أقام مركز “سيتا“، بتاريخ 22 يناير/كانون الثاني 2020، حلقة نقاش متخصصة تحت عنوان “الإنسحاب العسكري الأمريكي من المشرق: بين الممكن والمستحيل”، في مركز ASC – عيناب، حضرها كل من السادة السفير د. هشام حمدان، العميد د. دريد زهر الدين، العميد ناجي ملاعب، د. فيصل مصلح، د. أنور الغريب، الأستاذ رياض عيد، الأستاذ ميشيل ملكي، وأدار الحوار مؤسس ومدير المركز د. علوان أمين الدين.

يتضمن الجزء الأول، كلمات الحاضرين، فيما خصص الجزء الثاني للنقاشات والمداخلات.

د. علوان أمين الدين

بداية، أود أن أرحب بكم في هذا اللقاء الذي نتمنى أن يكون مثمراً. من هنا، سأقوم بطرح العديد من الأسئلة حول موضوع الندوة لكي تكون مدخلاً للنقاش. هل من الممكن أن تقوم الولايات المتحدة بسحب قواتها من المشرق؟ هل تعتقد بأن مصالحها الإقتصادية والإستراتيجية ستقنعها بالخروج أم أنها ستبقى في هذه المنطقة للحفاظ على تلك المصالح؟ هل إستغناؤها عن النفط سيسرع عملية الخروج أم أن “إدارة” هذا القطاع الحيوي سيجعلها مصرة على البقاء من أجل منع هذا المخزون عن أعدائها في العالم؟

في محور جديد. بالنسبة إلى نظرية “ملء الفراغ” التي تحدث عنها الرئيس الأمريكي الراحل دوايت آيزنهاور، هل ستترك واشنطن المنطقة ليملأه غيرها، كالجانبين الروسي والإيراني بالتحديد، أم أنها ستبقى ولو أدى ذلك إلى تقسيم دول المنطقة؟

في إحدى الدراسات التي كتبتها مؤخراً، ذكرت أنه من الممكن قيام الولايات المتحدة، في حال إضطرت إلى الخروج، للإعتراف بإقليم كردستان سحب قواتها من العراق إليه، وذلك ضمن مفهومها لمبدأ “حق تقرير المصير” خصوصاً بعد الإستفتاء التي قام به الإقليم من أجل الإنفصال عن العراق. فلقد أصبح الإعتراف الأمريكي يضاهي القواعد والقوانين الدولية. حتى روسيا نفسها، لا تزال تنتظر الإعتراف الأمريكي بضمها لشبه جزيرة القرم كي يصبح هذا الضم شرعياً على الصعيد الدولي الواقعي، ما سيسهل إعتراف بقية دول العالم به. من هنا، يمكن القول بأن القوة الأمريكية هي التي باتت تعطي الشرعية وليس المبادئ والقيم القانونية الدولية.

على المقلب الآخر، نسأل عن التمدد الإيراني. في هذا الشأن، يرى العديد من المحللين بأن قاسم سليماني هو “شي غيفارا” المشرق بينما يعتبره آخرون بأنه “وزير المستعمرات الإيرانية”. ما دور هذا الرجل؟ هل هو فعلاً غيفارا المشرق أم أنه وزير المستعمرات التي تأسست، بحسب قول البعض، في كل من لبنان وسوريا واليمن وغزة وغيرها؟

هذه الأسئلة، كلها وغيرها، مطروحة للنقاش الصريح والواضح.

السفير د .هشام حمدان

أود أن أشكركم على المبادرة التي أعتبرها رائدة آملين بأن تتكرر. سأبدأ مداخلتي بعنوان طرحته في أول محاضرة لي بالمكسيك بجامعة غوادلاخارا، حيث كان الحضور يسأل عن الوضع في الشرق الأوسط. قلت لهم “إن أردتم أن تعرفوا عن الوضع في الشرق الأوسط من المفترض أن نضع أول عنوان رئيسي: ما هي مصلحة إسرائيل؟ فعندما نعرف أين وماهية مصلحة إسرائيل، يمكننا أن نفهم ماذا يحدث في الشرق الأوسط.”

كلنا يعرف ويدرك تماماً أن العامل الأساسي بواقع التحولات والتغيرات والمشاكل والأزمات التي قامت في هذه المنطقة، كان سببها وجود هذه الدولة المستعمرة الصهيونية.

لماذا أعتقد بأن الولايات المتحدة لن تترك الشرق الأوسط، حتى لو أرادت ذلك، أعتبر بأن أمريكا هي جزء لا يتجزأ من منظومة الأنغلو – ساكسون، التي أنشأتها وخلقتها؛ إضافة إلى أنها محكومة بما يعرف بـ “البيض” الذين لا يحكمون فقط الواقعين الإقتصادي والمالي، بل الواقع الديني أيضاً. لذا، يجب ألا ننسى إطلاقاً بأن الخلفية الأساسية للتحرك الأنغلو – ساكسوني، في منطقتنا وخارجها، له دائماً طابع ديني، خصوصاً وأنهم إعتمدواً كثيراً على الموضوع الديني حتى يدخلون من خلاله إلى الدول.

ففي مرحلة من المراحل، كان هذا العامل هو المدخل لهم لتفتيت الإمبراطوريات السابقة بغية الحلول مكانها. وفي عالمنا الحديث اليوم، أعتبر أن هذا العامل هو لإعادة بناء الإمبراطوريات التي تشكل أيضاً مصلحة لهم.

بإختصار، هناك كنيسة إسمها “الكنيسة الأنغليكيانية التبشيرية” التي تدعو وتريد أن يكون هناك “إسرائيل الكبرى” لعودة “المخلّص”. بالتالي، إن مفهوم الوجود الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط يتصل إتصالاً كبيراً ووثيقاً بهذا العامل، وكل المخططات التي بنيت منذ قرن هي لتحقيق هذا الهدف. فما نراه الآن، خلال هذه المرحلة، هو جزء لا يتجزأ من هذا المخطط الساري والقائم والجاري إلى الآن.

بالطبع أستطيع أن أقول إن هذا المخطط لم ينجز بعد ولكن قطع شوطاً كبيراً، فإننا سنرى محطات أخرى في المستقبل، القريب أو البعيد ربما، لإستكماله؛ بإعتقادي، إن هذه المنطقة ستبقى منطقة توتر ومشاكل طالما أن الهدف لم يتحقق وإسرائيل الكبرى لم تتحقق، فما تمكن الغرب، أو الأنغلو – ساكسون، من تحقيقه هذه المرة، هو تزويج لجانبين؛ الجانب الأول، الأخذ بالإعتبار واقع القوى وتقسيمها الدولي والتعاطي معه بشيء من المرونة، وخاصة بما يتصل بدور كل من الإتحاد الروسي والصين على الصعيد العالمي وتأثيره على منطقة الشرق الأوسط. الجانب الثاني، هو متابعة المخطط الأساسي الذي يهدف إلى إقامة دولة إسرائيل الكبرى.

بإعتقادي، أن الركيزة الأساسية لهذا المخطط بدأت منذ سقوط الإتحاد السوفيتي، ومعه النظام الشيوعي، وهي تمكن في تحويل الصراع الدولي إلى صراع حضاري؛ وقد وجدنا بكل صراحة وبساطة، ومن خلال متابعتي عن كثب لهذا الموضوع، المساعي والمحاولات التي جرت لجعل الإسلام العدو الجديد للعالم بعد الشيوعية. ونحن لا نستطيع أن ننسى الكتاب الذي صدر عن فيلسوف الصهيونية الدكتور صامويل هنتنجتون، الذي أطل علينا بشعار “صراع الحضارات”. فما نراه اليوم من القوتين الإيرانية والتركية هو جزء لا يتجزأ من هذا المخطط الأنغلو – ساكسوني، سواء كانت إيران أو تركيا على علم ودراية وتسير بهذا المخطط أو لم يكونا على علم ويسيران به.

إن المقصود هو خلق هذا النزاع الحضاري الديني، ولا سيما بين المسلمين، بغية تشتيت وتفتيت وتوزيع المنطقة لنزع المفهوم القومي العربي عن الصراع التاريخي والإيديولوجي والعقائدي والوجودي مع إسرائيل، وتهميش القضية الفلسطينية وإعادتها لتكون جزءاً من مفهوم الصراع الديني.

بتصوري، أن إسرائيل والصهيونية، صنيعة الأنغلو –ساكسون، تسير على هذا النهج، وأنا أستطيع أن أرسل لكم ما قاله أحد الحاخامات اليهود في نيويورك والذي أكد على هذا الكلام معتبراً بأن الواقع القائم في المنطقة اليوم قد تحقق من خلال تحويل الصراع إلى المنحى الديني والطائفي ما أدى إلى تقسيم المناطق، وتقسيم الدول الأساسية التي تصل بين نهري الفرات، في العراق، والنيل، في مصر.

كذلك، نحن نوافق على ما قاله صديقنا د. علون بأننا بدأنا نرى قيام دولة لها كيان فاعل، أي “الدولة الكردية”، وكل ما تحتاجه فقط هو الإعتراف الدولي بها، هذا سيحصل في القريب العاجل أو البعيد. أيضاً، نعتقد بأنه أصبح لدينا كيان لدولة أخرى سيتم الوصول إليها في يوم من الأيام وهي “الدولة العلوية” وهو ما شهدناه حول التغيير الديمغرافي في المنطقة وعمليات لتبادل السكان، فيما لا يزال هناك مشروع لدولة ثالثة إلى الآن لم تظهر معالمها بعد وقد تظهر في المستقبل، أو لا تظهر إذا علمنا أو عرفنا نحن كيف نتفاعل مع الأحداث ونمنع حدوث مثل هذا الأمر، وهي “الدولة الدرزية”.

في ختام كلمتي، أود أن أقول بأننا إذا إستمرينا على نفس منوال الواقع القائم في لبنان، فإننا سنتجه إلى مشروع إقامة الدولة الدرزية، وهو ما أراه واقعاً منذ مدة من خلال التحالف الهجين بين ما بين بالمقاومة؛ برأيي، أعتبر أن حزب الله يتتبع المخطط الإيراني لولاية الفقيه، وله بعد ديني، قبل أن يكون له بعد قومي وصراع حقوقي أو مدني أو وجودي، بالنسبة لإسرائيل وبالطبع هذا الصراع سيكون له نتائج مختلفة تماماً عن النتائج التي نتوقعها في إطار التطور الطبيعي والتدريجي للحقوق في إطار القانون الدولي السائد حالياً.

د. أنور الغريب

سآخذ الموضوع من زاوية ثانية. ومن الممكن أن أتناقض معك بمكان، فأنا أرى الصراع هو صراع إستعماري أكثر منه صراع ديني. الصراع اليوم المتجسد في منطقة الشرق الأوسط بين محورين أساسيين، الأول تقوده أمريكا والغرب، والثاني تقوده روسيا والصين مع حلفائهم.

لماذا الصراع هنا؟ لأن الموقع الإستراتيجي والبترول هما أهم حاجتين. وقوع الشرق الأوسط بين الشرق والغرب الذي هو ممر لطريق معروف تاريخياً بـ “طريق الحرير” يجعل من هذه المنطقة عبر التاريخ ممراً للمستعمرين ولكن ليس لغناها بالموادر الطبيعية، بل لكونها نقطة وصل بين أفريقيا وآسيا.

اليوم وبعد 100 عام وما بعد، عندما أمريكا سيطرت، بعد الإستعمار الأوروبي، وبعد فترة من الإنعزالية بعد عهد وودرو ويلسون، بعد الحرب العالمية الأولى، عادوا وبدأوا يتمددون وأضعفوا الباقين. وحتى نعرف إن أرادت الإنسحاب من المشرق أم لا، يجب أن نعرف ما هي أهدافها في المنطقة.

من أهم أهدافها، الحفاظ على خط الإمداد النفطي إلى أوروبا، وخط الإمداد التجاري، بالإضافة إلى تأمين وسهولة المواصلات أمام أسطولها التجاري والعسكري، فهي لا تستطيع أن تقطع بين الشرق والغرب، بالإضافة إلى إعادة بناء المنطقة ودول ذات التوجه الغربي والمحافظة على حلفائها، مثل إسرائيل والخليج. هنا يواجهها تهديدين أساسيين، التهديد الروسي والصيني؛ فللروس أهداف متعددة أهمها الوصول إلى المياه الدافئة، ولهذه الغاية تواجدوا في ميناء طرطوس، قبل المعارك في سوريا، ولديهم أنابيب الغاز حيث كان هناك صراع بين “غاز بروم” الروسية، التي تنقل الغاز إلى أوروبا عبر خطين الشمالي، الذي يمر في أوكرانيا ليغذي شمال أوروبا، والجنوبي، سيمر بالعراق فسوريا وإذا كانت مصفاة طرابلس داخل الخدمة قد يمر بها عبر قبرص إلى الغرب ويغذي جنوب أوروبا. فمع المعركة بسوريا حدثت معركة بين “بروم” و”نابكو”، التي توصل الغاز القطري والسعودي عبر تركيا، وبرأيي أن الصراع على سوريا كان صراعاً على خط أنابيب النفط ومن يمرره.

بالنتيجة، تدخل الروس، بشكل غير مباشر بالبداية، من خلال الإمداد اللوجستي وعبر الفيتو حتى لا يسقط النظام السوري، ثم إضطروا إلى التدخل عسكرياً وأنشأوا قاعدة حميميم وتم التدخل مباشرة، بالإضافة إلى ما نسمعه اليوم عن التدخل الروسي في ليبيا من خلال شركة “فانغر”.

بخصوص ليبيا، يجرب الروس تصليح الغلطة التي ارتكبوها عندما سمحوا للأمم المتحدة بالحظر الجوي على القذافي وتم ضرب ليبيا، الأمر الذي تنبهوا إليه في سوريا حيث وضعوا 3 فيتو بأول الحرب، لمنع تكرار ما حدث في ليبيا. الآن، فتحت روسيا خط الغاز عن طريق تركيا.

لقد أصبح الروس متواجدين في المنطقة، وأصبح البحر، أي الساحلين السوري واللبناني، يسمى برأيي طبعاً “الساحل الروسي” أو “البحر الروسي” بدليل أنه عندما أتت سفينة حربية روسية إلى مرفأ بيروت، نزل السفير الروسي بالبدلة العسكرية، هذه إشارة أنهم أصبحوا هنا، وهي إشارات توضح رمزية الدول الكبرى بالسيطرة.

بالنسبة للأمريكيين، يكمن الخطر الأهم بتهديد الصين، التي تقوم بما يسمى “الغزو الناعم” مع كل العرب عبر مبادرة “الحزام والطريق” من خلال إبرام معاهدات مع كل الدول لربط هذا الطريق من الصين إلى لندن عبر طريق الحرير القديمة وعبر الطريق البحرية، التي قام بها الأدميرال تشينغ هو منذ ما يقارب على الـ 500 عام عبر عدة مستعمرات ومواقع.

لقد نجحت الصين بذلك، حتى أنها أبرمت عقود مع إسرائيل، فما هو هدف الصين؟ هل هي إستعمار ناعم عبر السلم؟ ماذا يهمها من هذه المنطقة؟

في باكستان، أقامت الصين قاعدة عسكرية، واقامة إتفاقيات مع إيران من أجل إبقاء السيطرة على الساحل الشرقي للخليج ليبقى “مضيق هرمز” مفتوحاً حتى تبقي على عملية تدفق البترول إليها حيث إستحصلت على استثمارات في قطاع النفط وبدأت تعمل على تطوير آبار البترول، مثل حلبايا وغيرها؛ فالصين غير مستعدة للتخلي عنه حتى أنه من الممكن، وبقراءتي الشخصية، أنها قد تنشئ قاعدة عسكرية بأحد الجزر الإيرانية قرب المضيق هرمز. هذا الأمر يهدد السعودية والدول الأخرى. لكن مع السعودية نفسها وعندما طرحت أسهم شركة “أرامكو” النفطية بقيمة 25 مليار دولار، إشترت بكين بما قيمته 10 مليار منها، ناهيك عن صفقة الصواريخ الإستراتيجية للسعودية، في الثمانينيات، كذلك لها مع الإمارات أكثر من 22 عقد وضمن “رؤية 2021” وعقود على كافة المستويات، إضافة إلى العراق أيضاً. في لبنان، إستحصلت على عقد تطوير ميناء طرابلس.

فيما يخض سوريا، وقعت إيران مع كل من الصين وروسيا عقوداً هدفها إعادة بناء وتمويل سوريا وعدم سقوطها، وفي مصر، تعمل روسيا على إعادة تأهيل المفاعل النووي في “الضبعة”، ويعمل الصينيون على تطوير المرافئ، كبور سعيد والبحر الأحمر، وكما تم إنشاء معهد كومفوشيوس للعلاقات الإستراتيجية، كما وقعوا عقود مع 21 دولة عربية بدأ من العام 2004 وهو يتطور عاماً بعد عام. أما في إسرائيل، وضعت الصين مليار دولار لإنشاء ميناء أشدود، جنوب فلسطين، من حيث التطوير والإدارة، إلى جانب ميناء حيفا.

لكن التهديد الصيني الحقيقي لأمريكا هو إنشاء قاعدة عسكرية لهم في اليونان، قاعدة “بيرايوس” بدأت العام 2009 واستلموها العام 2016، وهذه القاعدة أهم من ميناء جبل علي بالإمارات، أكبر مرفأ مع مستودع والتي تعتبر الأضخم للشرق الأوسط وأوروبا حيث سيكون المرفأ قاعدة أساسية للإقتصاد الأوروبي.

فيما يخص التهديد الإيراني، برأيي لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتخلى عن خلفائها في المنطقة، فهي تخاف إن خرجت من المنطقة أن تقوم روسيا والصين، بحلف ثلاثي مع كل من السعودية وتركيا وإسرائيل وتركيا وتحت رعايتهما، أن تفقد واشنطن سلطتها في المنطقة، وأن يتوقف الإمداد، وأن تتأثر سياسة أوروبا وتخضع لسياسة الشرق لا لها. من الممكن أن ينسحبوا من العراق وسوريا، لكن لا يستطيعون الإنسحاب من الخليج إذ من الممكن أن يقوموا بتوقيع إتفاقية، على غرار “سايكس – بيكو” لكن على مستوى أكبر، لإبقاء الخليج ضمن السلطة الأمريكية، والمشرق تحت السيطرة الروسية والروسية. بإعتقادي، لن تتوقف الصين هنا، فقد نراها على سواحل الولايات المتحدة إقتصادياً.

العميد د. دريد زهر الدين

للتذكير، في العام 2030 موازنة الصين ستعادل مرتين موازنة أمريكا، ونذكر أن روسيا وأمريكا حاجتين لبعضهما لا بد منها، ونذكر أيضاً أنه وفي 18 مايو/أيار 1948، أيد الإتحاد السوفيتي، في الساعة 00:01، قيام دولة إسرائيل فيما أيدت الولايات المتحدة ذلك الساعة 00:48.

برأيي وأنا كنت مفاوضاً أساسياً بين 3 مفاوضين ولمدة 3 سنوات في البنتاغون وعملت دورة أركان عليا بالأمن القومي الأمريكي، كنت أقول للأمريكيين دائماً أن إيران حاجة أمريكية، لأن أمريكا دائماً تخاف من حلفائها، وبالتالي تعمل مع أضدادها ولكي تحاربها، أي أن وجود إيران، وقيامها بعد تحضير الخميني لسنتين في فرنسا، بهذه الضخامة وإنفتاحها ووجودها على بحر قزوين، الذي يحوي 220 مليار برميل بترول وأكبر مكان يحوي الغاز الطبيعي والكافيار وغيره. إضافة إلى ذلك، ذهبت أمريكا نحو العراق ومنطقتنا عموماً، وقطر باعت غازها لإسرائيل العام 1965 أي قبل النكسة بعامين. هناك سياسات ما تقوم بين الدول وتتحالف فيما بينها. كذلك نشير إلى أن الصاروخ الباليستي الروسي، الذي خرج من بحر قزوين لضرب مطار دير الزور، تم بموافقة من بريطانيا وأمريكا.

فيما يخص لبنان، يمكن القول بأن الثقل الأمريكي موجود في بغداد وليس في بيروت، وهذا ما تشير إليه الكثير من الدراسات حتى لو بلغت التكلفة حدود الـ 3 مليار دولار التي تشمل السفارة مضاف عليها بعض التحصينات. أمر آخر يؤكد ما قلته سابقاً وهو أن السفير الأمريكي في لبنان كان يمتلك منزلاً صغيراً بالقرب من القصر الجمهوري، وعندما قدم الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك إلى بيروت، رفض حينها أن يحل ضيفاً على القصر مخافة أن يتم التنصت عليه من منزل السفير.

بالمحصلة، إن هم أمريكا الأول والأخير في المنطقة هو أمن إسرائيل. وهنا لديها صراع يهودي ضمني بين يهود الأرثوذكس الذين هم مع فكرة السبي، واليهود السفرديم الذين يطالبون العيش بكيان واحد، واليهود المتطرف. والسؤال هنا، هل الساحة اليهودية اليوم هي تحت الرعاية الروسية لا الأمريكية؟ وهل التحالف الأمريكي – الروسي ليس لحماية الكيان الإسرائيلي خصوصاً وأن روسيا اليوم تتحالف مع الكيان الإسرائيلي والصهيوني؟ هناك الكثير من الدراسات التلمودية وغيرها. لماذا أخذت أمريكا قاعدة في العراق؟ أليس للدفاع عن السبي اليهودي في بابل؟ لماذا “سيطرت” على لبنان ولا تريد تتخلى عنه وسمح لها بكل شيء؟ ولماذا ساعدت بالسياسات الإيرانية الموجودة في لبنان؟ هل روسيا هي المتحكمة بالواقع اللبناني والمنطقة اليوم؟ يمكن صحيح وأمريكا تتحالف معها في أي صراع دامي.

إن خروج أمريكا من سوريا.. ماذا يعني؟ هل تترك إسرائيل؟ برأيي الشخصي لا لكنها قد تسلمها إلى الروس، بالتالي تتحالف مع الروس لتهدئة الوضع لأن قيام الدولة تعدى الصراعات. وبعدما قسمت بريطانيا الدول العربية، من خلال “خطة السلام” التي قسمت الدول الخليجية ونقلت الخلافة من عبد الحميد إلى المنطقة العربية، يمكن القول بأننا اليوم أيضاً نعيش إرتهان عربي.

من هنا، هل تسعى أمريكا لـ “ناتو عربي”، مع مصر؟ هل تتخلى عن إفراز منتجاتها العسكرية، مثل “داعش” والقاعدة وغيرهما الذين كشفت شخصياتهم ومحركيهم من الأمن القومي الأمريكي؟ فإذا دخلت إلى مهمة الولايات المتحدة، ترى السياسات كيف تحاك فيما تعمل بقية الدول على جوانب أخرى لا تتعلق بهذه المهمة.

أيضاً، هل سوريا هي صراع أم مشروع؟ فبحث هذا الموضوع متصل مع السياسات العامة الإقليمية. هل الرئيس بشار الأسد أتى بكرافات وتتخصص في بريطانيا، وليس بروسيا أو أراضي الصمود والتصدي وأتى لينفذ مشروع من الـ 14 إلى الـ 24 وسيعود إلى بريطانيا لأن زوجته بريطانية؟ وهل إغتيال أخيه بطريقة مختلفة وما زالت مبهمة لا تثير الريبة؟

عندما التكلم عن المشاريع السياسية في المنطقة، يجب التطرق إلى الحديث عن عن السلطان عبد الحميد، كان هم كل من ثيودور هيرتزل وحاييم وايزمان نقل خط السكة الحديدية، وكانوا اليهود حينها يريدون بيع أراضيهم في العراق لإستبدالها في فلسطين وتمريره عن طريق نابلس، لأنها جبل جرزيم وأهلها هم سامريون وحملة الأسفار الخمسة الحقيقية للنبي موسى ولم يكملوا بالـ 22 سفراً ولم يأتِ يهوه غير في التوراة مثل ما يريد وألَّف توراة حسب ما يطلبه الحاخامات وخاصة من بعد المشنى والجمارة التي هي التلمود. فلدينا واقع ليس محصوراً بالإنسحاب الأمريكي، بل لدينا واقع يتخطط المنطقة وأكبر بكثير من هذا الإنسحاب.

والسؤال هنا: أين الكرد؟ هل سيشعرون بالخيانة الأمريكية تجاه خروجهم من المنطقة؟ ووعدهم بدولة أردنستين في العام 1924؟ أين سيصل التحالف الروسي – التركي على إمتداد المنطقة وصولاً إلى ليبيا؟ هل تأخذ إسرائيل خطوات جريئة إذا خرجت أمريكا من المنطقة وتنتقم من إيران، إلى حد ما، ليس على غرار ما حدث في جنوب لبنان مما يسمى “لعبة الحرب”؟ ماذا عن الدراسات التي تقول بخطر اللواء قاسم سليماني على السياسة الإيرانية داخل إيران بإستقلاليته الذاتية وكأن هناك “إيعازاً” ديبلوماسي بتصفيته؟ وهذا ليس مؤكداً.

هنا أود الإشارة إلى أن أي صاروخ يصيب هدفه هو صاروخ “متفق” عليه؛ والصاروخ الذي سيصل إسرائيل هو الذي ستسمح به، إذا لم يصل ستقوم بقصف نفسها وإلا ستخسر مليار دولار من يهود أمريكا، و3 مليار من الكونغرس، ومن 7 إلى 8 مليار من يهود العالم.

أخيراً، وصف الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، سوريا بـ “الرمل والموت”. فهل يكون الإنسحاب منها على غرار أخطاء أمريكية داخلية، كما حدث في أيام الرئيس الأمريكي الأسبق، ريتشارد نيكسون، الذي جدد ولايته جراء حرب فيتنام ومشروع وزير دفاعه، روبرت ماكنمارا، وكذلك الحال في حرب أفغانستان مع الرئيس السابق باراك أوباما. هل يسعى الرئيس ترامب إلى ضربة “فلكلورية” لتجديد ولايته؟

الأستاذ رياض عيد

سأركز على بعض النقاط حول الأبعاد الأساسية للصراع. أولاً، نحن أمام عالم تغير بعدما إنتقل مركز ثقل الإقتصادي العالمي من الغرب إلى الشرق؛ وبإنتقاله إلى الصين والهند، سينتقل معه الإهتمام العالمي من الغرب وتحديداً من أوروبا وأمريكا إلى شرق آسيا، إلى منطقة النمور الصفر والمشاريع القارية الكبرى التي تقام في آسيا كي تكون القارة هي “قارة القرن الـ 21”.

سأزيد على كلام العميد دريد، لدي معطيات البنك الدولي أن الصين سيصبح الناتج المحلي الإجمالي فيها العام 2030، 64.2 ترليون دولار، وبمقارنة مع العام 2017، كان بحدود 23 ترليون أي بنسبة زيادة 1.77%، أما الهند فستكون ثاني إقتصاد عالمي وسيكون الناتج المحلي الإجمالي 64.2 ترليون دولار في العام 2030، مقابل 9 ترليون دولار العام 2017 أي بزيادة 377%، بينما أمريكا سيكون الناتج الإجمالي المحلي العام 2030، 31 ترليون دولار، وبالـ 2017 كان 19.45 أي بزيادة تقريبية حوالي 60%.

إذا أخذنا هذه المعطيات، من المتوقع أن الفائض الصيني، بالإضافة إلى الجهد غير العادي الموضوع بطريق الحرير، أن يكون الفائض ما بين 10 – 14 ترليون دولار في العام 2030، بينما العجز عند أمريكا سيزداد تباعاً. يعني تضييق الهوة ما بين الناتج المحلي والعجز الأمريكي سيتسع سلبياً؛ وهذا إن دل على شيء، يدل على أن واشنطن متراجعة بسياق كبير جداً، والدول الآسيوية تتقدم بسياق كبير جداً.

أقامت الصين مشروع اسمه “طريق الحرير” والحزام الاقتصادي هو مشروع القرن الـ 21، إن مشروع القرن الـ 21، هو مشروع أوراسيا المتفقة عليه روسيا والصين كعملاقين يقارعان الوجود الأمريكي. وفي الإقليم، هناك دول إقليمية تنضوي تحت هذا المشروع، وهنا سأقول، وتحت عنوان الحوار هو هل ستنسحب أمريكا من المشرق أو الإنسحاب الأمريكي بين الممكن والمستحيل، من يقارع المشروع الأمريكي مباشرةً في المشرق هو المشروع الإيراني. وهنا يطرح سؤال: هل المشروع الإيراني هو مشروع ذاتي؟ هل إيران تقارع أمريكا في المشرق بالأصالة عن نفسها أم بالوكالة عن الصين وروسيا؟

برأيي هي تقاتل بالوكالة وليس بالأصالة عن نفسها، ودليلي على هذا الموضوع بحوار أقامته قناة “فرانس 24” مع ألكساندر دوغين، حيث سأله المقدم عن الحلف مع إيران، فيقول “نحن نتحالف مع إيران الشيعية لأنها قيمة مضافة لأوراسيا، ولأنها هي الطريق الآمن لروسيا إلى المياه الدافئة خارج سيطرة الأطلسي”، ويقول أيضاً “نتحالف مع حلفاء إيران في العراق، أي الحشد الشعبي، ومع القوات الرديفة في سوريا التي ترعاها إيران ومع حزب الله الشيعي اللبناني” وهي إجابات لفتتني جداً. بالإضافة إلى ذلك، تطرق إلى العامل التركي الذي أشار أن له دوراً كبيراً، وإستراتيجية أوراسيا هي إستعادة تركيا من الأطلسي، وطبعاً هذه إستراتيجية الرئيس بوتين.

إنطلاقاً من هذه المعطيات، أريد القول إن إيران ما تقوم به هو بالأصالة وبالوكالة. وهناك نقطة مهمة جداً ومركزية أريد الإضاءة عليها وهي أن روسيا والصين تقارعان الولايات المتحدة لأنها “منفلتة” من القانون الدولي ومجلس الأمن والأمم المتحدة، بينما روسيا والصين تتمسكان بروح “وستفاليا”، وتؤكد على ضرورة عدم إجتياح الدول من الخارج، وتقويض وجودها؛ وكونها متمسكتان بمبادئ “وستفاليا” والقانون الدولي، لا تستطيع أن تمارس دورها بالأدوات الناعمة الداخلية في الدول، لذا أوكلت كل من روسيا والصين إلى إيران للقيام بهذه الأدوار.

وشخصياً، لم أكن أعرف الأدوار الإيرانية الخطيرة والمهمة جداً إلا عندما بدأت أظهر على التلفزيونات عبر الإعلام، تأكد على أنه وبالتنسيق مع روسيا والصين، هناك الدور الإيراني في الإعلام، بالحروب الناعمة، لمقارعة قنوات كالجزيرة والعربية والقنوات المشابهة الأخرى، حيث تقوم طهران بتمويلها لكل هذه القنوات لأنها تقوم بهذا الدورعن الآخرين.

إذاً، يتضح لنا هنا أن الدور الإيراني ليس منفصلاً عن الدور الدولي لأن الصراع في المنطقة لم يعد صراعاً إقليمياً، بمشاريع إقليمية فقط، بل دخل العامل الدولي؛ وعند دخوله، تصبح المشاريع الإقليمية مضطرة إما ان تنضوي في هذا المشروع الكبير أو أنها ستضرب أو تسحق أو تحتوى.

من هنا، إذا أخذنا المشروع الأمريكي في المنطقة، مما لا شك فيه أن إسرائيل والموضوع الديني هو جزء من قناعات أمريكا الداخلية، ودور الإنجيليين ودور اللوبي اليهودي الذي هو دور فاعل، إنما الدولة العميقة في الولايات المتحدة لها تأثير مصالح أمريكا القومية والجيو – إستراتيجية؛ فإذا ما أخذنا آخر إستراتيجية أمن قومي، التي أعلنها الرئيس ترامب، وأنا كتبت مقالين على مركز “سيتا” عن هذا الموضوع بعنوان “إستراتيجية الأمن القومي الأميركي في الميزان الإقتصادي والجيو – ستراتيجي”، كان هناك تأكيد من قبل الرئيس ترامب، ومن قبل وزارة الدفاع، شرحت الرؤية الأمريكية التي أعتبرت أن منازلة “فُرضت” عليها في نقاط الصراع والصدام الجيوبوليتكي، وأمريكا ملزمة بأن تتدخل في هذه المناطق.

بالعودة للمنطقة، نرى الاحتلال الأمريكي للعراق ولأفغانستان كان لهما غايتين، وهما:

النقطة الأولى، سيطرة أمريكا على إمدادات النفط من بحر قزوين، الذي هو أهم مخزون طاقوي للعالم غير مستهلك.

النقطة الثانية، السعي إلى السيطرة على ممر طريق الحرير لأن أفغانستان هي الممر الحاكم لطريق الحرير. وإذا قرأنا ودرسنا على الأرض ممرات طريق الحرير، نرى كيف حاولت الصين أن تتجاوز أفغانستان فحوِّلت الطريق إلى إيران ومن ثم إتجهت به إلى تركيا. من هنا، نرى بأن هناك رغبة كبيرة إيرانية – صينية – روسية أن تعود طريق الحرير لتمر من العراق إلى سوريا، ومن سوريا تتفرع نحو أفريقيا وأوروبا، كما ستصبح موانئ طرابلس وبيروت واللاذقية صلة الوصل على الخط البحري للطريق في البحر المتوسط.

في أواخر العام 2018، أقامت إيران مشروع سكة حديد من شنغهاي إلى خورم شهر، مروراً بالعراق ليصل إلى اللاذقية في سوريا، على أن يقام على جوانبها محطات لتفريغ جزء الحاويات، كما تتفرع منه وصلة بإتجاه الأردن. تكمن أهمية هذا المشروع في أن تكون سوريا بوابته على البحر المتوسط، وأخطر ما في هذا المشروع هو إتفاق إيران مع دول المنطقة بأن يتم التبادل التجاري من خلال العملات المحلية، بالإضافة إلى أن تقوم قوة عسكرية مشتركة إيرانية – عراقية – سورية بحمايته. إلى ذلك، هناك مشروع روسي – سوري يتمثل في إنشاء سكة حديد تربط ما بين ميناء اللاذقية ومدينة البصرة، ومن ثم إلى الجزيرة العربية.

هذا إن دل على شيء، إنما يدل على أن منطقة غرب آسيا أو المشرق هي فعلاً منطقة صراع جيوبولوتيكي – طاقوي على المنطقة، وهذا الصراع يستوجب سؤالاً محورياً: هل أمريكا مستعدة للإنسحاب من المنطقة والتخلي عنها؟

برأيي، إذا ما إنسحبت أمريكا من هذا الموقع فهذا يعني إنسحابها من أهم منطقة جيو – إستراتيجية في العالم، وبالتالي بعد إغتيال اللواء قاسم سليماني إرتفع الصدام ما بين أمريكا من ناحية، وإيران ومن خلفها من ناحية أخرى، إلى الصدام المباشر. والسؤال هنا: هل سيؤدي هذا الصدام المباشر، ونحن على أعتاب انتخابات أمريكية في الخريف المقبل 2020، إلى صدام أكبر قد يدفع المنطقة إلى حرب شاملة أو إلى تصعيد أو تسعير الصراع؟ بقراءاتي ومعلوماتي، أمريكا لن تدخل إلى حرب شاملة، وإيران ليس لها رغبة بالدخول في مواجهة شاملة، لكن الحروب والضربات الصغيرة، بين الحين والآخر، قد تحرج الرئيس ترامب، وهو على قاب قوسين من الإنتخابات، إما أن تذهب المنطقة إلى صدام أكبر أو تذهب إلى تسوية شاملة. وأنا أرجح أن تذهب المنطقة إلى تسوية شاملة ما بين الروس والأمريكيين والصينيين، ومن بعد ذلك القوى الإقليمية، وهذا المرجح له أن يتم.

نقطة أخرى أود الإشارة إليها وهي الوجود التركي في ليبيا وعودة روسيا إليها ليس له علاقة بالإستثمارات الروسية – الصينية التي ضربت في ليبيا فحسب، بل له علاقة بمشروع الغاز الذي إتفقت فيه إسرائيل مع اليونان وقبرص بأن يمر إلى جنوب شرق إيطاليا، هذا الأنبوب يزاحم “غاز بروم” ومشاريع روسيا الطاقوية في أوروبا. إن دخول التركي والكلام عن أنه لديهم 40 كلم في المياه الإقليمية الليبية عبر قبرص التركية، هذا يعني أن المياه التي سيمر بها هذا الأنبوب هي من ضمن المياه الإقليمية التركية – الليبية وبالتالي من الممنوع مروره. برأيي، الوجود التركي في ليبيا سيؤمن أيضاً مصالح روسيا، كما أن روسيا روسيا تلعب بالتركي لعبة “الفزاعة” أمام الدول العربية من أجل العودة إلى الشمال الأفريقي.

العميد ناجي ملاعب

نشكر د. علوان على هذه الجلسة. هذه المنطقة من منطلق الجيوبوليتيك، أي أوراسيا – أوروبا وآسيا، هي “قلب العالم” بحسب نظرية كل من ماكيندر وبعده ماهان، وتتمحور حول مفهوم أنه “من يسيطر على قلب العالم يسيطر على العالم”.

بحسب ماكاندر، أن من يسيطر على هذه المنطقة براً فهو يسيطر على العالم، ولكن العديد من الخبراء الأمريكيين قالوا بأن “من يسيطر على شواطئ هذه المنطقة يسيطر على المنطقة كلها”. لأجل ذلك، أمريكا بعد نظرية زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأسبق، التي تقول إن تقوية الاسطول الأمريكي، لذلك هي تمتلك 11 أسطولاً والعاملين منها 8 أساطيل حالياً، كما أن لديها 10 قيادات في العالم، كقيادة أفريقيا، وقيادة أوروبا، وقيادة الشرق الأوسط (المعروفة بـ “سانتكوم”، المتواجدة في قطر ومركزها الرئيسي بولاية فلوريدا)، وقيادة شرق آسيا (الموجودة في جزيرة غوام).

بالنسبة إلى الموازنة العسكرية، تقدم الرئيس ترانب بميزانية قدرها 600 مليار دولار، لكن المذهل بأن الكونغرس وافق على مبلغ 633 مليار أي بزيادة عن حجم الميزانية المقدمة وذلك بسبب اختراع وتطوير شاحنة كاسحة للألغام، وأيضاً من تعزيز سلاح الطائرات المسيرة، وهذا من الناحية العسكرية.

حالياً، قدم الرئيس ترامب موازنة بقيمة بـ 740 مليار دولار، والتي تعد ثاني أكثر موازنة في العالم إذ بعده الصين بـ 149 مليار. من هنا، يمكن أن نرى بأن النفقات العسكرية، في عهد الرئيس ترامب، توزاي ضعف نفقات الدول العشر التي تلي أمريكا. فما يجب الإشارة إليه هنا، أن لدى الولايات المتحدة 930 قاعدة خارج أراضيها، في حين أن الصين إستطاعت الحصول على قاعدة في كل من باكستان وجيبوتي حيث أن ليس بإستطاعتها الحصول على أكثر. بالنسبة إلى روسيا، تمتلك موسكو حاملة طائرات واحدة وهي “الأدميرال كوزيستوف” التي تم تجديدها أكثر من مرة، في حين قاموا ببيع إحدى الحاملات التي كانوا يمتلكونها للصين التي جددتها وقامت بصنع حاملتين غيرها. بالمقارنة مع ما سبق، نرى بأن لدى الولايات المتحدة 4 حاملات طائرات في كل أسطول منتشرين في أرجاء العالم. من هنا أقول إن أمريكا لا يمكن أن تترك هذه المنطقة.

بالنسبة إلى العامل الديني الذي تحدث عنه سعادة السفير يمكن القول بأنه عامل مهم جداً، فلقد أشار لهذا الأمر الكاتب الفرنسي الشهير روجيه غاروديه في كتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” و”الإسلام نحو حروب جديدة” حيث نبه إلى أن الإسلام هو الخطر الذي يصوب عليه الأمريكيين، إلى جانب العامل الإقتصادي من بترول وخطوط غاز.

بالنسبة إلى مسألة الإنتشار الأمريكي في منطقتنا، إذا قرأت في مجلة الجندي ترى في كل عدد منها قيام ضباط أمريكيين بزيارات للمناطق العسكرية المختلفة، في لبنان على سبيل المثال. بالتالي، إن الوجود الأمريكي منتشر بشكل كبير خصوصاً من خلال المساعدات العسكرية التي يقدمها إلى لبنان والتي تشكل حجة لتواجده في المقار العسكرية.

في منطقة الخليج، هناك وجود أمريكي في سلطنة عمان بحيث يوجد مدربين على أجهزة الرادار والسفن وغير ذلك، والأمر ذاته في دولة الإمارات والبحرين. وفي الأردن، يفتخرون بأنهم يقومون بمناورات “الأسد المتأهب”؛ مع بداية الأحداث في سوريا، أصبحوا يطلقون عليها هذا الإسم ويدعون قادة دول الخليج للحضور ويقوم الملك نفسه بالإعلان عن بدئها.

إذاً، الوجود الأمريكي هو فعلي داخل الثكنات العسكرية، أي مترابط مع بناء الجيوش، وبالتالي من الصعب إستهدافه، وليس من السهولة خروجه، ووجوده يأتي للحفاظ على مصالحه الإقتصادية ومصالح إسرائيل، وهذا أمر واضح. أما الإحتياط الإستراتيجي، عندما تم الإنسحاب من العراق إبان عهد الرئيس أوباما، عاقب الملك الأردني ما يسمون “الهجانة” للسماح لهم بالمرور من العراق، عبر الأردن، إلى إسرائيل. هذا يعني إنتقال هذا الإحتياط إلى إسرائيل؛ ومع أنها تمتلك طبقات كثيرة من الدفاع الجوي، يتواجد فيها جنود أمريكيين وهذا ما يوضح أهمية حماية إسرائيل بالنسبة إلى واشنطن.

إلى ذلك، هناك تواجد عسكري آخر غير الأمريكي، هو التواجد الفرنسي، عبر شركات لها، موجودون في الجهة الغربية أو الشرقية من السعودية للعمل في مجال السفن، فيما تأخذ شركة “لوكهيد مارتن” الجانب الآخر. أيضاً، هناك أجهزة دفاع جوي فرنسي متطورة جداً في السعودية، بالإضافة إلى الإمارات، التي يمتلكون فيها قاعدة عسكرية. كذلك، لدى بريطانيا قواعد في كل من البحرين وقطر وسلطنة عمان.

حالياً، هناك تدفق كبير على مضيق هرمز بحجة أمنه، حتى أن اليابان أرسلت سفنها إليه؛ وضمن خليج عمان، تم وضع إجراءات أمنية بسبب عمليات القرصنة التي كانت تحدث على سواحل الصومال، فحتى الإتحاد الأوروبي إتخذ العديد من التدابير، بالإضافة إلى كل روسيا والصين وبعض الدول العربية.

من هنا نقول إنه مع وجود خطوط النقل والنفط والتجارة، يصعب عملياً خروج الولايات المتحدة من المنطقة، وهذه مسألة واضحة.

بالنسبة إلى السياسة الخارجية الإيرانية، يمكن القول بأنها لم تتسم يوماً بالرعونة، كما أنهم لم يبنوا السياسة الدينية الخاصة بهم، أي لم يدخلوا كشيعة، وأكبر دليل على ذلك أنهم إحتضنوا جماعة “القاعدة” عندهم، كما نجد أن “طالبان” قد نعت اللواء قاسم سليماني، وهم على صلة مع “حماس” الفلسطينية. من هنا، يمكن القول بأن لدى الفرس حلم إمبراطوري، بالتالي هم لا يقيمون وزناً لمسألة “العرب”.

أما السؤال هنا: كيف تحارب أمريكا إيران؟ أنا لا زلت أسأل إذا كانت إيران فعلاً مصلحة أمريكية، أي أن مصلحتها مع أمريكا أم مع الآخرين. برأيي، إن مصلحة إيران هي مع الولايات المتحدة وليس مع الآخرين. في فترة حكم الشاه، شكل التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة ما نسبته 10% من القوات الموجودة حالياً.

إن الإمام الخميني، الذي كان موجوداً في العراق قبل أن يذهب إلى فرنسا، قمع جماعة مصدقي، أي اليسار والحركة الوطنية الإيرانية الذين كانوا في السلطة. فتم الإتيان برجل دين من أجل قمع هذه الحركة وأخذ مكانها.

هؤلاء الناس كيف تحاربهم أمريكا؟ أختلف بما تفضل به الأستاذ رياض من أن إيران تحارب كبديل عن روسيا وغيرها. فلولا إمتلاك روسيا لحق النقض في الأمم المتحدة لكان وضعها غير مقبول. ودليلي على ذلك بالنسبة للعملة تحديداً، عندما سافر رئيس الأركان الأسبق في الجيش اللبناني، اللواء وليد سلمان، إلى روسيا، كان الدولار يوازي ما قيمته 39.50 روبل، وبعد ذلك بفترة وجيزة، وخلال عودته، بات يوازي كل 79 روبل أي أن العملة أصبحت في الحضيض. كذلك، أخبرني رئيس جمعية الصداقة الروسية – اللبنانية، الدكتور رياض نجم، بأن الرئيس بوتين قام بتمديد خدمة موظفيه 5 سنوات إضافية لأن الدولة غير قادرة على دفع معاشات تقاعدهم. إذا كان هذا حال روسيا، فكيف هو حال إيران؟

لذلك، من إغتال اللواء قاسم سليماني قتل الأحلام الإمبراطورية، فلدى إيران أحلام لا حدود لها؛ وجميعنا يعلم أنه عند القضاء على شخص، هذا يعني بأنك قضيت على فكرة أو نهج. من أبرز الأمثلة على ذلك، قيام إسرائيل بقتل الشيخ أحمد ياسين مسؤول حركة حماس، الذي كان مقعداً. في حينها، لم يكن هناك من يستطيع التحدث معه، فلقد كان هناك مقاومة فلسطينية حقيقية إسمها حماس. أما اليوم، يمكن القول بأن رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنية، يضع رِجلاً في مصر وأخرى في إيران، وأخرى في قطر، ولقد قرأت مؤخراً بأنه طلب زيارة الأردن، لكن القيادة هناك رفضت إستقباله. من هنا، وصل اللواء سليماني إلى مكان ما بات يشكل خطراً حقيقياً على واشنطن من خلال سلوكه ونهجه.

بالمناسبة أيضاً، قضت واشنطن على الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين بعد أن إستدرجته إلى الكويت، لكنها لم تستطع أن تستحوذ على البترول، غير أن الهدف كان القضاء على أحلامه الإمبراطورية التي تهدد الوجود الأمريكي، بما أنه لم يكن يعطي إعتباراً لدول الخليج وهو ما صرح به مرات عديدة.

فيما يخص حادث إستهداف الطائرة الأوكرانية والضحايا الإيرانيين الذين قضوا على متنها، قام أهالي الضحايا بتكسير صورة سليماني، الذي إستشهد قبل أيام قليلة ومشت إيران كلها في يوم تشييعه. فلو كان هدف هؤلاء التعويض المادي لما قاموا بهذا العمل، لكن عملية التكسير تلك تعني وجود أمر داخلي إيراني أو أن سقوط هذه الطائرة لها علاقة بمسألة إغتيال اللواء سليماني. هنا يمكن وضع العديد من الإحتمالات أبرزها أن يكون هناك خطر داخلي، أو هو الشخص المرشح لخلافة الخامنئي، أو سقوطها عن طريق الصدفة، أو قيام الولايات المتحدة بإسقاطها.

ما يمكن ملاحظته هنا أننا لم نر حزناً روسياً عليه، وقد يكون السبب هو الإنتهاء من أحلام إيران الإمبراطورية. إنني أتذكر خلال ندوة في العام 2014 عند مناقشة المسألة الأوكرانية بحضور السفير الروسي في لبنان، تحدث خبير إيراني بأن حجم التبادل التجاري في العلاقات الروسية – الإيرانية 1.5 مليار دولار سنوياً، في حين أن التبادل التجاري الإيراني – التركي وصل إلى حدود الـ 20 مليار دولار، وحالياً هو أكثر من ذلك. هنا أيضاً يمكن الإشارة إلى أن روسيا لا ترتاح للدول الدينية المجاورة لها، خصوصاً بعد ما عانته من حرب الشيشان، لا سيما وأن إيران تقوم بتنمية الشعور الديني؛ فكما تم إستخدامها من قبل الولايات المتحدة سابقاً، تم إنهاء دورها عندما بدأت تشكل خطراً حقيقياً.

بالنسبة إلى خط النفط “نابوكو”، فلقد قامت روسيا بتجفيفه وإيقاف العمل به، حيث إشترت موسكو بترول أذربيجان وتركمنستان وضخوه في الأنابيب الروسية إلى أوروبا. لكن الخطير في الأمر هو ما يتعلق بالخطة الإقتصادية ببحر قزوين؛ أبان الإتحاد السوفيتي السابق، كان هناك خلاف على إعتباره بحراً أم بحيرة. ففي الحالة الأولى، تطبق قواعد البحر الإقليمي، بينما في الحالة الثانية يتم الإقتسام بحصص متساوية. كانت طهران تريد الإستحواذ على ما نسبته 32% من البحر لأنها متشاطئة فيه أكثر من الدول الباقية، لكن الإتحاد السوفيتي رفض ذلك.

في العام 2018 وفي مدينة أكتاو الكازاخية، تم الاتفاق على تقاسم البحر وقبلت إيران بما نسبته 18%، لكنني لا أعلم أين أخذت طهران مقابل بقية الحصة التي كانت تطالب بها. هل هي في سوريا؟ أم خط النفط الفارسي؟ لا أعلم.

د. فيصل مصلح

في الحقيقة من الصعب الحديث بعد كل هذه الآراء والمعلومات. بدايةً أشكر د. علوان على هذه المبادرة الجميلة والقيمة في منطقتنا وبصراحة لو هكذا مبادرة وهكذا مراكز في مجال الفكر كانت منذ زمن آبائنا وأجدادنا تجتمع وتتناقش بهذه الأمور لكنا في حال أفضل اليوم. يعز عليك وجود مثل هذه الشخصيات المتواجدة هنا، من أصحاب الفكر والعلم ونتحدث عن أدوار دولية وإقليمية، لا نملك قوة حقيقية في هذا المشرق أو في هذا العالم العربي لنستطيع الحديث عن دورها. من خلال ما تقدم من الحديث، نرى بأنه لم يأتِ الذكر على أية دولة مشرقية أو عربية، بل كان التركيز على الدول الغربية الفاعلة التي تمتلك إستراتيجيات، فيما نحن كدول ليس لدينا أية إستراتيجية حقيقية.

بما يتعلق بموضوع الندوة، أنا كنت سعيد جداً بذكر مسألة إنسحاب القوات الأمريكية من المشرق العربي؛ بصراحة، إن الإعلام الموالي لإيران، أو المقرب منها أو المؤيد لخطها، يتحدث كثيراً عن الإنسحاب الأمريكي من منطقة غرب آسيا وهذا الشعار كبير جداً. فمع تحديده بمنطقة المشرق، يسهل علينا النقاش حوله لأن الحديث عن إنسحاب القوات الأمريكية من منطقة غرب آسيا سيكون موضوعاً واسعاً جداً.

برأيي، هذا التواجد الأمريكي في منطقة غرب آسيا اليوم هو نتاج للحربين العالميتين الأولى والثانية؛ فتواجد الولايات المتحدة هو نتيجة توارثها للإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، فهي وريثة الأنغلو – ساكسون الذي تحدثتم عنه، وهذا التواجد لا يمكن التخلص منه إلا عبر الحروب، لأن توازنات الحرب العالمية الأولى والثانية لا تزال ثابتة إلى يومنا هذا.

والدليل على ذلك بأن العديد من القوى السابقة، كاليابان وألمانيا، لا تزال غير قادرة على لعب دور كبير في العالم، إذ لا تزال القوى العظمى الأساسية، أي الخمسة الكبار. ونتيجة لذلك، إن تواجد القوات العسكرية الأمريكية بغرب آسيا لن يمس بعملية إستشهاد القائد فيلق القدس، اللواء قاسم سليماني، أو عملية إغتيال، أو حتى وجود طموح لدى دولة إقليمية معينة. فإخراج هذه القوات، من غرب آسيا، يحتاج إلى تضافر جميع الجهود كل من إيران وروسيا والصين بالإضافة إلى دول أخرى فلربما قد تتمكن أو تفشل في هذا الأمر. لكن قبل الحديث عن غرب آسيا، نريد أن نتكلم عن شرق آسيا.

بالنسبة إلى الصين، إن تواجد القوات الأمريكية في شرق آسيا هو تواجد قوي جداً إن كان في شمال شرق آسيا، أي في بحر اليابان، وفي اليابان وفي كوريا الجنوبية، أو في جنوب شرق آسيا، أي بحر الصين الجنوبي. اليوم، من هي أقوى قوى عسكرية في شرق آسيا؟ من الممكن أن تخالفونني الرأي إن قلت الولايات المتحدة، فإذا لم تكن الأولى فهي الثانية بالتأكيد مع أنها لا تقع جغرافياً في تلك المنطقة.

السؤال نفسه سنطرحه بالنسبة إلى غرب آسيا، حيث نقول بأن القوة الأقوى في هذه المنطقة ليست إيران ولا روسيا ولا السعودية، بل هي أيضاً الولايات المتحدة؛ بالتالي، إن طردها منها يحتاج إلى حرب عالمية ثالثة، بحسب إعتقادي.

من هنا، سنتحدث عن المعقول أو وجود القوات الأمريكية اليوم أو طرد القوات الأمريكية من المشرق العربي، وهنا نسأل: أين القوات الأمريكية وأين موجودة؟

بالنسبة إلى لبنان، فهي غير متواجدة عسكرياً بل من الممكن أن يكون هناك تواجد إستخباراتي أو لوجستي عملي، لكن لا تملك قواعد عسكرية في لبنان على غرار العراق وسوريا. بالنسبة إلى العراق، تتواجد القوات الأمريكية فيه، بالإضافة إلى إقليم كردستان الذي لا أريد فصله عن العراق، وفي سوريا أيضاً. أما في الأردن، فالتواجد هناك يقع خارج نقاشنا لعدم وجود قدرة لحلف المقاومة للوصول إليه أو التأثير فيه. بالتالي، يمكن حصر الموضوع بالقوات المتواجدة في كل من العراق وسوريا.

برأيي، أن هذا التواجد في المنطقة اليوم ربما قد يُمكن محور المقاومة من التأثير عليه، ولكن واشنطن لن تنسحب بل ستقوم ببعض الخطوات التكتيكية.

في اليوم الأول الذي وقعت فيه العملية وتم رفع الشعار هذا، كنت أتحدث لإذاعة سبوتنيك الروسية وقلت إن الولايات المتحدة ستعيد التموضع لأنها تحت تأثير الضربات، أما موضوع الإنسحاب فهو كبير جداً. إن مسألة إعادة التموضع هي حاجة أمريكية.

بالنسبة إلى العراق، قد يكون من المهم زيادة الثقل العسكري في إقليم كردستان، وهذا قد يؤدي بنهاية الأمر إلى التقسيم أو إيجاد إستقلالية أكبر للإقليم. كذلك، يمكن لها الإنسحاب من بغداد، ذات النفوذ الشيعي، إلى الأنبار حيث تجد فيها “بيئة حاضنة”، مبدئياً. بالتالي، هذان الإنسحابان سيؤديان إلى نوع من التقسيم للعراق؛ فوجود القوات الأمريكية في الأنبار، على سبيل المثال، قد يعيد تشكيل ما عرف بـ “الصحوات” من أجل حماية هذا الوجود، على غرار ما كان موجوداً سابقاً؛ بالتالي، نجد أنفسنا أمام ثلاثة أقاليم، شيعية وسنية وكردية. إذاً، إن إعادة التموضع لا يصب في مصلحة إيران بل في مصلحة أمريكا وأهدافها الإستراتيجية الكبرى.

بالنسبة إلى سوريا، إن إعادة التموضع هو موضوع خطير جداً؛ فلو إنسحبت القوات الأمريكية من قاعدة التنف، التي تعد أضعف القواعد بالنسبة لمثيلاتها، إلى منطقة الشمال قد يؤسس إلى إنفصال هذا الإقليم الأخير عن سوريا.

برأيي، لقد وضعت إيران سقفاً مرتفعاً جداً وهو الإنسحاب العسكري الأمريكي؛ لكن وبإعتقادي، هذا ليس هدفاً كما هم يصورونه بل آلية عمل. فهل ستعمل حركات المقاومة في المنطقة عليه؟

إن إستهداف هذه القوات، إن حصل، سيكون بهدف التفاوض على مواضيع معينة مجدداً أو إيرام إتفاق نووي جديد، بمعنى “إستفزاز” أمريكا بعمليات على قواعدها ما يؤدي ليس إلى طردها نهائياً، لأن ذلك ليس بمقدورهم، بل إعادة إنتاج إتفاق نووي جديد، الذي يسمونه اليوم “إتفاق ترامب”، الذي سيكون، برأيي، لصالح إيران؛ بإعتقادي، كان من الأفضل لو أدركت طهران هذا الموضوع منذ البداية.

في 4 أبريل/ نيسان 2019 بالتحديد، كنت ضيفاً على ساشة قناة المنار. حينها، كان الحديث يدور على توقيع العقوبات الاقتصادية وتصفير صادرات النفط إبتداء من 1 مايو/ أيار من نفس العام. ولقد تحدثت أنه من الأفضل لإيران العودة إلى التفاوض لأن الرئيس ترامب ليس مهتماً كثيراً بالموضوع لا من الناحية الإيديولوجية ولا عقائدياً، بل هو فقط وعد إنتخابي قطعه على نفسه، أي الإنسحاب من الإتفاق النووي وإبرام آخر جديد، خصوصاً وأنه قد قام بتحقيق كافة وعوده الإنتخابية، منها إلغاء النافتا وإجبار الصين بالعودة إلى التفاوض وأيضاً دفع دول حلف شمال الأطلسي – الناتو إلى تسديد مستحقاتهم المالية، ولم يبقَ سوى إيران.

بالتالي، إن “التعنت” الإيراني كان خطأ، فلو أنها عادت إلى طاولة المفاوضات وإستعلمت أسلوبها بالمماطلة وتقطيع الوقت حتى نهاية ولاية الرئيس ترامب لكان أفضل بكثير من الواقع الحالي لأنها تعيش اليوم حالة من الضعف الشديد، بالإضافة إلى كل محور المقاومة العراق وسوريا ولبنان، بسبب العقوبات الإقتصادية، ويبدو أنه لا مخرج في القريب إلا إذا كان هناك ربحاً للوقت للوصول إلى شيء ما، ربما إنتاج قنبلة نووية في المستقبل إذا ما كان هناك تغيير في الإستراتيجية الإيرانية لهذه الجهة.

الأستاذ ميشيل ميلكي

يشرفني حضوري للمرة الأولى معكم ومع سعادة السفير، والشكر للدكتور علوان، وأشكر العمداء، بالأخص العميد زهر الدين الذي دعاني إلى هذه الحلقة الجميلة. هناك الكثير مما يقال من أشهر وإلى الآن، فهناك بحوث كثيرة توضع، وقرارات كثيرة تحدث؛ لذلك، سأبدأ بالداخل الروسي ومنه إلى الخارج.

بالنسبة لي ولكون زوجتي من قرغيزستان أحد دول الإتحاد الروسي، سأشير إلى ن “طريق الحرير” مر بنا منذ عشر سنوات، حيث وضع البنك الآسيوي أموالاً طائلة من أجل توسيع الطريق القديم بالإتجاهين، حيث أصبح لا يقل عرضه عن 40 متراً لكل إتجاه. أيضاً وبسبب قرب قرغيزستان من الصين، إرتأيت أنه من الضروري الإضاءة على هذا الأمر.

اليوم، تستفيد الدول من “طريق الحرير”، حيث تم إطلاق هذه التسمية على الطريق داخل العاصمة، وبات في فك منطقة طريق حرير ما، بالإصافة إلى أن هذه التسمية باتت ترفع على المتاجر الضخمة، والمدارس وغيرها من القطاعات. يحدث هذا بعدما كانت البلاد تعاني من الفساد كما هو حال لبنان اليوم؛ فرئيس الدولة إمتلك مصرفاً بإسمه. إضافة إلى ذلك، كانت القاعدة العسكرية الأمريكية، قبل إقفالها، تشحن لهم الأفيون، من أفغانستان، واللحوم المجمدة، من الخارج. لكن الشعب خيَّر الرئيس ما بين هذا الوجود أو أن الأمور ستتغير. من هنا، كانت إنتفاضة العام 2010 التي أتت برئيس مقربٍ من روسيا لحد الآن. اليوم، لا توجد أية قاعدة أمريكية في داخل قرغيزستان، فلقد طردوا منها.

نتيجة لذلك، بدأ الدخول الروسي إليها لا سيما عبر الإستثمار، فلقد ربحت موسكو مناقصة المطار، بالإضافة إلى مشروع ما كان يسمى بـ “الطريق الروسي” الذي بدأ إستكمال العمل فيه بعد 48 ساعة من توقف أعمال الشركات الأمريكية. أيضاً، يوجد محطات للمترو تربط البلاد بدولة كازاخستان وصولاً إلى الدول من الجهة الأخرى، مروراً بأفغانستان على الحدود.

أما بالنسبة إلى الداخل الروسي، إن ما حدث من إستقالة لرئيس الوزراء، ديميتري مدفيديف، لم تكن عن عبث بل الهدف منها تطوير خطة دفاعية جديدة بالإتحاد الروسي، وليس كما يشاع من أن الرئيس بوتين يريد الهيمنة على الحكم، فهو قد وقع قراراً يمنع تولي الرؤساء لأكثر من ولايتين متتاليتين، كما تم تحديد الشخص الذي سيخلفه ويتم تحضيره لهذه المهمة.

فيما يخص التوسع الروسي في الشرق الأوسط، يمكن القول بأنه بدأ بتوسع دبلوماسي سلمي هدفه فهم معتقدات البلاد العربية، التي إبتعدوا عنها ولم يكن يعلموا عنها شيئاً، بشكل عملي وليس عبر المعلومات كي يستطيعوا فهم الشعوب لإيجاد الطريقية المناسبة للتعامل معه. بالتالي، إن الإنفتاح الروسي على لبنان اليوم كبير والإنفتاح على المنطقة أكبر، لا سيما على السعودية، وأخرى جرت إلى إسرائيل، التي سبق وأن تأجلت بسبب عملية إغتيال اللواء قاسم سليماني، والتي تقف خلفها دوافع دينية أبرزها العمل على إستعادة أملاك الكنيسة الأرثوذكسية التي هدرت. كذلك، يريد الروسي الدخول إلى إسرائيل من باب آخر، وكان هذا المدخل حزب “أزرق أبيض”، الذي يضم في صفوفه حوالي 900 ألف يهودي من أصل روسي. وكما نعلم، لم يستطع رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، تأليف حكومة إلى اليوم لأن هذا الحزب، الذي إستحصل على ما نسبته 33% من الأصوات،  يقف في وجهه.

بالعودة إلى فترة الإنتخابات، كان نتنياهو يضع صورة كبيرة على حائط مبنى، من جهة عليها صورة الرئيس ترامب، ومن الجهة الأخرى صورة الرئيس بوتين، بما معناه أنه يريد إرضاء الطرفين. وهنا أقول بأن الكيان الصهيوني مجبر على إرضاء الطرفين لأنه كيان متعدد الألوان.

لدي مقولة لكارل ماركس دائماً ما أكررها تقول “الرجال يصنعون تاريخهم الخاص، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم. إنهم لا يصنعونه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، ولكن في ظل ظروف قائمة بالفعل.” اليوم، إن ما يحدث في المشرق، يجبر الروس على وضع دفاعات مع الدول لكي يتيح له التعامل معها على أساس دبلوماسي سلمي غير عدواني. أما تدخله بحرب سوريا، كان يعتبر تأسيساً لدور بلاده في الشرق الأوسط ككل أي تقديم “نموذج جديد”.

فبعد عملية إستهداف اللواء سليماني، كان الهدف الروسي هو تقويض مصداقية الولايات المتحدة تجاه العرب والخليج وتجاه العالم كله، هذا الهدف أو اللوبي بدأ بالتوسع. بالنسبة إلى ليبيا، إن التوافق التركي – الألماني – الروسي يشكل حلاً لكي تستطيع موسكو إسترجاع أموالها والإستثمارات التي كانت موجودة هناك، إضافة إلى عمليات إستخراج الغاز ونقله إلى أوروبا، كما هو الحال في أنابيب الغاز التي تصلها عبر أوكرانيا وألمانيا. في هذا الشأن، يمكن القول بإن “القارة العجوز” لا وجود لها بدون روسيا.

اليوم ومع الإنسحاب الأمريكي التكتيكي، يمكن القول بأنه إستطاع تحقيق هدف داخلي ونجح فيه. في المقابل، يقع عليهم لوم كبير وهو أنهم يتعاطون بالحرب، لكن الإقتصاد ليس حرباً. فمع وجود ترحيب داخلي أمريكي كبير لجهة الموارد المالية وتقليل نسب البطالة، إلا أن أعداد البلاد باتوا بإزدياد.

برأيي ورأي العديد من مسؤولي الخارجية الروسية، إن مقولة “الدفع مقابل الأمن”، خصوصاً بالنسبة إلى بعض الدول العربية، لم تعد تجدي نفعاً، لأن الدول لن تستطيع الإستمرار في مسألة الدفع لأن ذلك سيحتاج مطبعة مالية دورة العمل. كذلك، إن كان البترول مهماً إلا أن هناك مصادر أخرى باتت توازي تلك الأهمية. بالتالي، لا يمكن الإنفاق على حماية منتج بات له مثيلاً أو بديلاً.

من هنا، أعتقد أن الولايات المتحدة ستنسحب تكتيكياً وتدريجياً، ولن تطرد، لأنهم يتطلعون إلى قارة أخرى، أي أفريقيا، لا سيما في الأرجنتين من جهة المحيط الأطلسي، لا سيما وأن القيادة العسكرية الأمريكية للمنطقة تشمل معها أفريقيا. إضافة إلى أن الصين، التي سبقت روسيا إلى هناك، لديها إستثمارات كبيرة في “القارة السمراء”، وهو ما شكَّل حافزاً تأثيرياً للأوروبيين للتوجه إلى الإستثمار هناك.

من هذا المنطلق، لدى الأمريكيين مكان آخر للدفاع عنه، فشركات النفط، مثل “شيفرون”، لم يكن لديها منافس؛ أما اليوم، فهي باتت تواجه العديد من الشركات لا سيما الفرنسية والبريطانية والصينية، التي تعمل بأقل كلفة ممكنة لعدد من الأسباب أبرزها تشغيل السجناء كيد عاملة. أما بالنسبة إلى روسيا، فلقد أعطى الرئيس بوتين الدول الأفريقية مثالاً للمستقبل تمثل في مدينة سوتشي، وحثهم على أن تكون كل مدنهم “سوتشي”.

اليوم، لدى الرئيس ترامب 200 يوم ليحقق فيه أهدافه، أي الوعود الإنتخابية. والسؤال هنا: هل ستؤثر هذه الوعود على الإقتصاد الأمريكي لاحقاً خصوصاً مع وجود حديث يقول “هل تعلم أنك تمس بالإقتصاد أيها الأرعن!”؟ هذا سؤال يطرح للجميع.

للعلم، عندما كان أحد الحاضرين يتناول الموضوع التركي في ليبيا. والسؤال المطروح: لماذا تشارك كل من روسيا وتركيا بتسليح الأطراف المتصارعة في النزاع؟ الجواب، لقد أصبحت موسكو وأنقرة اللاعبين الرئيسيين في أي حل تفاوضي مستقبلي، حيث تم الإستيلاء على المبادرات الأوروبية في هذا الشأن. إن كلا البلدين دائن، بمليارات الدولارات، لنظام الرئيس الليبي الراحل، معمر القذافي، بحيث تودان إنقاذ بعض من هذه الأموال من خلال الإستثمار.

بالنسبة إلى روسيا، هناك رغبة في إبراز قوتها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي منطقة كان ينظر إليها، منذ فترة طويلة، على أنها جزء من نفوذ الغرب. وفيما يخص أنقرة، فإن لديها طموحات مماثلة، ولكنها تريد أيضاً أن تكون هناك دولة صديقة في البحر المتوسط لمساعدتها في المطالبة بإمدادات الغاز الطبيعي في المياه المتنازع عليها بين قبرص واليونان.

من هنا، إلتقينا جميعاً على ذات النقاط وعلى طاولة واحدة مدورة لكن السؤال: إلى أين سنصل؟ من الصعب القول إن الولايات المتحدة لن تتراجع، لكنها ستفعل. شكرا لكم.