د. قصي عبيدو*
إن الثقافة هي نزعة نفسية أصيلة لأن الإنسان المثقف يحب الغوص في كنه الأشياء ومعرفة خفاياها وأسرارها. ولأن الثقافة جانب فاعل وحيوي يشمل توجه الفرد المثقف قاطبة. ومن البديهي أن حب المعرفة يلعب دوراً أساسياً في إنشاء مراحل التثقيف ويترك أثراً واضحاً لكل فرد في المجتمع.
وللبشرية تاريخ غني في إبراز أولى مراحل التفكير في الوجود لأن الثقافة في الأصل ممتدة الجذور إبتداءً من العصور القديمة عندما إستطاع الإنسان الأول أن يعقل مشاعره وأفكاره عن طريق إبتكار اللغة ومن ثم الكتابة.
لذلك، نرى أن الثقافة ضرورية لتنقلنا من واقع “الأنا” المتوحدة إلى الفعل الجمعي كونها القاسم المشترك في كل التكوينات الإجتماعية وهي ذات أثر عظيم في حياة الشعوب والأمم. فالشعوب التي تحيي ثقافتها وتحولها إلى سلوكاً عملياً على الأرض هي أكثر الأمم القادرة على الريادة. وبالتالي، نرى أنه من هنا ندرك الأثر الذي تحدثه الثقافة في مجرى حياة الفرد والمجتمع على مستوى الشعوب والأمم.
ونرى أن الثقافة لا بد أن تكون فاعلة ومؤثرة في المحيط ومتأثرة به أيضاً كونها نشاط جمعي لا يقصي ولا يحيد أية فئة كانت كونها بالأصل يجب أن تكون متوافقة في الأصل مع البيئة الزمانية والمكانية أو قد تتعداها كونها حاجيات إجتماعية تشمل منحنيات عدة. ولا يغيب عنا أن الثقافة في الأصل هي عملية التمازج الفكري واللغوي والبيئي أيضاً حيث أنها توسع المدارك وتوسع مدى الرؤية وتفتح أفاقاً بعيدة واسعة للعقل.
ولكي تكون الثقافة هي إرث فعلي فهي مرتبطة بالأخلاق فلا ثقافة من دون أخلاق وإلا لتحول المجتمع إلى حياة الغابة من جديد. فالثقافة هي عملية بحث وإستقصاء عن مدلولات الأشياء وهذا بالطبع يقودنا إلى سؤال عن متى يكون الإنسان ذات ثقافة أصيلة ليكون بها صاحب رؤية ونقد بناء.
ومن هنا، يتدخل عنصر البيئة إذ أنه حين تتقلص ملامح الإنسجام مع البيئة والثقافة المنشودة تتحول إلى ردة فعل عكسية تجعلنا ننسحب من جديد إلى العوالم المظلمة ونستجلب الخرافة، ونتنفس الأسطورة، ونهيم في الظلمات مع العوالم السحرية.
مثال ذلك ما حصل خلال الحرب على سوريا من قتل وذبح وتقطيع لرؤوس وتدمير للبنى التحتية وإستجلاب آفات المجتمعات الغربية والعربية ليقاتلوا في سوريا والعراق تحت عناوين براقة ظاهرها شعارات وباطنها سلب للحريات وتدمير للذات فما حصل هو كابوس ينتقل من دولة لأخرى بسبب الجهل وعدم الثقافة والمعرفة وإرتهان هؤلاء لقوى الإستعمار الإنتهازية والرجعية في المنطقة والعالم.
في العام 2019، كنا نأمل ونحن أن نحكم قبضتنا على الذرَّة وعناصر الضوء وأن تمتد قدراتنا لأبعد من هذا ونسافر عبر الزمن ولكن للأسف مازلنا نغرق في وحل الخرافة وتصدعات الجهل. فإذا كانت البندقية أفصح لساناً من قانون نيوتن والفكر الإرهابي أفصح لساناً من قانون الجذب العام، فنحن سنبني نظريتنا على أساس لكل فعل رد فعل أي بمعنى لكل عنف رد عنف، وبعد فترة من الزمن سنبطل قانون الطرد المركزي ونقوم بتكثيف جزئيات الفساد ونطرد مصلحة الوطن والمواطن.
فالجهل بالمجمل ما هو إلا نتاج خبيث لإنعدام الوعي والثقافة يجب علينا أن نعي ونفهم وندرك أين تقف بنا المصلحة ونأخذ بالحسبان كل عوامل التقدم والنهوض لنردم هذا الصدع التاريخي ونمضي قدماً في ركب العصر لنجد أنفسنا بالتأكيد في مقدمة الشعوب المتحضرة والأكثر أمناً وأماناً، ونصدر للعالم الثقافة والوعي الذي هو عنوان الحضارات السالفة والحاضرة والمستقبلية ولتذكرنا الأجيال القادمة بما خلفنا ورآنا من إرث حضاري ثقافي.
*كاتب ومحلل سياسي سوري.
مصدر الصور: الأمم المتحدة.
موضوع ذو صلة: كيف تؤدي خسارة “الثقافة المادية” إلى خسارة “وحدة المجتمعات وتماسك هويتها”؟