د. طارق سامي خوري*
بدءاً من العام 2011، حاولت تركيا الترويج لنموذج حكم عُرف عنه فرادته كونه يجمع بين “الأسلمة” و”الديمقراطية العلمانية”، كشكل من أشكال “الوصاية” على بلدان الشرق الأوسط بعد ما سُمّي بـ “ثورات الربيع العربي”، وهي نوايا تجلّت لدى دعوة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، المصريين في أعقاب أحداث “25 يناير”، من ذلك العام، إلى الاقتداء بالنموذج التركي.
مما لا شكّ فيه، أن ذلك “الربيع العربي” حمل شكلاً من أشكال التوافق الزماني مع استيقاظ الأحلام السلطانية في مخيلة الرئيس أردوغان الذي حاول الإستفادة من الفراغ الإستراتيجي في المنطقة، وحالة الإضطراب الفكري والسياسي لشعوبها من خلال اللعب على الوتر الطائفي والعصبية الدينية. فالأخير ومنذ دخوله الحياة السياسية التركية، عمل على تشكيل استراتيجية جديدة لبلاده تقوم على إعادة تعريف دور الدولة في الإقليم والعالم، ودأب على ترويج ما أسماه قيم “الديمقراطية المحافظة”، الإسلامية غالباً، في الداخل وتصديرها إلى الخارج كأحد تجليات “القوة الناعمة” التركية الرامية إلى استعادة “أمجاد الإمبراطورية العثمانية” جنباً إلى جنب مع “القوة الصلبة” لأنقرة، التي باتت تتمتع اليوم بحيز هام من الحركة داخل عدد من دول المنطقة من سوريا إلى ليبيا.
من هنا، كان تحالف “التنظيمات الإخوانية” على أنواعها معه، كشكل من أشكال “البيعة السياسية” لمن اعتبر نفسه “حفيد” السلطنة العثمانية، في طور المستجدات التي أعقبت “ثورات” العقد المنصرم، وذلك بـ “ثوب إسلامي” فضفاض و”أطماع سلطانية” لا متناهية. يشهد على ذلك ما سجلته الإنتخابات الرئاسية الأخيرة في تركيا من ترداد الرئيس أردوغان لمفردات من قبيل “العثمانيين الجدد” و”أحفاد العثمانيين” وتعابير مشابهة دأب الأخير على استعمالها في أكثر من مناسبة، لا سيما إبان هجومه على الكرد في سوريا حين قال “نحن أحفاد العثمانيين، وسنوجه للإرهابيين ومن يقف وراءهم صفعة قوية.”
لكن في حقيقة الأمر، إن النموذج الذي بدا فاتناً في أعين الكثيرين، استبطن عداء شديداً للديمقراطية وأطماعاً توسعية بطابع إسلامي مزيف تجعل من المصالح والمكاسب الجيو – سياسية دين السياسة وديدنها الوحيدين لأنقرة.
فلقد أظهرت الإنتخابات الأخيرة لبلدية اسطنبول استحسان الرئيس أردوغان للديمقراطية بشرط لا يقل عن شروط بقائه وحزبه في السلطة، فيما تمثل سياسات “التتريك”، ضمن بعض مناطق الشمال السوري والتي ينظر إليها على أنها تستنسخ “النموذج الصهيوني” في الضفة الغربية، جزءاً لا يتجزأ من فصول انكشاف رئيس لا يتورع عن استغلال شعارات، كالحرية والمشاعر الدينية، لتحقيق أجندة خاصة بحكومته ولو على حساب خداعه أو استلابه لحقوق الشعوب الأخرى، ولو كان شعباً “شقيقاً” وفق أدبيات حزب “العدالة والتنمية”.
في واقع الأمر، إن الرئيس، الذي يمكن احتسابه وبجدارة ضمن نادي الرؤساء الديماغوجيين والشعبويين على مستوى العالم، يجد صعوبة في التفريق بين حدود المستحيل والمستطاع على مسرح السياسات الإقليمية، ذلك أن الرجل يبدو شديد التأثر بأبطال الدراما التركية، كمسلسل “عودة أرطغرل” ذي المضامين العنصرية والذي حظي برعاية شخصية من جانب الرئيس الكاريزماتي بوصفه أحد أبرز منتجات صناعة البروباغندا التركية، والتي تروج أن السلطنة المزعومة لأحفاد “سليمان شاه” ليست محدودة إلا بحد سيفهم المدافع عما يعتبرونه “دولة الإسلام” ضد “دولة الكفر”.
هذا النموذج، الذي راق لبعض التيارات السياسية في بعض دول “الربيع العربي”، وتوزعت مسمياته ومندرجاته بين عناوين عدة تراوحت بين ما يسميه الرئيس أردوغان مجتمع “قيم الديمقراطية المحافظة” وبين مفهوم “العمق الإستراتيجي”، الذي يعود لرئيس الحكومة التركية السابق وشريك التصورات الجيو – بوليتيكية للرئيس أردوغان، أحمد داود أوغلو، الذي يعتبر بلدان “الشرق الأوسط” بمثابة ثاني مناطق الإلتقاء المهمة بالنسبة لأنقرة، تلقى صفعات عدة.
فبعد سلسلة “نجاحات” في عدد من الدول العربية، كمصر وتونس وليبيا بادىء الأمر، انقلبت الصورة من جديد في غير صالح “الإخوان المسلمين” لا سيما في مصر وسوريا. فالتجربة السورية كانت بمثابة الإختبار لأبرز أوجه عطب السياسات التركية في المنطقة، بعد العام 2011، حيث بدأت أمنيات تركيا تتهاوى تحت زخم الواقع السوري، إذ سقط مطلبها الأساسي المتمثل بحظر جوي وإنشاء “منطقة آمنة” داخل الأراضي السورية، إضافة إلى فشل رهاناتها المتوالية على إسقاط حكومة دمشق من خلال الفصائل العسكرية والجماعات الإهابية المتطرفة المدعومة منها، وصولاً إلى سيطرة ميليشيات قوات سوريا الديمقراطية – “قسد”، المصنفة إرهابية من قبل تركيا، على جزء من الجغرافيا السورية، وليس انتهاء بإستعادة الحكومة لمنطقة حلب، وهي منطقة لطالما كانت محل طمع من النخب السياسية التركية المتعاقبة والتي بلغت أوجها مع وصول الرئيس أردوغان إلى سدة الحكم.
ظن “السلطان الجديد” أن الولايات المتحدة بتخليها عن حلفائها الكرد، وروسيا، من خلال غض البصر عن عملياته العسكرية ضد “قسد”، إنما توليانه حيزاً هاماً في إدارة الملف السوري، وأنهما يعتبرانه “اللاعب الذي لا غنى عنه” لحل الأزمة في سوريا، إذ ارتفع منسوب الغرور في رأس “الغول التركي”، حينما أعطاه الروس صلاحية إقامة بعض نقاط المراقبة في إطار الإتفاق على تنفيذ سلسلة تفاهمات امتدت من “سوتشي” إلى “أستانا”، ما دفعه إلى التوغل والتغول أكثر في أطماعه على الأرض السورية.
أما وقد أطلق الجيش السوري عمليته العسكرية في إدلب، فإن الرئيس أردوغان بات يخشى تداعيات الأمر على مكاسبه الراهنة في المدينة الزاخرة بالمجموعات المسلحة المدعومة تركياً، وأن تكون خلفياته إيذاناً ببزوغ فجر حقيقة سلم بها الجميع، إلا الرئيس أردوغان نفسه، وهي حقيقة سوف تدفع الأخير إلى الإقرار، ولو متأخراً، بأن سوريا للسوريين فقط، ولا مكان على أرضها لأي غازٍ أو محتل.
من هنا، يمكن القول إن رسالة دمشق الدموية لأنقرة، قبل أيام على أرض إدلب، لا تترك مجالاً للشك بأن القوة الصلبة التي يتلطى خلفها الرئيس التركي لن تنفعه بعد اليوم طالما أن القرار السوري واضح وحازم لإستعادة إدلب إلى حضن الدولة مهما كلف الأمر.
*نائب في البرلمان الأردني
مصدر الصور: اندبندنت عربية – وكالة أنباء تركيا.
موضوع ذا صلة: إدلب.. “أم المعارك”