السفير د. عبدالله الأشعل
يتحدث البعض في مصر عن المؤامرة الأمريكية ضدها، ويستدعي هذه المؤامرة كلما أراد أن يبرر موقفاً للسلطة وهذا نظر قاصر لأن الولايات المتحدة تمكنت من المنطقة العربية بأسرها منذ خمسينات القرن الماضي، وحلت محل كل من بريطانيا وفرنسا تحت عنوان “سياسة الإحلال”، ورتبت أوضاع السلطة بعد ما يسمى برحيل الإستعمار الغربي وغيره من الشعارات التي كانت تستخدم للتدليس على التاريخ وعلى الشعوب العربية.
فقد رتبت واشنطن أوضاع السلطة في كل الدول العربية وخاصة الرئيسية، كمصر والعراق أساساً، وسنرى في هذا المقال كيف أنها دمرت هذه الدول، وأنها هي من رتب أوضاع السلطة فيها، وأنها هي التي تعمدت أن تستمر في السيطرة والهيمنة حتى سقط الإتحاد السوفيتي، إذ كانت الحرب الباردة توفر للقيادات المحلية، في مصر والعراق وغيرها، هامشاً بسيطاً من الاستقلال.
كامب دايفيد.. نصر أم هزيمة؟
في مصر، رتبت الولايات مع بريطانيا أوضاع السلطة، فيما وقعت مشكلات بين واشنطن والرئيس الراحل جمال عبد الناصر بسبب رغبة الأخير في توسيع هامش الإستقلال ولكن الأهم هو أن إسرائيل فرضت نفسها على سجل العلاقات المصرية – الأمريكية منذ مذبحة غزة للجنود المصريين، فبراير/شباط العام 1955، والتى دبرها رئيس الوزراء الأسبق، آرييل شارون، ووزير الدفاع الأسبق، موشيه ديان.
يقول شارون في مذكراته، التي حللناها فى كتابنا الصادر العام 2003، أن إسرائيل كانت قلقة بسبب التقارب الناصري – الأمريكي، وأنها هي من تسبب في دفع الرئيس عبد الناصر إلى أحضان موسكو بعد هذه المذبحة وهي أيضاً التي رتبت له الهزيمة الماحقة على أراضيه، في العام 1967، بعد أن يئست واشنطن من استقطابه حيث مات الرئيس عبد الناصر سياسياً قبل أن يموت جسدياً، في العام 1970. لقد كانت تلك الهزيمة هي مبرر لدخول الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، رسمياً فى الحضن الأمريكى والتقارب الإسرائيلي بصفقة “كامب دايفيد”، العام 1979، وهي التي كانت مقدمة لكل ما يحدث في المنطقة العربية بعد ذلك، بما فى ذلك الإحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، حيث بلغ نفاق واشنطن ومؤامرتها على مصر حداً مذهلاً لدرجة أنها استدرجت الرئيس السادات إلى “كامب دايفيد” معتبرة ذلك أكبر نصر للرئيس جيمي كارتر، وهو ما يعد أكبر إنجاز حققته الولايات المتحدة تاريخياً لإسرائيل.
في نفس الوقت، حرضت واشنطن الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، لقيادة العرب ضد مصر، إذ يبدو أن واشنطن قد وعدته، كما وعدت السعودية، بوراثة مصر، التي ضربت في العام 1967، وتسببت حرب أكتوبر/تشرين الأول، في العام 1973، بنتائجها المعروفة وأولها صفقة “كامب دايفيد”، التي يعتبرها البعض فى مصر انتصاراً دبلوماسياً أعقب الإنتصار العسكري واستعادة سيناء، فيما يعتبرها الاخرون، وأنا شخصياً منهم، محطة أساسية من محطات المشروع الصهيوني.
منذ ذلك التاريخ لا تزال واشنطن تزيد من هيمنتها على مصر، وحياكة المؤامرات ضدها، رغم أنها هي من رتبت الأوضاع فيها، منذ العام 1979 حتى الآن. لكن واشنطن أخرجت مصر من دائرة القوى الإقليمية، ومزقت العالم العربي، وخلقت تنظيم “داعش” الإرهابي لتمزيق العالم الإسلامي، والإساءة إلى الإسلام.
“التكالب” العراقي – السعودي على مصر
في حديث خاص مع أحد أصدقائي السعوديين حول مأساة اليمن العام 2015، قال بزهو أن بلاده صارت “دولة عظمى”، وأن مصر قد إنتهت إلى الأبد، لكنني خالفته الراي موضحاً أن مصر مؤهلة جغرافياً وثقافياً وجينياً لكي تقود المنطقة ولكن “وهم الزعامة”، الذي ألقت به واشنطن في المنطقة، كان أداتها ليدمر العرب بعضهم بعضاً. فقد أوحت واشنطن إلى كل من العراق والسعودية، كلاً على حدى، بأن كلا منهما مرشح لخلافة مصر، بعد العام 1967. بالفعل ظهر الرئيس صدام حسين وحزب البعث العراقي بعد هذا التاريخ، حيث لعبت أوهام الزعامة به وبالرئيس عبد الناصر والسعودية فأوردتهم جميعاً مورد التهلكة.
أما تفصيل التكالب على مقعد مصر، بين العراق والسعودية، فقد أدى إلى تمويل الرياض لحملة صدام حسين على “إيران الثورة”، وكذلك ما تيسر من دول الخليج الأخرى على أساس أن الرئيس صدام كان يحاربها نيابة عن العرب. وقد رأيت بنفسى كيف أن العرب جميعاً، إلا قليلاً منهم، قد اصطفوا خلفه في غزوه لإيران، إذ لم يشذ عن هذا الموقف إلا الرؤساء السابقين في السودان، عمر البشير، وتونس، زين العابدين بن علي، وليبيا، معمر القذافي، والجزائر، عبد العزيز بوتفليقه، المغرب، الملك الحسن الثاني.
بعدها، وقف الخليج ضد الرئيس صدام حسين بعد أن استدرجته واشنطن إلى غزو الكويت، إذ تحالف معه كل من ملك الأردن الراحل، حسين بن طلال، ورئيس السلطة الفلسطينية الراحل، ياسر عرفات، وكانت تلك عملياً نهاية دعم الخليج للقضية الفلسطينية والفلسطينيين. بعدها، تحول الدعم إلى تمويل الخطط الأمريكية ضد العراق، الذي حارب إيران نيابة عنهم، حيث تحول الرئيس صدام حسين، وبتدبير من واشنطن، “المهدد الأول” لأمن الخليج، وكانت تلك نهاية أسطورة الصراع العربي – الإسرائيلي.
السعودية.. قوة عظمى؟!
أوعزت واشنطن إلى السعودية بأنها قد أصبحت قوة عظمى تماماً، تماماً كما إخترع الرئيس القذافي هذا الوصف حين أطلق على ليبيا الجماهرية العربية الاشتراكية العظمى وذلك بعدما قصف الرئيس الأميركي الراحل، دونالد ريغان، بلاده بالصواريخ على أساس أن “الطرف العظيم إذا ما قام بضرب صعلوك يصبح عظيماً مثله”، وهي سخرية من سخريات هذه المنطقة المنكوبة.
من هنا، أوعزت واشنطن إلى الرياض بأن طهران هي التي تتهدد أمنها، خصوصاً، والأمن العربي، الذي تحرسه الرياض بإعتبارها دولة عظمى عموماً، حيث أثارت قضايا الشيعة فيها وفي المنطقة، وأنها قوة تكمن في إنفاق أموالها على الأدوار الأقليمية فإتجهت إلى محاربة إيران في اليمن وسوريا ولبنان، فأنفقت الأموال الطائلة بعد أن تورطت في اليمن، بالتحديد، وأصبح من الصعب عليها الخروج. من خلال ذلك، تمهد واشنطن، بعد استنزاف أموالها والتحكم فيها واستخدامها، إلى الشروع في تقسيمها وفقاً للخطة الخاصة بتقسيم الدول العربية لكي تلحق بسوريا والعراق وغيرهما فيما بعد.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق
مصدر الصور: يورو نيوز – رئاسة مجلس الوزراء العراقية.
موضوع ذا صلة: السياسات الخارجية المصرية بين “الحليف” الأمريكي و”الشريك” الروسي