إعداد: مركز سيتا
خلال اجتماع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بمجلس الوزراء، مطلع أكتوبر/تشرين الأول العام 2016 عقب محاولة الإنقلاب الفاشلة، وبالتزامن مع عملية “درع الفرات” شمالي سوريا، والتي كانت العملية الأولى لأنقرة خارج حدودها، ألقى كلمة أمام أعضاء المجلس قال فيها “لا يمكن لتركيا أن تبقى عند هذه النقطة، سيتغير الوضع بطريقة ما، إما نتحرك نحو الأمام بخطوات ثابتة، أو سنبقى رهن الإنكماش والتقلص، وأنا مستعد للتحرك نحو الأمام.”
مذاك العام، بدأت السياسة الخارجية التركية تتغير وسط تبدلات إقليمية ودولية مع دول الجوار والعالم، الأمر الذي أعطاها جرعة تقدم غير مسبوق، في مختلف الميادين، لتحصين جبهتها داخلياً من خلال القوة على الصعيد الخارجي.
من الدفاع إلى الهجوم
إن محاولة الإنقلاب الشهيرة، خلقت أعداء كثر من الجبهة الداخلية للحزب الحاكم؛ ومع إمتصاص الأزمة حينها، وجدت تركيا “الدولة” محاولة الإنقلاب فرصة لتصفية المعارضين والخصوم، وأي أعداء محتملين، حيث توجهت الأوامر لتجفيف منابع الإرهاب من المصدر مباشرة عبر الإطاحة برموز وتصفية أخرى، وسجن البعض الآخر، حتى قيل إن تركيا فرغت من شعبها، مع تضييق الخناق على الكرد كمواطنين وقيادات، لا سيما التابعين لحزب العمال الكردستاني والمدرجين على لائحة الإرهاب، إضافة إلى أنصار الداعية الإسلامي، فتح الله غولن، الموجود في الولايات المتحدة، ما دفع بأنصاره ممن استطاعوا الإفلات من قبضة الأمن إلى مغادرة تركيا، في حين إتخذت بعض القيادات العسكرية من اليونان منفى سياسي لها ريثما ينتهي حكم الرئيس أردوغان.
وقبل يومين فقط من الآن، تم تصفية مسؤول رفيع في منظمة “بي.كا.كا”، المصنفة إرهابية، جاء عبر الحدود التي تمتد حوالي 150 كلم، عبر عملية مشتركة بين جهاز الإستخبارات والقوات المسلحة التركية. هذا الأمر تكرر كثيراً، منذ العام 2016 وحتى تاريخه، ما يعني أن أنقرة اليوم أصبحت دولة قوية إذ إستطاعت الإستفادة من تغيير الحكم إلى تغيير منظومته لصالح الحاكم نفسه وأنصاره.
إستعراض القوة
مع تصاعد التوتر في ليبيا خاصة بعد تدخل أنقرة فيها، أجرت القوات العسكرية التركية مناورات بحرية أسمتها “البحر المفتوح” في المياه الدولية بالبحر المتوسط، بهدف اختبار مدى قدراتها للقيام بعمليات ومهمات عسكرية ضمن المسافات الطويلة. في هذا الشأن، قالت وزارة الدفاع في بيانٍ لها “إن المناورات أجرتها وحدات تابعة لقيادتي القوات الجوية والبحرية، وتمت إدارتها من مراكز عمليات في تركيا، شاركت فيها 17 طائرة تابعة للقوات الجوية و8 فرقاطات وطرادات تابعة لقيادة القوات البحرية.”
وأضافت الوزارة أن المناورات إستغرقت نحو 8 ساعات، وشملت مساراً بطول 2000 كلم، جرى خلالها محاكاة التدرب على تنفيذ عمليات التزود بالوقود الجوي، إضافة إلى تدريب مشترك جوي – بحري، مرجعة الهدف منها إلى مسالة إختبار وتطوير مهام عمليات المسافات الطويلة دون انقطاع.
الجدير بالذكر أن توقيت المناورات وفي البحر المتوسط بالذات له مدلولات عديدة، إضافة إلى أن القوات المسلحة التركية، خلال السنوات القليلة الماضية، قامت بعمل مكثف أكثر من أي وقت مضى في تاريخها، ونشاطها كبير جداً داخل وخارج حدود الدولة؛ فإستعراض القوة في البحر المتوسط، يشي بأنها تستعرض قدراتها العسكرية لخصومها في الملف الليبي وغاز المتوسط والذي لها تاريخ طويل متوتر معهم، أي قبرص واليونان.
هنا، يسأل البعض: هل يعني ذلك أن تركيا خرجت عن سواحلها وباتت أفقها تتوسع أكثر من اللازم؟ يمكن القول بأن المدلول الأهم من هذه المناورات يكمن في تحقيق تركيا للعديد من المكتسبات لا سيما في ليبيا؛ بالتالي، هي تريد الحفاظ عليها بأية وسيلة، وهذا يعيدنا إلى ما ذكره الرئيس أردوغان أمام أعضاء مجلس الوزراء، كما أوردنا أعلاه.
موطئ قدم
قال مصدر تركي إن أنقرة وحكومة الوفاق الليبية تبحثان إمكانية استخدام تركيا لقاعدتين عسكريتين في ليبيا، سعياً لوجود دائم في منطقة جنوب المتوسط، ومن المحتمل أن تكونا قاعدتي مصراتة البحرية وقاعدة الوطية الجوية، التي استعادتها حكومة الوفاق مؤخراً.
هذا الوجود، إن حصل فعلاً، سيعزز الحضور الجوي والبحري تركي المتزايد في المنطقة عبر البوابة الليبية، ويدعم مطالبتها بحقوق التنقيب عن النفط والغاز قبالة تلك السواحل. لكن الأمر يبدو أنه لم يقتصر على التواجد العسكري فقط، بل هناك إمكانية إبرام صفقات مع طرابلس الغرب في مجالي الطاقة والبناء فور انتهاء القتال، بحسب المصادر التركية.
من الواضح جداً بأن أنقرة لم تنتظر حتى إنتهاء القتال، إذ بدأت بتوقيع اتفاق مشترك لترسيم الحدود البحرية وتحديداً بالقرب من جزيرة كريت، على الرغم من معارضة اليونان وقبرص وإسرائيل والإتحاد الأوروبي. إن الإهتمام العسكري التركي بليبيا ينطلق من حاجة إقتصادية بحتة، وهو ما يظهر من خلال تصريحات وزير الطاقة والموارد الطبيعية، فاتح دونماز، حيث أشار إلى أن بلاده بدأت أنشطة التنقيب في ليبيا منذ ثلاثة إلى أربعة أشهر مضت، ضمن الإتفاقية الموقعة بين الجانبين، خاصة وأن ليبيا تمتلك أكبر احتياط نفطي مؤكد في القارة الأفريقية.
في هذا الشأن، قال البروفيسور بكلية علوم الاقتصاد والإدارة في جامعة آيدن في إسطنبول، أحمد سيدات أيبار، أنه “لن تقتصر مساهمات تركيا لهذه المشاريع في البحر الأبيض المتوسط على حماية الحقوق الجيو – سياسية فحسب، مثل حماية الحقوق الإقتصادية لها ولجمهورية شمال قبرص التركية، بل ستشمل أيضاً تلبية جزء كبير من احتياجات تركيا من النفط”، مضيفاً أن أنشطة التنقيب عن النفط ستتم في المنطقة الإقتصادية الخالصة الموقعة بين تركيا وليبيا، حيث ستستحوذ شركة “تابو” على هذا الترخيص.
“المخالب التركية”
إن قدرة أنقرة على الإمساك بعدد من الملفات معاً يضعها على لائحة الدول الإقليمية القوية التي يحسب لها حساب، فالإستقواء التركي اليوم مرتبط بقوة التحالف مع الولايات المتحدة، التي غضت النظر عن كل هذا التمدد لأسباب كثيرة أهمها أنها “المدير التنفيذي” لكل المشاريع الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والمتوسط.
فبعد أيام عن إنتهاء عملية “المخلب النسر” التي بدأتها ضد مواقع تابعة لحزب العمال الكردستاني في العراق، أعلنت وزارة الدفاع التركية قصف أهداف للمسلحين الكرد في منطقة هفتانين شمال العراق، ضمن عملية جوية حملت إسم “المخلب النمر”، حيث أشرف عليها وزير الدفاع، خلوصي أكار، شخصياً في مركز عمليات قيادة القوات الجوية.
في المقابل، دان المتحدث بإسم الخارجية العراقية، أحمد الصحاف، الغارات التركية وإعتبرها انتهاكاً للسيادة العراقية، حيث نددت قيادة العمليات المشتركة في العراق بالعملية، وإستدعت الخارجية السفير التركي لديها، فاتح يلدز، وسلمته مذكرة إحتجاج.
أخيراً، جاء الإعلان التركي عن المناورات بعد 24 ساعة من إعلان غرفة عمليات “بركان الغضب”، التابعة لحكومة الوفاق، عن تنفيذ القوات الجوية والبحرية التركية مناورات فوق البحر المتوسط، كنوعٍ من التباهي التركي خارج حدود الدولة، وبعد 44 شهراً من تصريح الرئيس أردوغان وتغييره واقع السياسية الخارجية لصالحه، وتحديه لقوى عظمى تراها في معظم الملفات. فهل يستمر التمدد التركي خارج أسوار مسقط رأس الدول العثمانية؟ أو هي ليبيا فقط مقابل سوريا؟ أو الإثنين معاً؟
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: سي.أن.أن عربية – ترك برس.
موضوع ذا صلة: إتفاق “أنقرة – طرابلس”: مخطط تركي للهيمنة على البحر المتوسط