسي، يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2011، أُصيب المجتمع العربي بصدمة غير متوقعة إذ أن أحداً لم يتخيل أن الفساد والبطالة والسلطوية والعرقية وتلك المشاكل قادرة على إسقاط أنظمة حكم معمرة وفي قمة استقرارها. تلك التجربة، كانت الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، مع إستثناء التجربة العراقية لأنها كانت نتاج حروب دامية طويلة الأمد في عصر الرئيس الراحل، صدام حسين. فلقد كان الموقف العربي منقسم وقتها بين موقف خليجي داعم للتغيير وموقف باقي الدول العربية التي تعاملت مع المتغيرات بسياسة شبيهة إلى حد كبير مع السياسة الروسية في المنطقة نفسها.
“ثورة الياسمين”
في العام 2011، لم تكن ردود الأفعال الروسية سلبية تجاه الحكومة البرلمانية التونسية المنتخبة، التي أدت إلى فوز “حركة النضهة” بها، فلقد حالت موسكو تقوية علاقاتها السياسية مع الحكومات العربية الجديدة لمنع وصول الإسلاميين المتطرفين إلى الحكم خوفاً على تهديد الإستقرار الداخلي الروسي.
إلا إن القلق من حجم المستنقع التي تتجه إليه المنطقة كان سببه عدم التوصل مع تونس إلى إتفاق مرضي بخصوص الرئيس السوري، بشار الأسد، وإكتفاء الجانب التونسي بمشروع يقتضي بتقديم الحماية السياسية له وللقادة السوريين مقابل إنهاء الصراع المسلح، الذي بدوره كان سبب تغير السياسة الروسية.
ثورة 25 يناير
لم تُبدِ الحكومة الروسية تعاطفاً مع أي من الأطراف السياسية المتصارعة، بل أكدت على ضرورة إنهاء الأحداث بأكثر الطرق السلمية ما أمكن، وذلك بسبب عدم الدراية الروسية الكاملة بعد بما يحدث، خصوصاً وأن مصر دولة لها وزنها الإقليمي، إقتصادياً وعسكرياً، وأي خلل في سياستها قد يغير واقع الشرق الأوسط.
من هنا، لم يستطع الروس التعاطف مع ثورات “الربيع العربي”، لأسباب سنذكرها لاحقاً، كما أنهم لم يستطيعوا تأييد المشروع الغربي بسبب عم درايتهم فيه. لذلك، اكتفت موسكو بترك العلاقات السياسية مفتوحة مع مصر الحكومة، بحيث حقق هذا المنظور نجاحاً كبيراً تمثل في تصريح الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي، معارضته للتدخل العسكري الأجنبي في سوريا.
لؤلؤة الخليج
يشكل الشيعة ما يفوق على 60% من مجموع السكان، في البحرين. ففي الوقت الذي كانت فيه موجات الإحتجاجات المطالبة بتغيير نظام الحكم المقصي للمكون الشيعي، كانت ردود الفعل الروسية على دراية تتمة بأن المنامة هي تابع، بشكل غير مباشر، للإدارة السعودية، لا سيما على صعيد سياستها الخارجية، وأن الساحل الشرقي للرياض يستقر فيه نسبة لا يستهان بها من الشيعة، خصوصاً في منطقة الإحساء.
لذلك، لم تكن روسيا تريد خسارة العلاقات السياسية مع الخليج بسبب مواقف مؤيدة للثورة فحسب، بل تطلعت موسكو إلى أن النفط الخليجي سيكون من حصتها من تلك التقلبات لا سيما بعد أن تحرق الولايات المتحدة الورقة الخليجية، التي كانت دوماً ورقة رابحة على مر عقود من الزمن.
بين صنعاء وعدن
في اليمن، إلتزمت روسيا الحياد ورفضت التصعيد، كما أنها لم تعترض على تدخل قوات عسكرية عربية، أو “التحالف العربي”، لإنهاء الصراع فيه ما دام الهدف منه إقامة حكومة وسطية عادلة بين الشمال والجنوب.
أما عن الحياد، فتعود أسبابه إلى عدم الرغبة في خسارة العلاقات الإقتصادية بعيدة المدى مع الخليج، وخوفها من تحول اليمن إلى مصدر الإرهاب العالمي في حال لم يتم حسم النزاع خصوصاً مع الإعلان الروسي، غير الصريح، بإعتبار جماعة الحوثيين إرهابية، مع الحفظ على مسافة واحدة من الجميع خوفاً من توتر العلاقات مع إيران.
التدخل في سوريا
كانت الأزمة السورية نقطة تحول السياسات الروسية. حينها، أدركت موسكو أن موجة “الربيع العربي” تجاوزت جميع التوقعات والخطوط؛ هنا، باتت روسيا في أزمة حقيقية، فالحياد يعني نهاية حكم الرئيس الأسد، إضافة إلى أمكانية إمتداد تلك الموجة لنسمع لا حقاً “الربيع الشيشاني” أو “الربيع القوقازي” أو ربيع دول الإتحاد السوفييتي السابق المسلمة خصوصاً وأن حاضنة الإرهاب كانت قد زُرعت بالفعل في جميع الدول العربية. ففي مصر الإخوان المسلمين، وفي ليبيا تنظيم الدولة الإسلامية – “داعش”، وتونس السلفيين، مع عدم نسيان تنظيم “القاعدة” في كل من العراق واليمن.
بالتالي، إستوعبت موسكو فكرة أن الحرب كانت بتخطيط إستخباراتي عالمي تحت قيادة وكالة الاستخبارات المركزية – CIA، وهي أكبر مما كان متوقعاً. لذلك، تم وضع خطة سرية ضمنية لوقف تمدد المشروع الغربي خصوصاً وأنها أصبحت متأكدة بأنها هي الدولة المستهدفة التالية بعد سوريا لا سيما وأن معظم “الجهاديين” كانوا من سكان ومواطني الجمهوريات السوفيتية السابقة.
أسباب وآثار التدخل
في بداية الأزمة السورية، كان الإعلام العالمي يصور الحرب على أنها ثورة ضد إحدى أعنف الدكتاتوريات في العالم، وأن المجموعات المقاتلة هي وحدات ديموقراطية مدنية. ومع تشابه التركيبة المجتمعية بين الطرفين لجهة البطالة والفقر وعدم تواجد الديمقراطية بوجهها الغربي، كان خيار الحياد كارثياً، في مقابل أن التدخل سيظهر على أنه قمع لحريات الشعوب والنتيجة عشرات من المنظمات الإرهابية ستعادي موسكو.
من هنا، إتخذ الخيار الروسي بأن يكون حياداً مع منع الغرب من التدخل العسكري، اي ما يعرف بإطالة عمر الأزمة السورية. كان الهدف من ذلك كسر التفوق الإعلامي الغربي وإظهار حقيقة الحرب للمجتمع الدولي، بالإضافة إلى إظهار حقيقة واشنطن بتسليحها المجموعات المسلحة لأخذها ذريعة للتدخل تحت غطاء إنهاء الحرب الطويلة، فكانت النتيجة أن فئات الشعب السوري، بمن فيهم المعارضة، قد إختارت بقاء الرئيس الأسد.
في المقابل وعلى الرغم من المكاسب التي حققتها من عقود النفط والغاز والتواجد على المتوسط، خسرت روسيا الكثير إعلامياً حيث نجحت وسائل الإعلام الغربية، العربية منها، بأنها تتهم الرئيس في مواجهة شعبه، لا سيما السنَّة منهم، ما تسبب في تشكيل رأي سلبي لدى المهاجرين إلى الداخل الروسي من دول الاتحاد السوفيتي المسلمة، حيث تصورا بأن موسكو تقتل السنَّة فأوجبوا الجهاد ضدها، وهذا ما حصل في تفجيرات بطرسبورغ، ما يعني إرتفاع نسبة العداء لها في العالم ككل وفي العالم العربي تحديداً.
ختاماً، إن تصريحات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووزير خارجيته، سيرغي لافروف، كانت دقيقة حول التدخل الروسي في سوريا منذ اليوم الأول، حيث قالا بأنهما يساعدان الشعب السوري ويكافحان الإرهاب العالمي بسبب عدم قدرة الجيش السوري على حسم المعركة. لكن السؤال المهم يبقى: لماذا لا يظهر الإعلام الروسي، الناطق بالعربية، ماهية السياسة الحقيقية للمسؤولين الروس ويتبنى سياسة الإعلام الرسمي السوري بمساعدة حليفها، أي الرئيس الأسد؟
*متخصص في دراسات الشرق الأوسط – مترجم في وكالة “رياليست” الروسية
مصدر الصور: القدس العربي – الميادين – أرشيف سيتا.
موضوع ذا صلة: بعد “الربيع العربي”.. هل بدأت “ثورة الجياع”؟!