حوار: سمر رضوان

كثيراً ما تلفت الأنظار السياسة الخارجية التي ينتهجها الرئيس الفرنسي الشاب ايمانويل ماكرون، من حين إستقباله للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قصر فرساي، الذي يمثل الكثير من عظمة فرنسا كونه يطوي في حناياه تواريخ مهمة لانعطافات عالمية، مروراً بالعلاقات الأوروبية والامريكية بما فيها تلك التي ضمن الحلف الاطلسي، وصولاً إلى جولاته الأفريقية اللافتة والتي وصفت بالاستراتيجية لاسيما في توقيتها.

عن هذه السياسات، يقول الأستاذ الدكتور عيسى الأيوبي، المتخصص في العلاقات الدولية والدبلوماسية والأستاذ المحاضر في جامعات باريس، لمركز “سيتا“، عن العلاقة الفرنسية الأمريكية، في عهد الرئيس ماكرون أنه و”بعد عام على تولي الرئيس دونالد ترامب لمهامه كرئيس للولايات المتحدة، تأكد للقيادة الفرنسية أن العلاقة مع شريكها عبر الأطلسي لن تبقى كما هي، فـ “سيد” البيت الأبيض كسر كل المحرمات، بل أن البعض في فرنسا يقول إنه أسقط “ورقة التوت” عن هذه العلاقة التي كانت تخفي عورتها مجموعة من العوامل والمصالح التي ظهرت في مواقفه، بمجموعها، وسياساته بحيث أنها أبرزت مدى الهوّة بين مصالح البلدين في مختلف المجالات. إن الفروقات الناتجة عن سياسة ترامب الدولية وطريقة تعامله مع حلفاء الماضي لم يعد بالإمكان أن تجعل من الولايات المتحدة حليفاً وشريكاً لفرنسا.”

وعن الرئيس الفرنسي، يشير الدكتور الأيوبي إلى أنّ “الرئيس الشاب، ايمانويل ماكرون، هو خريج المدرسة “الروتشلدية”، ويعرف جيداً بأن زمنا جديداً وخارطة جديدة للتحالفات والمصالح ترتسم وعليه أن يتعامل معها ببراغماتية أول تمظهراتها هي التوجه شرقاً، أي نحو روسيا وآسيا.”

ويرى الباحث الأيوبي بأن هذا التوجه “يتوافق مع موقف ورؤية أوروبية موحدة، فلأول مرة تبدو أوروبا موحدة الاتجاه منذ توحيدها، بعد خروج بريطانيا منها، ولأول مرة أيضاً تتوحد الرؤية الفرنسية الداخلية حول الموقف من العلاقة مع الولايات المتحدة. فالموقف الذي اتخذه الجنرال ديغول منذ 50 عاماً بطرده القواعد الأطلسية -الأميركية من بلاده وإعادة الانفتاح على الدول الشيوعية، كالصين والاتحاد السوفياتي السابق، لم يلقَ إجماعاً ولا توافقاً فرنسياً -فرنسياً حينها، إذ لم تكن أوروبا كما هي عليه الآن. ولكن في ظل المتغيرات الجيو-بوليتيكية الجديدة، يبدو أن ما كان محرماً حينها، بات ضرورياً اليوم.”

إضافة إلى ما سبق، يرى الدكتور الأيوبي بأن “الرئيس ماكرون لم يكن يريد القطيعة السياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة، لكنه بات مرغماً عليها إذ ليس هناك ما يبرر استمرار العلاقة الشائكة التي تهدد مستقبل بلاده وأوروبا، اقتصادياً وأمنيا، إضافة الى كونها تتناقض جذرياً مع ما يسمى “المبادىء الفرنسية في العلاقات الدولية”، حيث أصبح لديه خيارات أخرى لم تكن متوفرة سابقاً. لكن السؤال المطروح هو: هل بالإمكان استعادة الود مع واشنطن؟ في باريس، يهمسون أن الخراب الذي أنتجته سياسة الرئيس ترامب، خلال عام واحد، ستجعل خلفه، و”الاستبليشمنت” في الولايات المتحدة، يبذل جهوداً كبيرة جداً لإعادة ترميمها بغية اللحاق بركب التطورات الدولية والأوروبية. في ختام هذا الشق، أقول إنه ليس هناك أي مصلحة للرئيس ماكرون بالعودة إلى سياسة التبعية التي كان ينتهجها أسلافه، تحديداً منذ عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي.”

في موقف بارز لوزير المالية الفرنسي الفرنسي برونو لومير الذي قال فيه “نعتقد أن تطوير العلاقات التجارية مع روسيا والصين قد يخفف من وطأة (عدم اليقين المتزايد) في العلاقات مع الولايات المتحدة”، وانتقد الوزير لومير العقوبات التي تفرضها واشنطن، بقوانين داخلية وبحسب مصالحها الخاصة، إذ قال بأنها “عقوبات تتجاوز الحدود الإقليمية”، مشيراً بأن هذه القوانين تجعل من الولايات المتحدة “بحكم الأمر الواقع، شرطة التجارة العالمية.”

عن هذه التصريحات، يقول الدكتور الأيوبي “يشكل موقف الوزير لومير تأكيداً جديداً على توجهات السياسة الفرنسية الجديدة بالابتعادعن الولايات المتحدة، كما يوضح خارطة الطريق لمستقبل العلاقات الدولية لفرنسا، بل يمكن القول للاتحاد الأوروبي عموماً. وفي هذا الإطار يرى الفرنسيون، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم حالياً، بأن لا مصلحة إطلاقاً لهم في استمرار “الابتزاز” الأميركي، فهم يحمّلون سياسات واشنطن، عموماً، مسؤولية مسلسل الأزمات الاقتصادية والتي قد فاقمت إدارة ترامب مها حيث أنها لا تبدي أية مرونة بالتعاون من أجل حلها، فهي لم تُبقِ للاتحاد الأوروبي أي منفذ سوى التعاون مع روسيا والصين ودول البريكس لتأمين استقرار اقتصادي. هذا الأمر يرتب تحالفاً وشراكة سياسية وأمنية أيضاً، وهو ما سيظهر واضحاً في مجموعة من الملفات الساخنة، والتبدلات في التحالفات الدولية في النصف الأول من العام 2018.”

في إشارة إلى العقوبات الأمريكية، يرى الدكتور الأيوبي بأنه “يبدو واضحاً ان العمل جارٍ على تحويل “قوانين العقوبات الأميركية”، ذات المفعول العالمي، إلى قوانين داخلية أميركية بحيث لا يصبح لها أي تأثير أو مفاعيل دولية. هذا ما تسعى له كل من روسيا والصين والاتحاد الأوروبي عبر التخفيف من الخيوط التي تربط العملات الدولية بالدولار الأميركي على اعتبار أن قوة الدولار دولياً مرتبطة بقوة الولايات المتحدة. ويذهب البعض للقول إن قوة واشنطن تأثرت بشكل كبير بعد بروز عمالقة جدد في الاقتصاد الدولي، إضافة إلى الهزائم المتكررة للسياسة الأميركية في العالم، وشبه العزلة التي تعانيها حالياً.”

وعن زيارة الرئيس الفرنسي إلى الصين، يشير الباحث الأيوبي إلى أنه “لا مفر لفرنسا، وأوروبا، من التعاون مع الصين اقتصادياً إذا ما أرادت الخروج من أزماتها، بل أكثر من ذلك إذا ما أرادت أن تلعب دوراً في الاستقرار الاقتصادي والأمني في العالم، إن العلاقة مع الصين، كما العلاقة مع روسيا، هي ممر إلزامي ونتاج طبيعي لعوامل عدة تجمعت لتشكل خارطة جيو-بوليتيك العالم الحديث. على الصعيد الاقتصادي، لا خيار لأوروبا، وفرنسا ضمناً، سوى التوجه شرقاً بعد التجربة الفاشلة مع “الجشع” الأميركي الذي اتضح، والذي لم يعد ممكناً اخفاؤه عن الشعوب الأوروبية، كما عن باقي شعوب العالم.”

وعن التقارب الصيني – الاوروبي، يرى الدكتور الأيوبي بأنه “جزء أساسي في التوجهات الأوروبية عامة، والفرنسية، خاصة، لا سيما وإن عوامل عدة حالت دون تحقيقه في السابق، إذ يبدو أن هذه العوامل قد زالت ولم يعد لها أي مبرر، بل على العكس باتت ضرورة مطلقة.”

أما فيما خص سياسة الرئيس ماكرون في أوروبا ومدى تقاربها مع سياسة الرئيس الأسبق ساركوزي، يقول الدكتور الأيوبي “لا مجال لمقارنة عهد ساركوزي بعهد ماكرون، فالقطيعة تامة بين توجهي الرجلين. إن ساركوزي كان مرتبطاً بشكل عميق مع التوجهات الأميركية، ولم يكن مهتماً بـ “البناء الأوروبي”، لا اجتماعياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً، بل كان “أطلسياً” من الطراز الأول. أما الرئيس ماكرون وفريقه، فيعرف جيداً أن مصالحه ومصالح بلاده هي في تدعيم الاتحاد الأوروبي خاصة أن خروج بريطانيا منه يجعله اتحاداً أكثر تناغماً، فلم يشكل “الأنجلوساكسون” أي عامل وحدة أو تناغم مع باقي الشعوب الأوروبية، فهم لم يقدموا للاتحاد أي من عناصر القوة، سواء السياسية أم الاقتصادية.”

وفي هذا الإطار، يكمل الباحث الأيوبي بالقول “إذا كان الرئيس ساركوزي قد سعى من خلال علاقته بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وإيهامه الأوروبيين بأنه يسعى لتدعيم الاتحاد، فإنه بالحقيقة قد سعى إلى ضمان وتكريس تبعية الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة في كافة المجالات، لا سيما العسكرية عبر حلف الناتو. اليوم، الأمر مختلف تماماً إذ لم يعد حلف شمال الأطلسي شعاراً مقنعا للأوروبيين، شعوباً وحكومات، ولم يعد هناك أية مصلحة بالتبعية لواشنطن، بل أصبحت المصالح الأوروبية هي في البحث في تعميق عن وحدة أوروبا، وبناء أحلاف جديدة مع عالم ناهض، لا مع إمبرطورية آفلة وحليف مبتز.

وعن مدى التقارب في السياسة الأوروبية ما بين فرنسا وألمانيا، يشير الدكتور الأيوبي بأن “قناعات الأوروبيين، فرنسا وألمانيا تحديداً، قد ازدادت لجهة ضرورات تعزيز قوة الاتحاد الأوروبي في مواجهة توجهات السياسة الأميركية الابتزازية. أما ظهور الحركات الانفصالية لبعض الشعوب الأوروبية ما هي إلا نتاج محاولات واشنطن المستمرة لتفتيت الاتحاد وإبقائه تحت مظلتها أن الرئيس ماكرون، كما المستشارة ميركل، متفقان على أمر رئيسي هو تدعيم قوائم الاتحاد بدون مخاوف أو توجسات بين البلدين، فألمانيا، القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا، تعرف أنها لن تبقى كذلك في حال استمر الوهن الأوروبي العام، والرئيس ماكرون يعرف جيداً أن العالم يتغير بسرعة وأوروبا هي ضمانة، وليست عبئاً على فرنسا، بل عنصراً هاماً لاستعادة قوتها وتعزيز مواقعها التفاوضية.”

مصدر الصور: Réseau Voltaire – The Times – thelocal.de – فرانس 24