د. عبدالله الأشعل*

في مصر ومنذ العام 1952 تحديداً، طوعت كل المعاني والأحداث لكي تخدم هدف السلطة السياسية بالمخالفة للواقع والعقل، وإستكتب عدداً من الكتبة، الذين أطلق عليهم “مؤرخون”، كي يكتبوا المقررات الدراسية وفق هوى الحاكم، وأن يتم تلقين الطالب هذه المقررات وتكون هي التاريخ الرسمي للأحداث. لذلك، قرأت الأجيال تاريخ مصر على غير حقيقته، وقد أشار ميثاق العمل الوطني إلى هذه الحقيقة دون قصد عندما ذكر أن آلآفاً من الشباب المصري قرأ تاريخ مصر على غير حقيقته، فصور له الأبطال في تاريخها تائهين وراء سحب من الشك والغموض بينما وضعت هالات التقديس والإكبار حول الذين خانوا كفاحها.

وقد لاحظنا مثلا أن التحركات العسكرية، يوم 23 يوليو/تموز 1952، كانت تسمى “حركة الجيش” ثم سميت لاحقاً “حركة الجيش المباركة” ثم “الثورة المصرية”، وصار يوم 23 يوليو/تموز هو اليوم الوطني. لكن من المعلوم أن الجيوش لا تقوم بالثورات، كما أن الشعب المصري لم يكن له علاقة بحركة الضباط الشبان الذين قاموا قطعاً بالتعاون والتنسيق مع الإنجليز والأمريكان لخلع الملك فاروق. وبسبب تعلق الكثيرين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، لم يذكر اللواء محمد نجيب لمجرد أن الرئيس عبد الناصر يعاديه، كما لم يجرؤ أحد على أن يعيد وضع المسميات الحقيقية لهذه الأحداث فيسمي يوم 23 يوليو/تموز إنقلاباً عسكرياً، فهو في الواقع إنقلاب بمعنى تغيير نظام الحكم لكنه إنقلاب بالتوافق السياسي وليس بإستخدام سلطة الجيش. لذلك، كانت التحركات العسكرية ضد عمليات تنفيذ المخطط وهو إعتقال القيادات، لأن الجيش المصري كان منحلاً منذ الإحتلال البريطاني لمصر.

أيضاً، هناك الكثير من الأحداث غيرها التي شكلت تاريخ مصر الحديث؛ وما نحتاح لعرضه في هذه المقالة هو موقف المؤرخين المصريين من الثورات التي سميت بهذا الإسم في مصر الحديثة. ولكن هذه الصفحة تحتاج إلى مراجعة شاملة، وسنكتفي هنا بالتوقف عند ثورتين وهما الثورة العرابية وثورة 1919، أما ثورة أحمد عرابي فتحتاج إلى مراجعة أساسية للمعلومات خاصة فلقد أعلت حركة الضباط الشبان من قدر هذه الثورة وحطت من شأن سعد زعلول، ولقد وآن الآوان لنضع الحدثين في سياقهما التاريخي الصحيح.

الحدثين يجمع بينهما روح عامة وهي تحقيق العدل لمصر والمصريين مع إختلاف الشعارات والمعاني ذلك أن أحمد عرابي كان يمثل الجيش المصري ودخل السياسة من هذا الموقع وكذلك فعل الضباط الشبانالين إحتفلوا بعرابي لا بل إن بعض أبناء المؤسسة العسكرية يبالغون في علاقة الجيش بالسياسة مبالغات “حمقاء” عندما يقولون أن الرسول(ص) نفسه كان جنرالاً، وأن كل قيادات مصر كانت عسكرية منذ عهد الفراعنة. بالتالي، إن تدخل الجيش في السياسة ليس جديداً أو بدعة، والسؤال هنا: هل كانت حركة عرابي ثورة بالمعايير العلمية للثورة؟ وهل تنكر المصريون لها جهلاً أم توجيهاً أم حقيقة؟

لقد شكا أحمد عرابي، في مذكراته، من سوء معاملة المصريين له بعد عودته من المنفى وامتنانه للخديوي والإنجليز بإطلاق سراحه بعد ربع قرن قضاه في سريلانكا وعاد منها بعدها شيخاً هرماً، والصحيح أن حركته وغيرها من الحركات كانت “نسمات” تطالب بالحرية والإنصاف للمصريين ضد الأجانب؛ بينما حركة الضباط الشبان ليست كما تقول عنها كتب التاريخ، فهي محط التجميع لكل السمات والتحركات وأنها هي التي صاغت مصر الحديثة وما تلاها الكثير من التحفظات على تركيب المجتمع والسياسة الخارجية والأداء الداخلي.

أما ثورة 1919 وموقف ضباط يوليو/يموز منها، فله أسباب، في نظرنا، أهمها أنهم أعتمدوا أساساً على تطهيرهم لمصر من فساد الطبقة السياسية وهي رجال ثورة 1919، ذلك أن الطبقة السياسية تشكلت ممن ساهموا في تلك الثورة، كما أن هذه الثورة كانت بالفعل ثورة شعبية قادها سعد باشا زغلول وتشكل على وقع أنها برنامج حزب الوفد وفي صلبها المطالبة بالإستقلال عن بريطانيا والدستور لمواجهة الملك.

هذه الثورة هي التي إستحقت هذا الإسم لأنها ألهبت الروح الوطنية بين الشباب، وحصرت مطالبهم والعدو في الإنجليز، وأصبحت كل الحركة الوطنية قوة ضغط على الإنجليز للجلاء عن مصر؛ وذلك خلاف ضباط يوليو/تموز الذين تولوا السلطة بالتفاهم مع الإنجليز ثم تفاوضوا معهم على جلائهم، وهذه مرحلة تحتاج ايضاً للمزيد من الوثائق والإضاءات.

لم يكن مهماً أن يحتفل ضباط يوليو/تموز بحركة مدنية نفذت إلى وعي المصريين وهم من الطبقة العسكرية والذين لم يلتفت إليهم المدنيون، إنما جذب الرئيس عبد الناصر الشعب إليه عندما بدء في تطبيق برامج إجتماعية وبرامج صاخبه لصد “المؤامرة الكبرى”، ثم أخيراً العداء مع إسرائيل الذي أنتهى بإحتلالها لكل فلسطين وأراضي في مصر وسوريا والأردن العام 1967.

من خلال ما سبق، لنا عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى: أن هذه الثورات لا رابط بينها وليست عملاً تراكمياً، ورغم أن الرئيس عبد الناصر رأى أن ما حدث في يوليو/تموز هو امتداد لعرابي لكن بالنسبة لي أرى بأن هذا الربط بحاجة إلى تمحيص.

الملاحظة الثانية: أن يوليو/تموز كانت سحقاً لثورة 1919 لأنه أعطى الضوء الأخضر للحكم العسكري، بينما ثورة زغلول أسست لحكم مدني ديمقراطي وهذا هو أحد أسباب تجاهل الضباط لهذه الثورة حيث أنهم عادوا وشكلوا مجتمعاً جديداً موالياً لهم ومعادي للطبقة السياسية والإقتصادية التي كانت عصب ثورة زغلول.

الملاحظة الثالثة: إن “ثورة يناير” تنهي آثار يوليو/تموز وتداعياتها مع إسرائيل، ولذلك فإن بقايا قوى يوليو/تموز هي التي تصدت لها وقضت عليها.

الملاحظة الرابعة: أن الإتفاق ظاهر بين كل من حركتي يناير/كانون الثاني وزغلول، فلقد كانت الأولى تهدف إل تعزيز المكون المدني والإستقلال وحكم القانون، ولكن الذي أحبطها هو التداعيات العميقة ليوليو/تموز في المجتمع المصري.

على أية حال، نقرر أن التاريخ الصحيح لا تكتبه السلطة وإنما يكتب بعد رحيلها وبشكل منصف. أما تحليل ثورات الشعب المصري والعلاقة بينها وبين التأريخ لها فيحتاج إلى مزيد من البحث العلمي الحر إذ لا يمكن التعويل على ما يسمى “المؤرخون” نظراً إلى إفتقارهم لمبادئ التكوين والمنهج والإستقلال عن الحاكم. والسؤال هنا: ماذا يقول التاريخ في يوليو/تموز الأولى والثانية ويناير/كانون الثاني ويونيو/تموز؟ وماذا يقول في عرابي وزغلول خاصة وأن الكلمة الأخيرة لم تقل حتي الآن.

الحق أن هذه الحالة عامة في الدول العربية الآخرى ما دامت نظم الحكم فيها متماثلة. أما المصادر الأجنبية عن أحداث تاريخنا وكذلك الوثائق الأجنبية كمصادر للتأريخ، فهذه مسألة أخرى نعالجها في مناسبة أخرى.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق

مصدر الصورة: موقع حدائق ترفيهي.

موضوع ذا صلة: نافع: من حق الشعب المصري التعبير عمّا يريد