د. عبدالله الأشعل*

الدرس الذي يجب أن يعيه الباحثون والسياسيون في العالم العربي هو “المنهج الأمريكي” الذي لم تخطئ واشنطن بتطبيقه في المنطقة طوال ستة عقود، فلقد بدأت به مع نهايات العصر الإستعماري وبداية حلول أمريكا محل بريطانيا وفرنسا. والغريب هو أن الزعماء لا يتعظون ولا يريدون أن يتأملوا فيمن سبقهم حتى زالوا ولا يزال المنهج قاطعاً وماثلاً.

تتلخص هذه النظرية بإعتماد واشنطن، ومعها الغرب، على إذكاء “الأنا” المريضة عند الحاكم، الذي أتى إلى السلطة بطرق غير مشروعة بالعادة أو بطرق غير ديمقراطية. لذلك، لا تنطبق هذه النظرية على الدول الديمقراطية في حين أنها لاقت رواجاً ساطعاً في المنطقة العربية إذ باتت أداة واشنطن للقضاء على الدول. منذ سنوات، إتهم المرشح الرئاسي الجمهوري، دونالد ترامب، الإدارة الأمريكية في شخص السيدة هيلاري كلينتون بتيني النظرية، وإن كان لم يفصح عن التفاصيل لكنه اتهمها، كوزيرة خارجية سابقة، بأن إدارتها هي سبب سقوط الدول العربية وهجرة شعوبها إلى أوروبا وتدمير مدنها وحياتها وسرقة تاريخها وآثارها. هذا صحيح، ولكن هذه النظرية التي استخلصتها من الممارسات الأمريكية تشكل أداة هذا التدمير الذي كانت ضحاياه حصراً في العالم العربي.

إن نقطة البداية تكمن في أن واشنطن تعلم جيداً أمراض “الأنا” العربية، وكيف تظهر تلك الأمراض بشكل أكبر كلما كان الحاكم فاقداً للكفاءة وطموحه يفوق أية كفاءة لديه، خصوصاً عندما يغلف هذا الطموح بشعارات وطنية وقومية تحب الشعوب أن “تتخدر” بها، وتحب ألا تجهد عقولها في الفهم لأنه لا دور لها في الإختيار على أي مستوى لا سيما لجهة إختيار الحاكم أو مراقبة سياساته. ثم تأتي الخطوة الثانية التي تكمن في دراسة نفسية متعمقة، بعد دراسة الضحية، حيث توضع خريطة لسلوكه المحتمل عند كل تصرف، وردود أفعاله عليها وتسمى بناء الصورة – image building وهذا يشمل معرفة نقاط الضعف والقوة في شخصيته حتى يكون أمام واشنطن كتابا مفتوحاً. ويقتصر جهدها بعد ذلك على حصاره وجمع المعلومات عنه، تمهيداً للسيطرة الكاملة على سلوكه بل ودفعه إلى سلوكيات معينة تريدها هي لتحقيق متطلبات النظرية.

قد يبدو الحكام العرب وهم يتحدثون عن الإستقلال والسيادة وسلطة الشعب وكأنهم حكام دول حقيقية، حيث يعمد الحاكم أحياناً لإظهار واشنطن بأنها العقبة في سبيل تحقيق برامجه الوطنية الطموحة، وتصوير الأمر على أن واشنطن هي “العدو” الذي يحقد على وطنه ويسعى لإفشال انطلاقه، رغم أن واشنطن هي التي رتبت مقعده. يحدث ذلك في الظروف التي يظهر فيها بوضوح دور واشنطن في جلب الحاكم إلى السلطة.

ويتردد المؤرخون والباحثون عادة فيما إذا كان الحاكم الذي تفتح له واشنطن باب الحكم أو تجلسه بنفسها عليه عميلاً أو خائناً، أم أنه التقاء للمصالح. فإذا كانت مصالحه شخصية كان خائناً لشعبه ولكنه أفلت من تهمة العمالة. أما إذا كان الحاكم قد صوَّر الأمر على أنه يدافع عن مصالح قومية وأنه من قبيل السياسة والحنكة لا يريد أن يستفز واشنطن أو يستعديها، اعتبر عند شعبه شخصاً ذكياً تفتديه الجماهير بـ “الروح والدم”، فهذه الشعارات مألوفة في العالم العربي عند الحاكم في النظم الجمهورية.

وتقوم النظرية أيضاً على دقة التطبيق، وهذا يتضح من تطبيقاتها التي لا تزال مستمرة حتى كتابة هذه السطور، وقد وصل الدور على السعودية، بعد مصر وليبيا والعراق، وهي الدول الثلاثة التي نجحت فيها هذه النظرية.

لم يكن الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، ورفاقه من شباب الضباط عملاء، ولم يتم تجنيدهم من جانب المخابرات الأمريكية فيما نظن. لكننا نعتقد أن حركتهم لقلب نظام حكم الملك فاروق كانت محل تشجيع ورضا، حسبما صرح السفير الأمريكي في القاهرة حينذاك حيث لقبه محمد رفعت باشا بـ “الأب الروحي” للضباط الأحرار لأن واشنطن أملت في أن هؤلاء الشباب من العسكريين هم من سيتصدى لتسلل الشيوعية إلى مصر في وقت كانت تعيش الولايات المتحدة حمى “المكارثية” والخوف من الشيوعية، ولا بد أن الضباط كانوا ممتنين لواشنطن على دورها معهم.

لكن الصدام بدأ بعد مذبحة للجيش المصري في غزة، فبراير/شباط العام 1955، واتجاه الرئيس عبد الناصر إلى الكتلة الشرقية طلباً للسلاح، إذ كانت واشنطن ترى بأن “الحركة القومية” تشكل مساساً بالدول العربية التي تقع تحت النفوذين الأمريكي والبريطاني، كما وجدت حركته تهديداً لإسرائيل. ولكنها في نفس الوقت، كانت سعيدة بتضخم “الأنا” الناصرية التي ارتفعت ثم تحطمت العام 1967 بدور أمريكي فعال، لكي يكون درساً لمصر بألا أمل في الصعود والتحرك ضمن المجال العربي لخطره على إسرائيل.

ثم جاء الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، بعزم على التسليم والإعتماد على واشنطن وأن يلقب بـ “بطل السلام”. فلما بلغ أشده، يبدو أن واشنطن قد إستشعرت خطر أفاقته فرتبت عملية إغتياله وتنصيب الرئيس الراحل، حسني مبارك، خليفة له. فلقد نصحت واشنطن الأخير، الذي صار “كنزاً استراتيجياً” لإسرائيل، بأن يخفف من آثار استبداده، ويدخل بعض الإصلاحات الديمقراطية الوهمية، لكنه تصلب في عمل ذلك. من هنا، قامت “ثورة يناير”، التي اضطرت إلى مباركتها تمهيداً لتحريفها واجهاضها، وتوجيه الأنظار إلى اغتيالها معنوياً تارة بأنها مؤامرة أمريكية ضد حاكم كان مستسلماً تماماً لأمريكا، وأن الثورة خرافة ومؤامرة لهدم الدولة المزدهرة العادلة الديمقراطية في مصر. وبذلك، أخرجت مصر تماماً من الحسابات الإقليمية في سلسلة طويلة، منذ ضرب الرئيس عبد الناصر العام 1967.

في العراق، شجعت واشنطن الرئيس الراحل، صدام حسين، على خلافة مصر وتجاهل رغبة السعودية في الوراثة، فكان مسلسل القضاء عليه في حرب لصالح واشنطن ضد إيران، ثم “غزوة الكويت” وتحمل السعودية تكاليف مغامراته وتكاليف محوه، وأخيراً غزو العراق والقضاء على صدام حسين “الظاهرة”، ثم نحره في عيد الأضحى العام 2006.

أما بالنسبة إلى الرئيس الليبي الراحل، معمر القذافى، وبصرف النظر عن ظن الرئيس عبد الناصر أن انقلابه على الملك السنوسي كان انتقاماً لإستخدام واشنطن قاعدة “هويلس” الجوية في ليبيا لضرب مصر العام 1967، فإن الرئيس المصري حينها شجع على الإنقلابات العسكرية اعتقاداً منه أن الحكم العسكري أقرب إلى الحكم التقدمي. لكننا لم نجد دليلاً واحداً يدل على نية الرئيس عبد الناصر في ربط الحكم العسكري بمحاربة إسرائيل، وأن إسقاط النظم الموالية للغرب بهذه الإنقلابات ضربة للغرب وكسب سياسي له.

هكذا قامت الإنقلابات في ليبيا، العام 1969، تحت اسم “الثورة”. وفي السودان، العام 1969ـ قامت ثورة أخرى، كما كان قد ألقى بثقله وراء إنقلاب عبد الله السلال في اليمن، العام 1962، ضرباً للسعودية وواشنطن فكان اليمن مقدمة لمحو القوة المصرية، العام 1967، وإذلال الجيش في كل من مصر واليمن. أيضاً، شجع الإنقلاب على المُلك الهاشمي في العراق مرة، العام 1958، ومرة إنقلاب عبد الكريم قاسم الشيوعى، العام 1961، ومن ثم انقلاب عبد السلام عارف ضده، ثم انقلاب صدام على عارف من خلال حسن البكر.

إن مساندة الإنقلابات العسكرية كانت، ولا شك، بمباركة أمريكية لأنها أقصر الطرق لإشباع شهوة الشعور بالنصر السياسي عند الرئيس عبد الناصر، وتوسيع دائرة أنصاره، والقضاء على دولهم. أما الرئيس صدام فقد أوهموه أنه سيتوج “أميراً” للمنطقة العربية من طهران، فكان طموحه سبب صعوده إلى الهاوية. على الجانب الآخر، وصل الرئيس القذافي إلى حدود غير مألوفة من العظمة الوهمية وارتكب الحماقات، وأخيراً تخلصت واشنطن منه، في ثورة فبراير/شباط العام 2011، رغم أنه كان أليفاً ومسالماً لمصالحها ولإسرائيل، بل أنه إقترح إنشاء دولة “إسراطين” للجمع بين الجميع على أرض فلسطين.

بقيت السعودية التي تشجعها واشنطن وتورطها في سوريا والعراق وضد إيران واليمن، واليوم تستدير عليها فتندد بأنها “وكر” الإرهاب، وأنها ارتكبت الجرائم في اليمن، وأنها متهورة ومتطرفة، وتلك عبارات أمريكية ومعظمها على لسان الرئيس السابق، باراك أوباما، نفسه. وأخيراً، حجمت واشنطن السعودية، التي غذت طموحاتها منذ العام 1967، بطموحاتها قيادة العالم العربي، ولكن ليس ضد إسرائيل وإنما للتقارب من إسرائيل، واستنزفت أموالها ومواردها بأنها اختارت إيران لاعباً رئيسياً في المنطقة، مع إسرائيل وتركيا، ولا تزال روسيا تحاول أن تتزعم هذا التجمع الجديد بعد أن صرفت واشنطن اهتماهها عن المنطقة واتجهت إلى المحيط الهادئ لمواجهة الصين.

هكذا، أزاحت واشنطن مصر لصالح السعودية وإسرائيل، وأزاحت الرئيس صدام حسين لصالح السعودية وإسرائيل، وورطت السعودية في صراع مع إيران لصالح إسرائيل، ثم باتت تتخلص من السعودية في هذه المرحلة وترفع إيران وتركيا حتى تسقط الحواجز بين إيران وإسرائيل ولتطويع الأولى لصالح الأخيرة، حيث اتضح بجلاء أن واشنطن مهدت موازين القوى لكي تصبح إسرائيل هي القوة المهيمنة، هذا من ناحية.

من ناحية أخرى، وجدت واشنطن أن “شيطنة” السعودية والتيار الإسلامي المعادي لإسرائيل وخلق تنظيمي “داعش” و”القاعدة” يشكل “لعبة” مريحة تضرب بها كل الأطراف في سوريا والعراق وتركيا. وبالعودة إلى التاريخ القريب، فلقد سجلت واشنطن جرائم الرئيس صدام ضد الكرد وإيران، بعد أن أمدته بالأسلحة بتمويل خليجي على أنها أعمال بطولية، ثم تقدمت بهذه الجرائم في محاكمة “هزلية” أمام قاضي كردي، بعد احتلال العراق بمعونة إيرانية وشيعية عراقية. وبذلك، ضمنت أن العراق قد خرج من دائرة الفعل العربي، كما اختلقت مع الخليج وإسرائيل المسرح السوري ليكون محرقة لسوريا وإيران وحزب الله وتركيا والخليج وكل ذلك لصالح إسرائيل. أليس فيكم رجل رشيد؟

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: عربي بوست – السعودية 24.