تمتلك دول المنطقة العربية مقومات جيو – استراتيجية تمكنها من لعب دور مركزي في السياسة الدولية؛ وما تعيشه الساحة الدولية من أزمات جيو – سياسية راهنة يمثل تهدداً لأمن وإستقرار الدول العربية بصفة خاصة والأمن الدولي بصفة عامة؛ وفي نفس الوقت، تعتبر هده الأزمات والقضايا الجيو – سياسية فرصة للدول العربية لتعيد حساباتها إنطلاقاً من التجارب التاريخية والأحداث الراهنة لبناء رؤية إستراتيجية قائمة على العمل العربي المشترك، فلا يمكن أن تبقى الدول العربية خارج صناعة التاريخ ومخبر تجارب لإستراتيجيات القوى الدولية والقوى الإقليمية.
ومن القضايا الجيو – سياسية الأخيرة الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي سيضع الدول العربية في اختبار حقيقي لمفهوم الأمن القومي العربي. فهذا الغزو، يعتبر فرصة للدول العربية لتتعلم الدروس من تاريخ عربي حديث حافل بالغزو والتخلف والتبعية في ظل عالم البقاء فيه للأقوى، ولمن يكون أكثر واقعية لحماية أمنه القومي، وخاصة مع انتشار التحالفات العسكرية والتكتلات الاقتصادية.
والسؤال هنا: إلى متى تبقى الدول العربية لا تدرك أن مستقبلها مرهون بالعمل العربي المشترك من منطلق مقوماتها الجيو – استراتيجية؟ وأنها يجب أن تغتم فرصة الغزو الروسي لأوكرانيا لإعادة بناء موقف عربي يخدم مصالحها؟
أولاً: الدول العربية ومعادلات أمن الطاقة العالمي
يُعد ملف الطاقة من أهم الملفات التي ستؤثر في رسم خريطة القوى العالمية المستقبلية وفي صعودها أو هبوطها، لتعود من جديد أسعار المحروقات للإرتفاع بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا؛ فموسكو تعتبر أوكرانيا إمتداداً جيو – سياسي وأمني لها بإعتبار أن أنابيب الطاقة تمر عبر أراضي كييف، بنسبة 35% من نفط و30% من الغاز، إلى الاتحاد الأوروبي، كما أن الدول الأوروبية غير قادرة على إيجاد بديل للغاز الروسي وخاصة في ظل إرتفاع تكلفة نقله وعدم وجود ضمانات، وهي فرصة للدول العربية المنتجة لتوفير إمدادات الطاقة لتعويض الغاز الروسي، وخاصة أن للنفط والغاز الطبيعي أهمية إستراتيجية، فهو يشكل جزءاً رئيسياً من الاقتصاد العالمي ومن الصعب إيجاد بديل له بإعتبار أنه يشكل معظم مصدر الطاقة المستهلكة في المواصلات عالمياً، وتحتل فنزويلا أكبر الاحتياطي العالمي تليها الدول العربية، وفي مقدمتها قطر والجزائر.
إقرأ أيضاً: المآسي العربية في ضوء القانون الدولي
في هذا الخصوص، يشير الخبير ومستشار البنك الدولي، ممدوح سلامة، في كتابه “من أجل برميل النفط”، الذي تم نشره العام 2004، أن حرب الأسعار كانت من الأسباب المباشرة للغزو الأمريكي للعراق بحجة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكانت من أسباب الغزو الروسي لجزيرة القرم، ويضيف في دراسة أخرى أن العالم شهد 11 حرب دموية ما بين عامي 1941 – 2014 من أجل النفط.
ضمن نفس السياق، تتهم روسيا الولايات المتحدة الأمريكية بأنها تمارس ضغوطات إقتصادية لإضعاف الاقتصاد الروسي من خلال حرب الأسعار، كما تتهم إيران بعض دول الخليج – وفي مقدمتها السعودية – بأنها تستخدم منظمة “أوبك” لضرب الاقتصاد الايراني. وحتى الدول الأوروبية تجد نفسها اليوم أمام تهديد لأمنها الطاقوي بسبب التخوف من تأثر إمدادات الغاز الروسية، وخاصة أن معادلة أمن الطاقة العالمي اليوم تغيرت فلم تعد الشركات السبع الكبرى أو ما يسمى الشقيقات السبع: Esso-Shell-BP-Exon Mobile-Chevron-Gulf Oil-Texaco تسيطر على السوق العالمية للطاقة بسبب سياسة التأميم ونشوء شركات وطنية، مثل “أرامكو” السعودية ومجموعة “سينوبك” الصينية و”شركة البترول الوطنية الصينية” و”مؤسسة البترول الكويتية” و”غازبروم” الروسية، كما لا ننسى الدور الإستراتيجي الذي تقوم به منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك – OPEC، بقيادة السعودية؛ وحتى على من يراهن على أن النفط الصخري سيغر مستقبل الطاقة العالمي، فهذا الطرح يحتاج للكثير من الدقة بسبب تكلفة استخراجه المرتفعة، فلن تستطيع أمريكا تجاوز السعودية أو روسيا في الانتاج بل ستبقى كثالث أكبر منتج عالمي، لا بل وستبقى دولة مستوردة للنفط.
هنا، يجب الإشارة إلى أن الاقتصاد العالمي لا يستطيع التكيّف مع الانخفاض أو الارتفاع الكبير بإعتبار أن الصناعة والاستثمارات النفطية تمثل أكبر أركان الاقتصاد العالمي، فالسوق العالمية تحتاج ما بين 120 إلى 125 دولار للبرميل الواحد لموازنة ميزانيتها، حتى أن بعض الشركات النفطية الكبرى تريد تقليص إنتاجها مما يضع الانتاج العالمي في ضغط مما يستلزم ارتفاع الاسعار من جديد. كما يجب أن لا ننسى في هده المعادلة الإستراتيجية دور الشركات الوطنية لإنتاج النفط ومنظمة “أوبك+”، فالدول الغربية تستهلك أكثر 60% من انتاج النفط العالمي.
إن العمل العربي المشترك يحتاج إلى إعادة تفعيل المقومات الجيو – استراتيجية، وفي مقدمتها المقومات الجيو – اقتصادية وقضايا الطاقة، من منطلق رؤية إستراتيجية قائمة على الإدراك المشترك للمصالح الاستراتيجية والتهديدات الأمنية. كما يجب على الدول العربية أن تفكر بتوسيع رقعة الاستثمارات في الطاقتين النووية والمتجددة، وأن تستقل بقرارات منظمة “أوبك” ومشروع منظمة الدول المصدرة للغاز – المقدم من طرف الجزائر وايران والعراق وروسيا – من أجل أن تكون القرارات في خدمة مصالح الدول العربية، بالإضافة إلى العمل على الأمن الغدائي العربي وخاصة في ظل التزايد السكاني وارتفاع الاحتياجات من الغداء والماء، ناهيك عن تأثيرات الدعم المالي والاستهلاك الواسع مما يأثر على ميزانيتها. فهل تستطيع الدول العربية أن تدرك أنها الفرصة لإعادة تفعيل العمل العربي المشترك؟
ثانياً: العمل العربي المشترك وغياب الطموح الجيو – استراتيجي
أدى إختلاف الرؤى بين الدول العربية إلى إستحالة وجود قرار عربي موحّد يخدم المصالح العربية، بل مجموعة ردود أفعال وحسابات ضيقة وتحقيق مصلحة على حساب التضحية بمصالح دول عربية أخرى. فهناك إنقسامات عربية حول ملفات إستراتيجية، وأبرزها القضية الفلسطينية والتطبيع مع الكيان الصهيوني والأزمات الليبية واليمنية والسورية ومستقبل لبنان والملف النووي الايراني والدور التركي في المنطقة وأخيراً الغزو الروسي لأوكرانيا؛ فالدول العربية لا تفكر في المستقبل المشترك، وهو دليل على عدم وجود استراتيجية أو مشروع بناء دولة حضارية.
فكيف يكون للدول العربية مستقبل في ظل الهشاشة والإنكشاف الإستراتيجي العربي؟ فحتى محاولات ما بقي من ما يسمى جامعة الدول العربية ليس لها دور على المسرح العالمي، ما عدا مجموعة من التنديدات والنصائح الأخلاقية والخطابات التي ليس لها معنى في العلاقات الدولية، وذلك راجع لغياب العمل العربي المشترك وعدم القدرة على توحيد رؤية لتفعيل المقومات الجيو – استراتجية العربية وفي مقدمتها المقومات العسكرية كمشروع إنشاء جيش عربي موحّد، مع العلم أن بعض الدول العربية تمتلك مقومات عسكرية قوية عربياً – كالجزائر ومصر والسعودية. اليوم، تعتبر الجامعة العربية خارج صناعة التاريخ ولهدا لا نجد لها أي دور في القضايا الجيو – سياسية الراهنة، أو مؤخراً في الغزو الروسي لأوكرانيا، لأنها غير قادرة على تمثيل إرادات وإدراكات الدول الأعضاء.
فكيف يكون للدول العربية دور مركزي في العلاقات الدولية وهي تعيش التخلف والاستبداد والجهل؟ بل أكثر من هذا. يعيش العالم العربي صراعات داخلية مشتركة، وسباق نحو التسلح مثل ما تعيشه العلاقات الجزائرية – المغربية أو العلاقات السعودية – القطرية أو كثير من العلاقات العربية التي على حافة الانهيار؛ فالدول العربية تعيش صراعاً عربياً على من يقود ويهيمن على القرارات العربية، بل أكثر من هدا تعيش بعض تلك الدول حالة غير مفهومة إستراتيجيا للتسابق نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو ما يدل على إنهيار ما يسمى العالم العربي، إلا بعض المواقف المشرفة عربياً، كالموقف الجزائري والذي ستدفع ثمنه في المستقبل القريب.
إقرأ أيضاً: الأزمات العربية.. إلى أين؟
كما تجب الإشارة – في إطار غياب الطموح الجيو – استراتيجي العربي – إلى أن العمل العربي المشترك غائب حتى في الملفات والأزمات العربية، فضلاً عن ملفات استراتيجية، مثل الغزو الروسي الأوكراني، ما عدا بعض محاولات الدبلوماسية الإنسانية من طرف دولة قطر. كما أن الغزو كشف عن أزمة عميقة بين السعودية والإمارات مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة مع تراجع إلتزام هده الأخيرة بأمن دول الخليج، وانسحابها التدريجي من المنطقة، ويتجلى عبر عدة مواقف، على غرار رفع اسم جماعة الحوثيين في اليمن عن قائمة الإرهاب، وإلغاء أوتجميد الرئيس الأمريكي جو بايدن صفقات سلاح التي تم توقيعها مع كل من السعودية والإمارات، إضافة إلى سعيه للتوقيع على اتفاق جديد مع إيران بشأن برنامجها النووي، كما يمكن أن يطلب من إيران رفع انتاجها من الغاز الطبيعي لتعويض الغاز الروسي، ما يعني رفع طهران لسقفها التفاوضي من خلال طلب شطب “الحرس الثوري” الإيراني عن قائمة الارهاب الدولي، وهو ما يهدد أمن وإستقرار دول الخليج وفق التصور الأمني لمجلس التعاون الخليجي الذي زاد في إضعاف وهشاشة العمل العربي المشترك.
ومن منطلق العلاقة بين السياسة والاقتصاد، فهناك دول عربية ستكون أكثر تضرراً من تداعيات السعي الروسي لتفتيت الجغرافيا الأوكرانية عبر تأثر إمدادات القمح للمنطقة العربية، وفي مقدمتها مصر والجزائر ولبنان واليمن؛ فعلى سبيل المثال، تعتمد الجزائر على روسيا كمزود رئيسي، تليها أوكرانيا. في حيت أن بعض الدول التي ستجد نفسها مجبرة على الدخول في الحرب أو على الأقل مساندة طرف أو ذاك، كالسعودية والعراق وقطر والإمارات، كما لا ننسى أن معظم الدول العربية تعتبر روسيا المورد الرئيسي لصفقات السلاح.
مصدر الصور: رويترز – أسوشيتد برس.
باحث متخصص في الدراسات الدولية – الجزائر