نبيل المقدم*

“صفقة القرن” ليست وليدة اليوم، فلقد بدأ الكلام عنها بدءاً من العام 2016. إنها إخراج تنفيذي لـ “وعد بلفور” الذي أعطى كل فلسطين لليهود.. هذا المشروع، مر بمراحل طويلة ومتعددة. بدأ مع هجرة اليهود إلى فلسطين مروراً بنكبة العام 1948، لتأتي بعد ذلك إتفاقات الصلح المنفرد، التي قام بها بعض القادة العرب مع كيان العدو من “كامب ديفيد” وصولاً إلى “أوسلو” و”وادي عربة”.

في كل مرحلة، كان العدو يعمل بشكل تدريجي على قضم أرض فلسطين، وإقامة المزيد من المستعمرات عليها. صفقة كان مقرراً لها أن تُعلَن بعد مدة من الزمن وليس اليوم؛ لكن الذي سرّع إعلانها هو وجود هم مشترك بين رئيس الوزراء العدو، بنيامين نتنياهو، والرئيس الأمريكي، دونالد ترامب. فالأول يواجه خيار المحاكمة والدخول إلى السجن؛ والثاني كان يخضع للمحاكمة في مجلس الشيوخ، وكان مهدداً بالعزل من منصبه. إذاً الإثنان في مأزق، وللخروج منه كانا بحاجة إلى حدث ما يعيد الثقة، إليهما من قبل كل من الرأي العام الأميركي والإسرائيلي، فكانت “صفقة القرن” بالنسبة اليهما “الحل الأنسب” وخاصة بعد الضربة الإيرانية الكبرى لقاعدة “عين الأسد”، في العراق، والتي وضعت الولايات المتحدة في حالة من التخبط الشديد، وشكلت تحدياً غير مسبوق لواشنطن.

لم يُقدم عليها أحد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. هذه الضربة، عكست بشكل واضح أن إيران لا تمزح في قرارها بإخراج الولايات المتحدة من المنطقة، وقد لاحظنا كيف أعلنت الأخيرة، في أول المعلومات التي صدرت بعد الضربة الصاروخية، أن لا اصابات في صفوف قواتها، لتذهب بعد ذلك إلى الإعلان التدريجي عن الخسائر البشرية التي مُنيت بها من جراء الإستهداف الإيراني. اذاً، الولايات المتحدة كانت بحاجة إلى حدث كبير للتغطية على مأزقها هذا، فوجدت أن الحل الأفضل هو بالإعلان عن “صفقة القرن”، بالتنسيق مع كيان العدو في فلسطين. لكن الواضح حتى الآن أن الإعلان عن الصفقة لم يأتِ للرئيس ترامب ونتنياهو بالنتائج المرجوة. مثلاً، أتى الموقف الأوروبي فاتراً وغير متحمس. من جهته، لم تظهر ملامح الفرح على الرأي العام الإسرائيلي أو حتى الشعور بأنها قدمت له إنجازاً نوعياً. أما الفلسطنيون، وهم الأساس، فقد أعلنوا بشكل صارم رفضهم للصفقة، لكن الأمل يبقى في أن يكون موقف السلطة الفلسطينية البداية من أجل إعادة اللحمة بين الفصائل الفلسطينية.

مهما كانت الظروف، لا بد من النظر إلى هذا الموقف بإيجابية على الرغم من أنه لم يرتقَ إلى المستوى المطلوب لا سيما ان الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، قال إن كل تحركاته المناهضة لـ “صفقة القرن” ستكون “تحركات سلمية ولا تتوسل العنف طريقة للرد”. هذا الموقف، أراح كيان العدو لكن إنعكاساته ستكون سلبية بالنسبة إلى العلاقات مع صفوف الفصائل الفلسطينية، حيث سيُسهم بمزيد من الإنشقاق. وهنا يجب أن لا ننسى أن أبا مازن هو أحد عرابي “إتفاق أوسلو”، وهو كان المفاوض الرئيسي من قبل منظمة التحرير الفلسطينية لإنجاز الاتفاق.

أيضاً، تجب الإشارة هنا إلى موقف جامعة الدول العربية، والذي وإن كان يحمل في طياته بعض الإيجابيات، أتى دون المستوى المطلوب، إذ لا يجوز لها أن تكتفي فقط بالإعلان عن التمسك بإنسحاب “إسرائيل” من الأراضي التي احتلتها في العام 1967 كشرط لإقامة السلم العادل والشامل. حدث بمثل هذه الخطورة، كان من الممكن أن يدفع بالدول العربية التي لها علاقات مع إسرائيل للمبادرة فوراً إلى قطعها، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، كلن على الدول العربية، المهرولة نحو التطبيع مع كيان العدو، الإعلان عن وقف مساعيها خاصة إذا علمنا أن مبلغ الـ 50 مليار دولار، التي أعلن عنها الرئيس ترامب لتمويل الصفقة، 70% منها هي أموال عربية. إذاً، كان يقتضي صدور موقف عربي واضح برفض تمويل الصفقة، لكن موقف بعض الدول العربية جاء تكتيكياً وليس مبدئياً، والهدف منه امتصاص نقمة شعوبها.

أما ما هو متوقع من إسرائيل لوضع الصفقة موضع التنفيذ وخلق أمر واقع جديد من جانب واحد، فمن الممكن القول بأنها ستلجأ، أولاً، إلى محاولة تمريرها مستندة إلى الدعم الذي وفرته لها الولايات المتحدة، والتي تمثل “شرعية القوة” وليس الشرعية الدولية، المتمثلة بالأمم المتحدة ومجلس الأمن. أما نتنياهو فقد يلجأ إلى الكنيست لإعلان شرعية هذا الإتفاق وذلك كمقدمة لضم المزيد من الأراضي الفلسطينية إلى كيانه من أجل إعلان يهودية الدولة لا حقاً.

في المحصلة، تجب العودة إلى الميثاق الفلسطيني الموضوع قبل العام 1973، أي عام اعتلاء ياسر عرفات منبر الأمم المتحدة حاملاً غصن الزيتون، وداعياً إلى اعتماد الكفاح المسلح طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين. أيضاً، على أبي مازن إعادة ترتيب واقع منظمة التحرير الفلسطينية من جديد بحيث يتم إدخال الفصائل التي تمارس المقاومة إلى صفوفها.

في الختام، أن مشروع “صفقة القرن” لا تشمل خطورته فلسطين وحدها، بل على المنطقة بأسرها، فكل الأحداث الذي سبقتها في المنطقة هي بمثابة التمهيد لهذه الصفقة.

*كاتب وصحفي لبناني

مصدر الصور: القدس العربي –  جريدة النهار.

موضوع ذا صلةخرافة السلام في “صفقة القرن”