السفير د. عبدالله الأشعل*

إن تحديد الموقف من “صفقة القرن” يتطلب معرفة ماهيتها. بإيجاز، إنها خاتمة المشروع الصهيوني الذي لم يُخفِ يوماً أنه يريد كل فلسطين، فهشاشة العالم العربي واختراق إسرائيل له خاصة، عن طريق حكامه، ما أذهل قادتها هو إنفساخ العالم العربي أمامها. لذلك، إن كل التفاصيل الواردة، التي أسماها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “خطة السلام الأمريكية للشرق الأوسط”، هي النص الذي قدمته إسرائيل بالتعاون مع صهر الرئيس ترامب، جاريد كوشنر، ووافق عليها على الفور وأعلنها في واشنطن بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي لم يصدق أن عهده سوف يشهد خاتمة المشروع الصهيوني.

إذا، لا معنى للنظر في الخطة أو التفاوض على أجزاء منها لأن هدفها في النهاية هو الإستيلاء على الأرض، وطرد السكان. فإبراز الفلسفة التي يقوم عليها المشروع الصهيوني هي أن فلسطين كانت تاريخياً لليهود يحث طردهم الفلسطينيون واغتصبوها منهم، وأن الله أراد أن يجمعهم في “أرض الميعاد” ويسترد ملكهم، وفقاً لنظرية الإسترداد. لذلك، لم تعترف إسرائيل يوماً بأنها دولة محتلة أو بأنها ترتكب الجرائم ضد الفلسطينيين، وإنما تجاهد في سبيل تحقيق “هدف نبيل”، وأن كل من سقطوا في هذا الجهاد هم شهداء.

وبما أن الحكومات العربية لا تُظهر حقيقة المشروع لشعوبها، وجب علينا أن نبسط الأمر لها حتى تحدد موقفها من هذه الصفقة، ولذلك جعلت عنوان المقال “لماذا أرفض صفقة القرن” حتى يكون هناك مجال للإقتناع أو المناقشة حول هذا الموضوع الخطير خاصة وأنه مشروع صهيوني وتنفذه أطراف عربية بالتمويل والأرض حتى تتمدد إسرائيل بهدوء على كل فلسطين.

أما الأسباب الموجبة التي أبني عليها رفضي لـ “صفقة القرن” فهي عشرة أسباب على الأقل، وأبرزها:

1. إن تمكين إسرائيل من كل فلسطين جريمة قانونية وأخلاقية؛ إذا كان قيامها، العام 1948، هو جريمة القرن العشرين، فإن الصفقة هي جريمة كل القرون وهي “أم الجرائم”.

2. إن إسرائيل القوية المنفردة ففلسطين هي أكبر تهديد لمصر خاصة، قبل المنطقة العربية، إذ ستستقدم يهود العالم إلى فلسطين وسيكون الضرر الأكبر على مصر، التي صمم المشروع الصهيوني للقضاء عليها. بالتالي، نحن نرى أن هذه الصفقة، مع ملف “سد النهضة”، تشكل جزءاً من المؤامرة على بقاء مصر على الخريطة، ولذلك يجب على كل مصري وعربي أن يرفض هذه المؤامرة.

3. إن الصفقة هي تتويج للمشروع الذي احتشد بالأكاذيب والخدع والخيانات، فخدع العالم وانخدع به الحكام العرب والشعوب والتصديق بتقسيم فلسطين إلى دولتين. ففي الوقت الذي قبِل الفلسطينيون بهذه التضحية، لم يدركوا أن اليهود يفكرون في طردهم من كل الأرض. ولهذا، أرفض عنوان الخديعة والتدليس بسابقة هي الأخطر في التاريخ.

4. اكتمال محنة الفلسطينيين بهذه الصفقة بحيث سيصبحون كلهم لاجئين وليس فقط من إغتصبت إسرائيل أراضيهم، الموجودين في الدول المجاورة؛ بالتالي، يتم إسقاط حلم “حق العودة”، وإذا بهم في الصفقة يحلمون بمجرد البقاء على قيد الحياة قبل أن يصبحون عبيداً في أرض غيرهم، وتحت “سياط” اليهود الذين يؤثرون على مناطق اللجوء الجديدة.

5. إن الصفقة مناقضة للمنطق، الذي يقضي بأن كل فلسطين للعرب وأنه لا مكان لليهود فيها. فإذا بهم، وهم الذين دخلوا متذللين، يريدون طرد صاحب البيت بعد أن تحمل ضيافتهم وعنتهم. إنها قضية أخلاقية دقيقة لا يمكن التسليم بها أو السكوت عنها خصوصاً وأنها تتضمن التسليم بضياع القدس والمسجد الأقصى، وهذا ما يعد تفريطاً بـ “ثالث الحرمين” وهي حرمة دينية.

6. إن شعوب الأقاليم، التي يُفترض أن يرحلوا إليها خارج بلادهم، من المؤكد أنها ستطرد الفلسطينيين منها، إن عاجلاً أم آجلاً. بذلك، تخلق إسرائيل صراعاً مفتعلاً بين الدول المجاورة والفلسطينيين، وهو وما يعد، إذا تم القبول بالصفقة، تسليماً بصحة النظرية الصهيونية وجرائمها.

7. إن مضمون الصفقة يؤدى إلى الغاء الأردن لأن الفلسطينيين، الراحلون إليها، سيجعلون هذا العرق مسيطراً على كل سكان الأردن، ولا عبرة بما ورد في الصفقة من ترتيبات مؤقتة، كما ورد في نصوصها، على دولة فلسطينية مؤقتة لا علاقة لها بفكرة الدولة.

8. إن الصفقة تعد انتهاكاً كاملاً لكل قواعد القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، وتهدر سلطة القانون الدولي فاتحة الباب أمام الفوضى في العلاقات الدولية، التي تقوم أساساً على نظرية القوة أو النظرية الواقعية.

9. إن هذه الصفقة لا يمكن تجزئتها، فالحديث عن “المبادرة العربية للسلام”، كبديل لها، يشكل محاولة لتسهيل تطبيقها. ثم إن الذين يطرحون هذا البديل، لا يبتعدون عن الشبهة وخدمة كل من إسرائيل وواشنطن.

10. إن الصفقة هي خطة من طرف الجلاد وتفرض على الضحية القبول بها، ومن خلال القهر تحت ستار المفاوضات، فلا شك أن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس – أبو مازن، يُهدد إما بالقبول أو بالإستبدال بمن يقبل، وهو جاهز. إن الصفقة هي قطع لفلسطين عن الجسد العربي الذي لن تقوم له قائمة بعدها.

برأيي، يُتوقع أن تستفز هذه الصفقة الشعوب العربية، التي تشعر بأن حكامها هم السبب في استضعاف دولهم، وربما تشهد المنطقة بركاناً شعبياً عاماً بدأت بوادره برفض الطائفية في لبنان والعراق، علماً بأن كل الدول العربية تعاني من طائفية الحكام الذين يحتكرون السلطة والثروة ويتساهلون في حماية الأوطان مقابل الإحتفاظ بمناصبهم وهذا الأمر يعد من أهم مكاسب المشروع الصهيوني خلال سبعين عاماً.

لكل هذه الأسباب وغيرها، أرفض “صفقة القرن” التي تعني إلغاء العروبة وإحلال الصهيونية محلها بكل ما يترتب على ذلك وأبرزها الغاء إسم المنطقة العربية وإحلالها بعبارة “الشرق الأوسط الجديد”، الذي تحكم فيه إسرائيل كل هذه المنطقة. كما أن انفرادها بفلسطين وإخضاع الدول العربية لمشيئتها سيؤدي إلى صراع عسكري محموم بين الطامعين في “الجثة العربية”، وأبرزهم إيران وتركيا.

هنا، أقول كما قال الخلفاء الراشدين، عثمان بن عفان (ض)، عندما حوصر في منزله وظن أن علياً هو الذى دبر له المكيدة فأرسل إليه يقول “فإن كنت مأكولاً فكن خير آكلي.. وإلا فأدركني ولما أمزق”. فلما قرأ عليٌ (ض) هذه الرسالة بكى على سوء ظن عثمان به على غير الحقيقة، وأرسل ولديه الحسن والحسين لإنقاذه ولكنهما للأسف وصلا بعد أن حل القضاء بعثمان (ض).*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: نداء الوطن – أرشيف سيتا

موضوع ذا صلة: مستقبل المنطقة على ضوء “صفقة القرن”