د. عبدالله الأشعل*

مر بالعالم العربي عصر كانت القومية العربية فيه شعار النظم العسكرية التي أطلقت على نفسها “التقدمية،” فكرهت النظم الأسرية العروبة ورفعت شعارات إسلامية. كان ذلك أحد أسباب الصدام بين العروبيين والإسلاميين بطريقة هزلية، بل أن الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، وخلال حربه ضد إيران استخدم شعارات إسلامية حيث رفع علم العراق المحلي برمز إسلامي تماماً، كعلم السعودية، مما أساء كثيراً إلى الإسلام دون أن يدري أصحاب الإساءة.

الثابت أن الحاكم العربي مشكوك في شرعيته، وأنه اعتمد على دعم الخارج وعلى القوة المسلحة ولكنه لم يعتمد أبداً على الشعب الذي يكثر ترديد كلمة الشعب بالخطاب السياسي العربي بحيث صار معدل ترديد هذا الشعار قرينة على النظام المستبد. ثم مر عصر على الحكام العرب، جميعاً، على أساس جديد للشرعية وهو القضية الفلسطينية ومعادة إسرائيل، ولكن الشعوب العربية كانت فعلاً تؤيد الفلسطينيين وتكره إسرائيل، إما لأنهم جميعاً ينتمون إلى أمة عربية واحدة، أو لأن الفلسطينيين ظُلموا، أو لأنهم يستحقون العدل والإنصاف في عصور لا تعترف بالعدل والإنصاف.

فشرعية الحاكم العربي كانت مستمدة من شعارات أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى وربما الأخيرة، ثم أضافوا في مرحلة تالية أن السلام مع إسرائيل هو “سلام إستراتيجي” إذ كانت الصيغ المطروحة، بعد فشل العرب في الدفاع عن أوطانهم ضد إسرائيل، تحاول أن توفق بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أرض فلسطين، فيما عرف بمرحلة التسوية السياسية، وهم يعلمون قطعاً أن المشروع الصهيوني لا يعترف بالعرب والفلسطينيين وأن قبول إسرائيل لمنطق التسوية كان خديعة كبرى. معنى ذلك أنه في هذه المرحلة، لم يشذ حاكم عربي واحد، في خُطبه، عن شعارات دعم الفلسطينيين مع التمسك بالسلام مع إسرائيل.

بالنسبة إلى الكتبة العرب، ندر ظهور كاتب عربي، في هذه المرحلة بمن فيهم محمد حسنين هيكل الذي كان “فليسوف” المرحلة، لتبرير الهزائم العربية وتحقيق النقلة التاريخية، التي سنتحدث عنها في هذا المقال، حيث أنهم قسموا العلاقة بين إسرائيل والعرب إلى مرحلتين؛ المرحلة الأولى، هي مرحلة الحرب والصراع. أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة السلام. وفي كلا المرحلتين، احتفظ الحكام العرب بالصيغة التقليدية وهي دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومن بينها حقه في أن يعيش بسلام مع اليهود على أرض فلسطين، والحقيقة أن إستنادهم إلى شعارات دعم القضية الفلسطينية في حكمهم لم تشهد حرباً أو سلاماً، وإنما كانت تشهد عدواناً من جانب إسرائيل وتسليماً من جانب العرب.

إرتبطت هذه المرحلة أيضاً بـ “الحرب الباردة” حيث كانت موسكو الشيوعية هي مركز دعم هذه الصيغة، بينما كانت واشنطن هي مركز دعم إسرائيل لتبين أن النظم الصديقة لواشنطن كانت على علاقة سرية مع إسرائيل اكراماً للولايات المتحدة. هكذا، تكشفت ملامح المرحلة السابقة منذ عقد من الزمان وبشكل أخص منذ القمة العربية في بيروت، العام 2002 والمبادرة السعودية للسلام وحصار الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، في مقره وإنصراف الحكام العرب، منذ ذلك اليوم، علناً من دعم القضية الفلسطينية والسلام مع إسرائيل إلى المرحلة الثانية التي نشهدها الآن، حيث اعتبروا أن مصادقة إسرائيل على حساب الفلسطينيين هي “الورقة الرابحة” مع واشنطن تحت ستار السلام مع إسرائيل.

فقد أسهم الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، إسهاماً وفيراً في هذا التحول عندما أبرم صفقة “كامب ديفيد”، وقارن بين السلام مع إسرائيل، الذي يجلب الحقوق الفلسطينية وتوفير الموارد الإقتصادية للتنمية، وبين الحرب، التي تلتهم كل شيء، وهو يعلم علم اليقين أنه لم تكن هناك حرب ضد إسرائيل وإنما كان هناك عدوان إسرائيلي دائم. بالتالي، إن المفاضلة بين الحرب والسلام كانت خدعة كبرى.

هكذا دخلنا المرحلة الثانية التي يوشك الحكام العرب أن يعتبروا سلامهم المشبوه مع إسرائيل هو أساس شرعية نظامهم وهم يدركون حتماً أن هذه الشرعية خاصة بعد موجة الثورات العربية وتكتلهم ضدها تصدر من واشنطن؛ ومعنى ذلك أن الشعب لم يكن في يوم من الأيام مصدر شرعية الحاكم، بل أن قهر الحكام وفسادهم دفع الشعوب إلى الإنفجار في ثورات سلمية تنشد التغيير حيث يتحمل مسؤوليتها الحكام الذين أغلقوا كل فرص التغيير، فإذا بهم يهاجمون هذه الثورات ويتهمونها “بما قال مالك في الخمر”، وأنها مؤامرة من أمريكا ضدهم رغم أنها هي التي تُصدر صكوك الشرعيه لنظامهم.

هكذا، تقلبت شرعية الحاكم العربي بين فلسطين وإسرائيل، ولكن الإخلاص لشعارات فلسطين كان مفقوداً بينما الإخلاص للتقارب مع إسرائيل، الذي تحرسه واشنطن، فلم يستطيع الحاكم أن يفلت من هذا الطريق وإلا فقد عرشه. وقد رأينا كيف تباع بعض العروش بمقابل يؤدى للخزانة الأمريكية أو أن يكون المقابل سلوكاً موالياً لإسرائيل، وهذا هو مضمون “صفقة القرن”، التي أصبحت حجر الزاوية في التخلي عن الفلسطينيين ودعم وجود إسرائيل  على كل فلسطين.

من هنا، يبدو حل هذه المعضلة، في نظري، خيالياً ومستحيلاً عند كثير من القراء لأن المسافة بينه وبين الواقع هي نفس المسافه بين السماء والأرض، والحل هو أن تنبع شرعية الحاكم من شعبه حتى دون أن يثور الأخير ضده، وأن يؤمن الحاكم بأن فلسطين جزء أساسي من الوطن العربي، وأن زرع إسرائيل فيها “شذوذ” تاريخي واستراتيجي وسياسي، وأن هذا الحل لا يشترط فيه أن يطلق عليه حل ديمقراطي أو قومي لأن هذه المصطلحات داسها الواقع العربي و”مرغها في الوحل”. ولكنني اسميه حلاً عملياً من أجل بقاء هوية المنطقة، والتكامل بين شعوبها ودولها، والإنسجام بين الفكرين القومي والقُطري.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

نشر الموضوع في 9/7/2019. ولأهميته في هذه المرحلة، تمت إعادة نشره من قبل الكاتب.

مصدر الصورة: العربي الجديد.