د. بكور عاروب*

تقف تركيا أمام إشكالية كبيرة وهي أنها مجبرة على إيجاد الحل للأزمة السورية وإن كانت تماطل لأسباب متعددة. ولأن سوريا بقيت ذات قوة مركزية منذ العام 2015 وحتى الآن، وعى التركي إلى حقيقة أن سوريا الموحدة هي خيار أساسي لكي تكون أنقرة بأمان وبعيدة عن أي مستقبل لحركة إنفصالية ضمن أراضيها حيث باتت تؤمن تماماً أن مصالحها بخير طالما هي إلى جانب دمشق.

فخلال السنوات السابقة وللأسف، رسم النظام التركي سياسة خاطئة معتقداً أنه يستطيع من خلالها إيجاد مساحة له لإستغلال الوضع، واقتناص فرصة تاريخية لإحياء بعض الأحلام السلجوقية والعثمانية القديمة.

تسهيل وتنسيق

تظهر الإشكالية، التي يجب ان يعيها كل متابع سياسي، في أن تركيا لا يمكنها أن تكون صريحة في أية معركة مع “الجهاديين” أو المهاجرين أو الإرهابيين الذين سهرت خلال سنوات طويلة على إدخالهم إلى الأراضي السورية، حيث شكلت أراضيها نقطة مهمة لعبورهم. فمناطق العبور تلك دائماً ما تكون مناطق حرجة، وتكون العلاقة فيها راسخة وتصل إلى مرحلة عضوية ما بين دول العبور والقافلة الجهادية المتنقلة في العرف الإسلامي.

هذه القوافل، وخلال عبورها من دولة أخرى، تكون لها مراكز وغرف أمنية خاصة بها، إلى جانب غرف مراقبة ومؤسسات تسيير لوجستي؛ بالتالي وفي حال حصول أي إنقلاب مفاجئ ومباشر، ستكون ردة فعلها تجاه دولة العبور قاسية جداً وقد تتسبب بمشاكل كبيرة. إضافة إلى ذلك، إن العلاقات الإيجابية ما بين السلطات والأجهزة الأمنية في دول العبور، كتركيا وغيرها من الدول، والقوافل الجهادية المتنقلة تفرض نوعاً من العلاقات الإيجابية التي تستطيع من خلالها الإستثمار في عمليات الإرهاب.

هذه الحركات ومن خلال إنطلاقتها ضمن مناطق هذه الدولة، تبني مؤسساتها الخاصة. هنا، لا أحد ينكر بما فيها السلطات التركية، أن هناك مؤسسات ومكاتب أمنية خاصة بـ “هيئة تحرير الشام” (“جبهة النصرة” سابقاً)، كما أن هناك مكاتب خاصة لتنظيم “داعش” والكثير من الفرق الإسلامية، وخصوصاً التركستان بحكم العلاقة العضوية التي تجمعهم بأنقرة إذ يقدر عددهم بما لا يقل عن 20 ألفاً استقدمتهم تركيا كلاجئين عن طريق مؤسسات إنسانية في ظاهرها لكنها منظمات خدماتية خاصة للإرهابيين.

مصير محتوم

الآن، تريد تركيا تنفيذ إتفاقات “سوتشي”، والهجوم العسكري العنيف خلال المرحلة الماضية وبداية العمليات العسكرية، كان عبارة عن رسالة قوية للجانب التركي بأن القرار واضح وصريح من القيادة السورية ومن حلفائها، وتحديداً الروسي، بالقضاء على التنظيمات الإرهابية في منطقة إدلب موضوع لم يعد من الممكن السكوت عنه، ويجب على الجميع أن يفهم بأن منطقة خفض التصعيد الخامسة، في إدلب والأرياف المجاورة لها، هي عبارة عن إتفاق مؤقت ومحدد، وسيكون مصيرها في نهاية المطاف كمصير سابقاتها من مناطق خفض التصعيد.

من هنا، يحاول الجانب التركي اعتماد سياسة “اللعب على الحبال”، وهي تعتبر سياسة رسمية، حيث يعتقد أنه ومن خلالها يستطيع الحصول على ما يريد. غير أن الواقع العام يشير إلى أن تلك السياسة غير مجدية إذ لا يمكن له الخروج من بوتقة الناتو، أو حتى عن نطاق السيطرة الأمريكية، ولدي اعتقاد بأن منظومة صواريخ “إس.400” لن تصل إلى تركيا؛ وإذا تم هذا الأمر سيكون هناك إنقلاباً في العلاقات التاريخية الدولية. فالولايات المتحدة ضغطت ولا تزال تضغط على الإقتصاد التركي، في ظل هبوط كبير للعملة، وهذا مؤشر خطير جداً خصوصاً وأن الأتراك يدركون أنهم الآن في حالة ركود إقتصادي غير مسبوق وأنهم أمام إنهيار.

تركيا اليوم أمام واقع محرج جداً، فهي لم تعد تستطيع الإستمرار في دعم حركة إنفصالية ضمن الأراضي السورية لأن هذا الأمر سينعكس عليها سلباً، وهي محكومة إلى أن تعود لـ “إتفاق أضنة” شاءت أم أبت. فالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووزير خارجيته، سيرغي لافروف، ووغيرهم من القيادات الروسية المتابعة للشأن الدولي أشاروا إلى أن السقف الأعلى للعلاقة السورية – التركية هو أن تعود أنقرة إلى تنفيذ “إتفاق أضنة” للعام 1998.

البحث عن مخرج

إن سياسة “الرقص على الحبال” التي نجح فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لفترة ما، سوف تنتهي قريباً، إذ يجب أن يعلم الجميع أنها ليست من دخل إلى حلف الناتو، وإنما حلف الناتو هو من دخل إليها. فبعد فترة ولاية رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس، العام 1959، وكان من الضروري بالنسبة إلى الحلف أن يكون له تواجد قوي في تلك البقعة بوصفها بداية الفاصل ما بين أوروبا وآسيا، إلى جانب قربها من منطقة الشرق الأوسط.

يبدو من الواضح تماماً أن تركيا مجبرة على التخلي عن هذه السياسة. قريباً، سينتهي حكماً نفوذ أنقرة في مناطق خفض التصعيد، حيث لم يعد مقبولاً الإستمرار على هذا المنوال خصوصاً لجهة وجود تلك الفصائل وعدم حل إشكالية بقائها، إذ أنها ستشكل مبرراً قوياً للمشروع الإنفصالي في منطقة شرق الفرات وهو ما يزعج تركيا ولا يمكن لها مواجهته أبداً على الإطلاق.

تحتاج تركيا إلى حل هذه المعضلة، ولكي تتخلص من هذا الأمر عليها نقل العناصر إلى مكان آخر وهو ما ستقوم به حكماً وقد تكون الوجهة نحو ليبيا، أو أية مناطق أخرى، تمهيداً لحل سياسي أو لتفعيل “إتفاق أضنة” إلى واقعه الطبيعي، وبدون ذلك سيستمر القلق واستمرار الواقع الإرهابي في الشمال السوري تحديداً. من هنا، أعتقد أنها جادة في نقل فصائلها إلى خارج الأراضي السورية بشكل آمن، فأي تحرك غير مدروس ومراقب سيشكل عبئاً على الحكومة التركية وسلطاتها، لأن هؤلاء الإرهابيين يعلمون على الجغرافيا التركية بشكل كبير.

من خلال ما سبق، تشكل ليبيا مخرجاً مهماً جداً للجانب التركي، لا سيما من الناحية الأمنية التي تعول عليها أنقرة الآن لإنقاذها من الحرج. لكن هذا الأمر ليس مؤكداً او واضحاً بعد لأن واقع الحال يقول إن المعركة في ليبيا ليست سهلة، فالمشير خليفة حفتر يقف خلفه تحالف متين وقوي جداً، ولا يمكن أن يتخلى عن مسألة حل مشكلة الإخوان المسلمين. والحقيقة العامة التي يجب أن ينظر إليها الجميع بعين دقيقة وواعية هي أن التحالف الذي قام ما بين الولايات المتحدة والإخوان المسلمين وتركيا وقطر وبعض دول المنطقة، والذي وضع الجماعة على رأس بعض الأنظمة مع بداية “الربيع العربي” وتأسيس تنظيم “داعش” بالإتفاق معه، كان أساسه التنظيم العالمي والمخابرات البريطانية اللذين أنشأ أغلب تلك الفصائل الجهادية ذات التوجهات المختلفة.

تقسيم الفصائل الجهادية

من هنا، من الضروري التطرق إلى أنواع الفصائل “الجهادية” تلك والتي تنقسم إلى ثلاثة فروع؛ الفرع الأول، جهات تقاتل العدو المحلي، على غرار “فيلق الشام” و”أحرار الشام” وغيرهم من الفصائل داخل سوريا، وبعض الفصائل الموجودة في ليبيا وغيرها من الدول. والفرع الثاني، تمثل الفصائل التي تؤمن بقتال المحلي وقتال القريب، كـ “جبهة النصرة” و”هيئة تحرير الشام”. أما الفرع الثالث الأخير، فهي الفصائل التي تؤمن بقتال القريب والبعيد، كتنظيمي “داعش” و”القاعدة” بشكل عام.

بالعموم، تشكل تلك التنظيمات الإسلامية رافداً بشرياً يدعم بعضها الآخر، فحتى التركستان يعتبر حزب التحرير الإسلامي خزاناً إستراتيجياً له، كما اعترفت القيادة الإخوانية منذ فترة طويلة وبشكل مباشر، أنهم يعتبرون هذا الحزب خزاناً استراتيجياً لهم أيضاً ولكافة الحركات الإسلامية الموجودة في المنطقة. هذا الدعم المتبادل ما بين الحركات الإسلامية يمكن له أن يعطينا دليلاً على أنه يمكن نقل القافلة الجهادية، وخاصة تلك الفصائل الموالية لتركيا، فهم في الحقيقة قد جهزوا أنفسهم لهذا الأمر، والجميع يذكر صدور بيان رمزي لـ “داعش”، في نهاية معركة الباغوز، أشارت فيه إلى أن “معركة الباغوز ليست آخر معركة، ترقبوا قتالنا في الصين، وترقبوا قتالنا في الجنوب الروسي”؛ بالتالي، إن موضوع نقلهم إلى ليبيا فهو موضوع وارد وقائم ويمكن أن يتم بغض النظر عن مسألة تحقيق نتائج ما.

ختاماً، إن سوريا المركزية عادت شاء من شاء وأبى من أبى، ويبقى قطاع إدلب والأرياف المجاورة لها والشريط الشمالي مرحلة مؤقتة ستنتهي قريباً، فالقرار واضح لدى سوريا وحلفائها. وكما أشار الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في بداية الأزمة السورية عندما قال “أصدقاؤنا صادقون، وأصدقاؤكم غير صادقين وغير آمنين”. على تركيا أن تعي هذه المسألة تماماً.

*باحث في الشؤون التركية والإسلامية – سوريا.

مصدر الصور: مصر العربية – الشرق الأوسط.