حوار: سمر رضوان

وقعت الولايات المتحدة وحركة طالبان الأفغانية إتفاقاً مشتركاً برعاية قطرية في الدوحة، على أن ينهي الإتفاق حرباً دامت 19 سنة، سقط خلالها آلاف القتلى من المدنيين إضافة إلى الجنود الأميركيين وعناصر لحركة طالبان. لعل أهم نقاط الاتفاق إلتزام الجانبين بوقف إطلاق النار والهجمات حقناً للدماء إلى جانب تحرير السجناء والرهائن، الأمر الذي يدلل على وجود أمر خفي في طيات الاتفاق خصوصاً وأن رئيس أفغانستان، أشرف غني، أعلن بأنه لن يطلق سراح السجناء لأن الاتفاق تم بين الأمريكيين وطالبان وليس مع حكومة كابول الشرعية.

عن إتفاق الدوحة بين طالبان وواشنطن، ومدى جدية الطرفين في تنفيذ بنود الاتفاق، وهل هو خطة أمريكية قبيل الانتخابات الرئاسية، وهل ستلتزم طالبان بهدنة الـ 14 شهراً، وما تأثير هذا الإتفاق على دول الجوار خصوصاً، ودول أسيا الوسطى بشكلٍ عام، سأل مركز “سيتا الأستاذ سابتين أحمد دار، المحلل السياسي والأمني – باكستان، عن كل هذه الأمور وغيرها.

سلام مؤقت

قبل الدخول في كافة التفاصيل، أود أن أبدأ بمسألة مهمة جداً وهي سبب اقتناع الولايات المتحدة بضرورة المصالحة مع طالبان. أولاً، من المهم أن نفهم طبيعة الحرب التي نحن بصددها لا سيما منذ عملية “الراية المزيفة “الأمريكية في 11 سبتمبر/أيلول 2001، حيث إستخدمت واشنطن الحدث كذريعة لتعزيز أهدافها الإستراتيجية في القارة الأوراسية الصاعدة. فلقد كانت إحدى أهم أهدافها التسلل إلى أفغانستان ما بعد الشيوعية، والإطاحة بحكومة طالبان الشرعية، وتثبيت الديمقراطية، أو “نظام الدمى” الموالي للغرب، وإلغاء نظام الحكم الإسلامي داخلها، واستخدام موارد البلاد لتعزيز “إمبراطوريتها” من خلال متعددة الشركات المتعددة الجنسيات، واستخدام أراضيها عبر “الحرب بالوكالة” للتسلل إلى باكستان وزعزعة استقرارها إلى حد أن وصلت فيه الأمور لإعلانها “دولة فاشلة” وإخلائها من الأسلحة النووية لصالح حليفتها الإستراتيجية المفضلة في المحيط الهندي، أي الهند، والدولة الصهيونية الإسرائيلية، في الشرق الأوسط.

هذا هو جوهر الأزمة ضمن السياق التحليلي للتهديدات الأفغانية – الباكستانية. لكن الأهم من ذلك هو أن حرب أفغانستان لم تكن حرباً من أجل أهداف استراتيجية كبرى للولايات المتحدة وحلفائها فحسب، بل بين نظامين متنافسين؛ النظام الديمقراطي بقيادة الغرب، الذي فشل داخل أفغانستان بنفس الطريقة التي فشلت بها الشيوعية، ونظام الحكم الإسلامي بقيادة طالبان، الأكثر ملاءمة للبلاد. فلقد رفضت الولايات المتحدة الإعتراف بحركة طالبان كقوة مسيطرة منذ اليوم الأول لها؛ ولكن بعد مرور 19 عاماً، تحولت الأمور لصالح الحركة. ووفقاً لإحصائيات العام 2020، تسيطر طالبان على مساحة تقارب الـ 75% إلى 80% من أفغانستان، بإستثناء العاصمة كابول، وبالتالي لديها ورقة مهمة للمساومة مع الولايات المتحدة. جاء ذلك بعد عقب الهزائم “المهينة” التي ألحقتها الحركة بحلف الناتو من خلال حرب العصابات، منذ العام 2001.

إن حركة طالبان، كقوة، هي العنصر الوحيد الذي إستطاع القتال ضد الإحتلال الأمريكي غير المشروع لأفغانستان، والآن تبرز كدبلوماسي مخضرم. عند النظر إلى “إتفاق الدوحة”، يظهر لنا أنه واضح وصريح، إذ تعتقد الولايات المتحدة أنه من دون إشراك طالبان بالعملية السياسية يبقى حل أزمة الأفغانية سيكون أمراً مستحيلاً. ما يهم الآن هو فهم طبيعة الإتفاقية التي تم توقيعها من قبل الطرفين. هل الولايات المتحدة صادقة في سحب قواتها؟ وما الذي كسبته طالبان من الصفقة؟ هذا الإتفاق لا يختلف، إلى حد ما، عن اتفاق جنيف لعام 1988 حيث إستطاعت الولايات المتحدة ببساطة ترك الفوضى داخل أفغانستان، ومهدت الطريق لإضطرابات أخرى أسفرت عن حرب أهلية بين الأطراف الداخلية المتنافسة. عند النظر إلى بنود الإتفاق، نرى بوضوح أن واشنطن لم تعترف، مرة جديدة، بـ “إمارة أفغانستان الإسلامية” كدولة شرعية وتمثلها حركة طالبان، الإرهابية بنظرها.

من خلال ما سبق، يمكن القول بأن مسألة استعادة السلام والإستقرار، من خلال بنود الإتفاق، هي أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة، لأن الولايات المتحدة طلبت ولم تفاوض، فهي تريد الأمور على طريقتها. وعند مقارنة مسارح الحروب الأمريكية الأخرى التي تخرق قواعد القانون والإتفاقيات الدولية، نرى بأن سحب الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، لقواته من العراق، في العام 2011، لم يدم طويلاً، فلقد استخدم “بطاقة السلام” هذه حتى انتهاء حملته الإنتخابية الرئاسية، العام 2012، للفوز بولاية ثانية. إلى ذلك، إستأنف الجيش الأمريكي، العام 2014، إحتلاله للعراق، ولغاية يومنا هذا. أيضاً، من المرجح أن يستخدم الرئيس دونالد ترامب “اتفاق السلام” هذا ضمن حملته الإنتخابية وللكسب وقت، أي 14 شهراً مدة وقف إطلاق النار كما هو متفق عليه، لكي تتمكن قوات الجيش والإستخبارات المركزية “شبه العسكرية” من إنشاء المزيد من القواعد العسكرية داخل أفغانستان. وإذا ما عدنا للعراق، نرى بأن الآلاف من أفراد القوات الأمريكية، التي تسيطر على أجزاء استراتيجية من البلاد، لم تغادر. هل ستكون أفغانستان مختلفة؟ لا أظن ذلك.

تصنيف غير عادل

يستند طلب الولايات المتحدة، من خلال الإتفاق، على أمرين وهما الإبتعاد عن تنظيم “القاعدة” والسجناء، بحسب المعلومات المخادعة لوكالة المخابرات المركزية التي لا تعترف بها الولايات المتحدة أمام العامة. هنا، لا بد من الإشارة إلى مسألة مهمة وهي أن حركة طالبان وتنظيم “القاعدة” هما شيئان مختلفان. الأولى هي مقاومة إسلامية قومية أفغانية ضد الإحتلال غير القانوني لأفغانستان، بينما الثاني حركة “متمردة” دولية تهدف إلى خلافة عالمية؛ فتنظيم “القاعدة” هو منظمة إرهابية دولية من بنات أفكار وكالة الإستخبارات المركزية، تم إستخدامه كـ “وكيل” لخلق الإرهاب في البلدان المستهدفة عبر حرب برية غير تقليدية، هدفها تشويه صورة الإسلام وجعله يبدو “دين عنيف”.

يعود استخدام السي.آي.إيه لـ “الإسلام السياسي” كسلاح للخداع والحرب إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث قامت بإنشاء جماعة “الإخوان المسلمين”. وتنظيم “القاعدة” لا يختلف عن الجماعة أو التمرد الحديث لمشروع “داعش”. فخلال توليه لمنصب مدير وكالة الأمن القومي زمن الرئيس الراحل رونالد ريغان، صرح الجنرال وليام أودوم مؤخراً بالقول “بأي حال، لقد استخدمت الولايات المتحدة الإرهاب لفترة طويلة. في الفترة ما بين العامين 1978 و1979، كان مجلس الشيوخ يحاول إصدار قانون ضد الإرهاب الدولي؛ في كل مسودة أصدرها، كان المدافعون يقولون بأن الولايات المتحدة ستنتهكه.”

إن هذا ما تطلبه الولايات المتحدة من طالبان، أي إطلاق سراح عناصرها، الذين استخدمتهم للتسلل إلى طالبان وباكستان لزعزعة الإستقرار في المنطقة لصالحها. هم ليسوا وحدهم في هذه الجريمة ضد باكستان، فالهند تمتلك أيضاً عدداً كبيراً من هؤلاء الوكلاء الذين يقفون وراء معاداة المكون الأفغاني – الباكستاني على غرار “التحالف الشمالي”، الأوزبك والطاجيك، و”حركة البشتون المحافظة”، التي تطالب بفصل شمال باكستان، و”جيش تحرير بلوشستان”، الذي يطالب بفصل أكبر مقاطعة باكستانية – بلوشستان، إلى ما هنالك.

فيما يتعلق بطلب إجراء محادثات داخل أفغانستان، من المهم للغاية الإشارة إلى أن الولايات المتحدة وقعت اتفاقيتين منفصلتين؛ واحدة مع نظام كابول، وأخرى مع طالبان. لم تتخل الولايات المتحدة عن حليفها، نظام كابول، بل دعمته بإتفاق حصري رافضة إشراك أي طرف ثالث، داخلي كان أم خارجي، لحل النزاع ما يعني أن واشنطن قد أضفت صفة الشرعية على القوتين داخل أفغانستان ما يشكل تكراراً للتاريخ عبر إعادة نشر بذور الحرب الأهلية مرة أخرى بين “إمارة أفغانستان الإسلامية” – طالبان ونظام كابول. في هذا السياق، إن الإتفاق ينص على ألا تقوم طالبان بإستهداف عناصر القوات الأمريكية لمدة 14 شهراً إضافة إلى إشراك الحركة في محادثات أفغانية داخلية مع حكومة كابول، المدعومة من واشنطن، ليس مجرد “نفاق” أمريكي فحسب بل ضرب من الخيال.

باكستان في عين العاصفة

من خلال ما سبق، تبدو النتائج واضحة تماماً فهي تشير إلى نتائج سلبية لسيادة الدول الإسلامية من خلال التخريب الذي تقوده الولايات المتحدة. إن “ذوبان الجليد” في العلاقات ما بين واشنطن وطالبان سيكون مؤقتاً، إذ ستحاول الأولى الحفاظ على هيمنتها تحت عنوان “ترسيخ” دول المنطقة. ولكن ليس من المتصور بإعتقاد أي محلل عاقل أن الولايات المتحدة ستترك المنطقة فجأة وبهدوء دون إيجاد تسوية ما حول أهدافها الإستراتيجية الكبرى، أي لمواجهة كل من أفغانستان وباكستان وإيران.

وفي سياق تحليل التهديدات الباكستانية، تعتبر باكستان أن أفغانستان تشكل منطقة حيوية لإستراتيجيتها الإقليمية، فالإضطراب في الأولى يعني الإضطراب في الثانية، بحيث أصبحت كل دولة تشكل “جناحاً” للأخرى ليس فقط بسبب ارتباطهما الإيديولوجي المتشابه ولكن أيضاً بسبب معاناتهما من الإحتلال الأمريكي غير القانوني والتخريب المشترك الأمريكي – الهندي.

هنا، يمكن القول بأن إتجاه العلاقات الأفغانية – الباكستانية نحو السلبية، سينعكس تطوراً إيجابياً على الأجندة الهندية – الأمريكية الأكبر في المنطقة. إن هذه “الحرب الصامتة” بين كلتا المجموعتين المتعارضتين ستحدد مسار التاريخ المعاصر لقارة آسيا.

“جدول 2050”

في فبراير/شباط 2019، أصدرت حكومة الولايات المتحدة سياسة “آسيا الوسطى: جدول أعمال 2025” وأهداف السياسة منها. لقد صاغت المصطلح “C5 + 1” للمشروع، أي جمهوريات آسيا الوسطى + أفغانستان، شعارها “نعمل معاً، نقاتل معاً”. هذه الأهداف الإستراتيجية الكبرى تسعى واشنطن إلى تحقيقها عن طريق تمويل ودعم تلك الدول الست في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية. بالتالي، إن تلك الإستراتيجية ليست موجهة فقط ضد العلاقات الأفغانية – الباكستانية فحسب، بل ضد روسيا، نصف الكرة الشمالي، والصين، نصف الكرة الشمالي الشرقي، وإيران، نصف الكرة الجنوبي.

إذا أعرت الإنتباه إلى هذا السيناريو الجغرافي الإستراتيجي، فستفهم بأن العراق بالنسبة إلى الولايات المتحدة يشكل نقطة إلتقاء خيوط الإستراتيجية الأمريكية لمشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي يخدم إسرائيل. على نفس المنوال، تشكل أفغانستان تلك النقطة التي ينطلق منها مشروع الولايات المتحدة الجديد نحو جنوب آسيا والذي يخدم اللوبي الهندي. كلا المشروعين يتشابهان في مسألة زعزعة الإستقرار الهيكلي للدول الإسلامية ودول المستقبل لصالح الإمبراطورية الهندية – الأمريكية – الإسرائيلية. كيف ستصبح هذه الأهداف ممكنة بالنسبة واشنطن إذا ما غادرت أفغانستان وسلمت كل شيء لحركة طالبان؟ بالطبع، هذا ليس ممكن أبداً.

اليوم، تسيطر الولايات المتحدة على موارد أفغانستان التي تقدر بمليارات الدولارات من حيث القيمة الإقتصادية، وهي تشمل الباريت والكروم والفحم والكوبالت والنحاس والذهب وخام الحديد والرصاص وكميات هائلة من الليثيوم عالي القيمة وغيرها من المعادن الأرضية الحيوية النادرة التي تساعد في صناعة أجهزة التكنولوجيا عالية الدقة، إضافة إلى الغاز الطبيعي والنفط، والأحجار الكريمة وشبه الكريمة، والبوتاس والملح والكبريت والتلك والزنك. ليس هذا فحسب، تريد الولايات المتحدة إنشاء خطوط أنابيب لنقل النفط والغاز في جميع أنحاء المنطقة الأفغانية – الباكستانية حيث يعتبر خط “تابي” – TAPI أبرزها، حيث تريد واشنطن إستخدامه كجزء من خطة للإنطلاق ضد كل من روسيا والصين، إضافة إلى الحفاظ على إنتاج الأفيون المستخدمة للهرويين. هناك كم كبير من المصرفيين الذين يقومون بعمليات تبييض أموال المخدرات لصالح وكالة الإستخبارات المركزية من جراء تجارة الهرويين التي تدر أكبر وأهم المداخيل المالية. فما قامت طالبان بإلغائه، قبل العام 2001، عادت واشنطن وإستحدثته.

بعد ستة أشهر من نشر تقرير الولايات المتحدة لإستراتيجيتها في آسيا الوسطى، أغسطس/آب 2019، نشر معهد “واتسون” للعلاقات الدولية، بجامعة براون، تقريراً حصرياً بعنوان “جيش وكالة المخابرات المركزية: تهديد لحقوق الإنسان وعقبة أمام السلام في أفغانستان” حيث يذكر بأن عملاء الوكالة غزووا أفغانستان مع عدم وجود نية للمغادرة. إن القوات شبه العسكرية التي يسيطرون عليها تخدم المصالح الإمبريالية الأمريكية كما إن وجودهم، مع عملاء الوكالة، بحجة زائفة لمكافحة الإرهاب الذي تدعمه واشنطن، يجعلان استعادة السلام والإستقرار في البلاد غير ممكن؛ بالتالي، إن تعميم “صفقة السلام الأفغانية” مع السلام، بشكله العام، هو مجرد وهم.

ختاماً، إن الواقع على الأرض لا يرتبط بما هو مكتوب على قطعة ورق زائفة ترفض الإعتراف بسيطرة حركة طالبان، الشرعية، على أفغانستان، إلا أن الشيء الوحيد الذي اكتسبته الحركة من الإتفاقية هو أنها “جرَّت” وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، إلى الصفقة، ومعه الولايات المتحدة، في إشارة إلى شرعية الحركة السياسية، في حين حرصت واشنطن مرات عديدة بالتأكيد على عدم شرعيتها؛ بالتالي، سينتهي اتفاق السلام هذا في المستقبل المنظور.

مصدر الصور: مونتي كارلو الدولية – القدس العربي.

موضوع ذا صلة: أفغانستان: ساحة صراع القوى العالمية