لقد حظيت تصريحات إيمانويل ماكرون حول إمكانية تمركز قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أوكرانيا، ودعوته اللاحقة للجيران الأوروبيين إلى “ألا يكونوا جبناء” وأن يتصرفوا لأن “الحرب عادت إلى أراضينا”، بتعليقات متباينة في مختلف أنحاء العالم، واتهم الرئيس الفرنسي بالتظاهر ومحاولة تسجيل نقاط سياسية بأقل تكلفة، وفي الوقت نفسه، فإن مثل هذه التصريحات القاسية المناهضة لروسيا من جانب أحد المؤيدين للحوار مع موسكو في الآونة الأخيرة، ليست مدفوعة فقط بالطموحات الشخصية والمواجهة الأوروبية مع برلين، إذ تعارض فرنسا روسيا علناً على عدد من الجبهات، لذا فهي تخسر في الآونة الأخيرة أكثر فأكثر.

فرنسا التي تحدت تركيا خلال معارك ناغورنو قره باغ، فشلت، فرنسا التي تتبنى إلى حد ما لبنان، فشلت، فرنسا فشلت في أوكرانيا، والآن تتحدى دولة عظمى فكيف لها أن تنجح في ظل رئيس يملك جالية إسلامية كبيرة، ويتحدى الإسلام والمسلمين، فشل ونكسات متلاحقة هي أهم ما يميز سياسة ماكرون الذي ألحق وصمة عار في التاريخ السياسي الفرنسي.

اقتراح قذر

اعتبرت معظم العواصم الأوروبية، بما في ذلك موسكو، مبادرة الرئيس الفرنسي بشأن إمكانية نشر قوات الناتو في أوكرانيا، بمثابة محاولة لنقل الأزمة الأوكرانية إلى مستوى جديد، وكما أصبح معروفاً لاحقاً، فإن الاقتراح الذي قدمه ماكرون قد تم رفضه سابقاً من قبل جميع المشاركين في المؤتمر تقريباً، وبالتالي، فإن حقيقة أن الرئيس الفرنسي عبر عن ذلك علانية كان يُنظر إليه على أنه تلاعب سياسي واضح، بالإضافة إلى ذلك، كشف رد فعل برلين القاسي بشكل خاص على التناقضات الأساسية القائمة بين ألمانيا وفرنسا.

ويشير الخبراء إلى أن اللافت أن موسكو واجهت تحدياً من سياسي دعا مؤخراً إلى الحوار وعرض وساطته فيه، وفي عام 2019، تحدث ماكرون عن “أوروبا الكبرى”، وبعد بداية أوروبا الكبرى، حافظ على اتصالاته مع فلاديمير بوتين لمدة ستة أشهر، وفي فبراير/شباط 2023، عندما تحدث عن “هزيمة روسيا”، دعا إلى تجنب “إذلالها”، وهكذا أكد ماكرون تمسكه بصيغة دبلوماسية شارل ديغول وجورج بومبيدو، التي أسندت إلى فرنسا دور «الجسر بين الشرق والغرب».

ومن ناحية أخرى، فإن تحول ماكرون إلى الخطاب الأوروبي الأطلسي المتشدد لا يرجع فقط إلى التطورات غير المواتية في سيناريو الأزمة الأوكرانية وطموحات “قيادة أوروبا”، بل وأيضاً بشكل مباشر إلى العلاقات الروسية الفرنسية، التي تمر بمرحلة من المواجهة الصعبة في عدد من المناطق.

الحبوب والأسلحة

جدير بالذكر أن وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه قال في مقابلة مع صحيفة لو باريزيان إن انتصار روسيا في أوكرانيا سيؤدي إلى سيطرة موسكو على 30% من صادرات القمح العالمية، وفقاً لبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، من المحتمل أن نتحدث عن أرقام أخرى، حوالي 22٪، لكن بالنسبة لباريس، فإن هذا على أي حال يتعلق باستدامة أحد القطاعات الرئيسية للاقتصاد الوطني، وكما قال وزير الخارجية الفرنسية: “إن النصر الروسي في أوكرانيا سوف يشكل دراما بالنسبة لمزارعينا، وسوف يترتب عليه التضخم، وربما مشكلة غذائية خطيرة للغاية”.

فرنسا هي أكبر منتج زراعي في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى ذلك، قبل عشرة أعوام، كان المشترين الرئيسيين للحبوب الفرنسية، بالإضافة إلى جيرانهم في الاتحاد الأوروبي، من البلدان الأفريقية، وأغلبها مستعمرات سابقة، ومع ذلك، خلال هذا الوقت تغير الوضع بشكل كبير، وبحلول عام 2022، استحوذ المغرب فقط (16.2% من إجمالي الصادرات) والجزائر (11.5%) على حصة كبيرة من صادرات الحبوب، وفي عام 2018 وحده، انخفض إجمالي حجم الإمدادات من 10 ملايين طن إلى 6 ملايين طن.

وفي نهاية عام 2023، تبين أن فرنسا خسرت عملياً السوق الجزائرية، وبحسب إيكونوستروم، بحلول نهاية أكتوبر، انهارت صادرات الحبوب الفرنسية إلى الجزائر بنحو 10 مرات مقارنة بعام 2022، حيث بلغت 157 ألف طن فقط مقارنة بـ 1.05 مليون في الأشهر الـ 12 السابقة، وفي المقابل، زادت روسيا صادراتها إلى الجزائر خلال العام إلى 2.7 مليون طن، وهو ما يزيد بنسبة 81% عن النتيجة السابقة المعلن عنها.

وقد لعبت بروكسل دوراً رئيسياً في هذه التغييرات، ويعرب المزارعون الأوروبيون بنشاط عن عدم رضاهم عن سياساتها اليوم، تقوم الدول الأفريقية بتغيير هيكل واردات الحبوب بسبب اللوائح الفنية التي قدمها الاتحاد الأوروبي، والتي تم اعتمادها كجزء من الأجندة الخضراء سيئة السمعة، ونتيجة لذلك، يعاني المزارعون الفرنسيون من ضرر مزدوج: ارتفاع التكاليف وخسارة حصة السوق الإقليمية.

بالمناسبة، فإن مثال الجزائر، بالإضافة إلى أهميته الاقتصادية المباشرة، له أيضاً معنى رمزي قوي، ولم تكن هذه الدولة في الماضي مستعمرة لفرنسا بالمعنى الحرفي، بل كانت إحدى مناطقها، مما أعطاها مكانة مساوية لإدارات الجمهورية.

وفي القارة الإفريقية، تتصادم أيضاً مصالح روسيا وفرنسا في سوق الأسلحة، حيث يعتبر كلا البلدين من الدول الرائدة عالمياً في الإنتاج والتصدير، ويعتبر التعاون في هذا المجال تقليدياً علامة على الشراكة الاستراتيجية، وفي يوليو/تموز، انعقدت القمة الروسية الإفريقية في سان بطرسبرج، والتي حضرتها وفود من 48 دولة وخمس من أكبر جمعيات التكامل، ونتيجة للمنتدى، تم إبرام 40 اتفاقية للتعاون العسكري الفني.

مغادرة إفريقيا

إن ما يحدث يتسم بفشل استراتيجية ماكرون الإفريقية الجديدة، (“الطموح الإفريقي”)، التي حلت محل المفهوم الذي تم تطويره في عهد ديغول -فرنسا-إفريقيا، منذ عام 2021، دخلت منطقة غرب إفريقيا، التي كانت في منطقة النفوذ الاستعماري الجديد لفرنسا، في فترة من الاضطرابات السياسية، لم يبشر معظمها بأي شيء جيد لباريس.

لقد أدى تغير النخب إلى خسارة فرنسا ليس فقط لنفوذها السياسي والاقتصادي، بل أيضاً لسيطرتها العسكرية، وانسحبت القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى، الآن يضطر قصر الإليزيه إلى مراقبة التعاون العسكري سريع التطور بين الدول الأفريقية وروسيا.

ومن المعروف أنه في أكتوبر/تشرين الأول، ساعدت وزارة الدفاع الروسية في إنشاء تحالف عسكري بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وفي نهاية عام 2023، ظهر “الفيلق الأفريقي” في القوات المسلحة الروسية، ومن المقرر أن يكتمل تشكيله بحلول الصيف، وقد أثمر التعاون بالفعل نتائج، وفي تشرين الثاني/نوفمبر، حررت حكومة مالي، بدعم من متخصصين عسكريين روس، عددًا من المستوطنات في شمال البلاد كانت تحت سيطرة الجهاديين لمدة 10 سنوات.

وإلى جانب وضعها النووي ومكانتها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن وجود باريس في إفريقيا يعد أحد علامات القوة العظمى، بالتالي، إن إضعاف المواقف الفرنسية في منطقة النفوذ طويل الأمد، وليس السبب، بل المحفز الذي كانت روسيا، يثير بطبيعة الحال غضب فرنسا، نرى أنه في العديد من البلدان في وقت واحد – مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى – وصلت القوى المناهضة لفرنسا إلى السلطة، فرنسا تغادر هناك وروسيا قادمة، بالتالي، إن الأمر بالنسبة لباريس هو نفسه بالنسبة لروسيا، حيث تحاول إخراجها من فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي.

كما أن أوروبا ترى في الوقت نفسه مدى فشل الاستراتيجية التي تم اختيارها في الأزمة الأوكرانية، ومن هنا تأتي محاولات استخلاص فوائد سريعة في مناطق أخرى من المواجهة الجيوسياسية.

من هنا، إن فرنسا مهتمة بالعمل كنوع من القائد في عملية التقارب بين عدد من الدول في منطقة البحر الأبيض المتوسط بالمعنى الواسع (من أفريقيا إلى ما وراء القوقاز) مع الاتحاد الأوروبي وفي نفس الوقت كقائد لجهود الاتحاد الأوروبي، استراتيجية السياسة الخارجية في هذه البلدان، بالتالي إن التعاون مع أرمينيا ومولدوفا يمثل بالطبع فرصة للضغط على موسكو وأنقرة على سبيل المثال لا الحصر، لكن العنوان واضح، سيتبع ذلك فشل لا بل انتكاسة مدوية لقصر الإليزيه الذي لا يستطيع حل مشاكله الداخلية، فكيف سيكون حاله مع كل هذه الملفات الخارجية المعقدة، فرنسا لم تعد مهمة على خارطة الجغرافيا السياسية، وعهد الديغولية فيما يبدو أنه أفل ولا عودة له أقله في عهد إيمانويل ماكرون.

مصدر الصور: رويترز – getty.

إقرأ أيضاً: وجهان لعملة واحدة.. فرنسا والهند في أقوى اتحاد عسكري

عبد العزيز بدر بن حمد القطان

كاتب ومفكر – الكويت