في 17 يونيو/حزيران 2020، دخلت حزمة عقوبات جديدة لعزل جميع من يتعاملون مع الحكومة السورية ونظام الرئيس بشار الأسد، ضمن قانون “قيصر”، وذلك بعد نحو عشر سنوات من حرب الإستنزاف على سوريا، التي عانى شعبها الويلات طيلة هذه المدة. هذه العقوبات ترحيباً كبيراً من قبل البعض، بينما يحذر معارضوها من تداعياتها الجسيمة على الإقتصاد المدمر أصلاً وما سينجم عنه من مزيد من الضرر للسوريين، خاصة في ظل انخفاض قيمة العملة المحلية.
إن العقوبات الأميركية الجديدة تتجاوز دائرة العقوبات المفروضة منذ سنوات والتي تستهدف رموز النظام والحكومة، فهي باتت تطال دولاً وكيانات اقتصادية أجنبية بدعوى أنها شريك للحكومة السورية؛ بالتاي، هي تستهدف ضمناً كلاً من الصين وروسيا وإيران.
لقد بات الهدف الواضح من حزمة العقوبات الجديدة هو إعاقة عملية إعادة الإعمار في سوريا تحت مبرر أن الحكومة قد قامت بمصادرة الكثير من الأملاك العقارية لمهجرين، والتي ذهب بعض المعارضين إلى وصفها بأنها سياسة “تطهير عرقي” اعتمدتها الحكومة من أجل تغيير البنية الديموغرافية لمناطق معنية.
إن هذه العقوبات لا تهدف إلى إضعاف قدرات النظام لإرغامه على التسوية المشروطة فقط، فالرئيس دونالد ترامب يعرف أن سياسة “الخنق الإقتصادي”، لو كانت تجدي نفعاً ضمن الوضع السوري، لظهرت نتائجها قبل أعوام. وهنا نذِّكر بخطاب الرئيس ترامب وهو يرد على انتقادات هيلاري كلينتون، المرشح الرئاسي المنافس في العام 2016، عندما قال إن أولوياته ليس تنحية الرئيس الأسد وإنما القضاء على تنظيم “داعش”، إذ مان في فترة قوته، وهو ما يفسر سبب عدم اتخاذ الإدارة الأمريكية حينها لعقوبات كفيلة بخنق الحكومة السورية كتلك الجديدة التي شُرع بتطبيقها.
يبدو جلياً، كما أشرنا، بأن الغاية الثابتة من هذه العقوبات هي إعاقة أية عملية إعمار لسوريا بما لا يضمن عودة سلسة للاجئين السوريين في الخارج بما يفيد ضمان سيطرة أميركية، ولو جزئية، في المنطقة الخاضعة للكرد، بمساعدة قوات سورية الديمقراطية – قسد، من جهة أولى. من جهة ثانية، هذا التحكم في الديموغرافيا السورية ستكون له منافع على الجانب الإسرائيلي في ضمان استضعاف دمشق، على غرار ما حدث مع لبنان، التي هجر ثلثي شعبه مما سهل من التوغل الإسرائيلي خاصة في الجنوب اللبناني والذي انسحبت منه إسرائيل مرغمة العام 2000.
بالعودة إلى تجارب عمليات إعادة الإعمار، يمكن القول بأنها تشكل البداية، إن لم نقل الأرضية الأساسية، لأية مصالحة، يتبعها إجراء انتخابات عامة أو استفتاء شعبي. فالتغيير السياسي والمرور بمرحلة انتقالية يحتاج إلى استعادة الهدوء وعودة المهجرين من مناطق اللجوء.
بالنسبة إلى العملة، شهدت الأيام الماضية هبوطاً حاداً لسعر صرف الليرة السورية حيث وصلت إلى أدنى مستوياتها، فيما يترقب الجميع تأثير باقي العقوبات، ومنها تلك التي تشكل تحريضاً غير مباشر للشارع اللبناني المنتفض ضد حزب الله، الداعم للحكم السوري عسكرياً. بالتالي، إن انخفاض سعر الليرة، بالإضافة إلى العقوبات والقيود الأميركية، من شأنه إحداث هزة ما داخل لبنان بسبب الإرتباط الإقتصادي والحضور القوي للعديد من الشركات اللبنانية في سوريا لا سيما في مجال الإنشاءات والعقار. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه العقوبات تهدف إلى منع أي نهوض جديد لسوريا، لأن الجميع يعرف كيف ستكون قوتها، على المستوى العسكري بالتحديد، بعد التجارب التي اكتسبتها خلال الحرب، بالإضافة إلى الدعم الروسي والإيراني في هذا الجانب، وهو الذي يهدد ما يسمى بـ “أمن إسرائيل”، وهنا نذكر بتجربة قيام حزب الله وجناحه العسكري وتعاظم قوته بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية.
أيضاً، تهدف العقوبات الأميركية إلى توجيه ضربة مباشرة للإقتصاد الإجتماعي المرتبط مباشرة بالمواطن السوري، فضرب سعر صرف العملة الوطنية، بشكل غير مباشر، ينجم عنه تضخم في الأسعار وتدهور لما تبقى من القدرة الشرائية للمواطن في هذا البلد؛ بالتالي، دفعه مجدداً إلى “ثورة” جديدة في ظل موجات الإحتجاجات الشعبية، ذات الطابع الإقتصادي والإجتماعي التي ما زالت تجتاح المنطقة منذ عام في عدد من البلدان العربية كلبنان والعراق والسودان والجزائر وغيرها والتي يحاول الرئيس الأميركي توظيفها لصالحه.
بين المعلن والخفي للتحرك الأميركي في شمال شرق سوريا الذي يتزامن مع مظاهرات الشدادي بريف الحسكة، يبقى التركيز الأساسي هو استيعاب الأهالي لضمان هذه المنطقة تحت السيطرة الأميركية لما تحويه من حقول نفط، أولاً، إضافة إلى موقعها الإستراتيجي بين تركيا وأوروبا وروسيا شمالاً، ثانياً، إذ يأتي ذلك تحت ذريعة مكافحة إرهاب تنظيم “داعش”.
بالنسبة إلى الحديث عن رغبة الرئيس ترامب بإرغام الرئيس السوري على التنحي يبقى خارج أجندته، على الأقل ضمن فترة الإنتخابات الأميركية ما تبقى من ولايته الرئاسية، حيث أنه لن يتردد، إذا ما توفرت الفرصة، للتفاوض بشأن الخارطة السياسة لسوريا سواء مع الحكومة أو مع القوى الكبرى الداعمة لها.أما المثال البرغماتي على ذلك هو ما كشف عنه عدد من المسؤولين الإيرانيين بدعوته طهران للتفاوض، حيث وصلت إلى ثمان دعوات.
من هنا، إن تحول سوريا إلى “دولة فاشلة” لا يخدم مصالح الولايات المتحدة في الوقت الراهن، كما أن التغيير المفاجئ للنظام، بتدخل شبيه ما حدث في العراق العام 2003، قد يقود إلى تكرار التجربة نفسها لا سيما ما عرفته بغداد من تحكم إيراني بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين. في المقابل، إن سياسة الرئيس ترامب تهدف إلى إدامة الصراع، وافتعال انتفاضة سورية داخلية ثانية، وخلق واشنطن لحاضنة كردية شرق البلاد لضمان مصالحها في إطار الهيمنة على جزء من حقول النفط وتعزيز نفوذها العسكري في هذه المنطقة عبر قواعد عسكرية تابعة لها، كما فعلت في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك للتضييق على الحضورين الروسي والتركي.
أيضاً وأيضاً، تهدف العقوبات إلى “تطويع” النظام، وخلق بيئة جديدة تمكن واشنطن من تشكيل أداة ضغط للتدخل سياسياً في شؤون دمشق لفرض تصور إدارتها لأي تسوية للأزمة عبر دفع السوريين إلى الإنتفاض من جديد بتذكية “سياسة التجويع”، التي أقرتها الولايات المتحدة بهذه العقوبات مستغلة أزمة جائحة “كورونا” التي زادت من المتاعب الإقتصادية والمعيشية للمواطن السوري وتسببت في تراجع الإقتصاد الإيراني، الذي يعاني أصلاً من العقوبات الأميركية ما تسبب في انخفاض إجمالي الناتج المحلي بحوالي 15%، الذي كان له انعكاس قوي على الدعم الذي كانت تقدمه طهران لدمشق.
ختاماً، بعيداً عن خطابات الرئيس الأميركي “التمويهية” التي يريد بها تصوير العقوبات الإقتصادية الجديدة على أنها وسيلة لتحقيق رغبة المواطن السوري في إنهاء النزاع، يمكن القول بأن الرئيس ترامب قد إستغل الأوضاع الإنسانية والإقليمية والدولية وتأثيرها الجائحة العالمية، التي كان لها أكثر بليغ على حلفاء دمشق التي يعيش حوالي 80% منهم حالة فقر مدقع، من أجل إرغام النظام السوري على القبول بالتسويات المطروحة.
وهذا أمر لا يمكن لأي إنسان حر في هذا العالم أن يتقبله أو أن ينظر إليه كحل للأزمة أو كآلية للدفع بالجلوس على طاولة المفاوضات، وهو للأسف ما يسير في تأييده جزء كبير من المعارضة السورية، دون النظر إلى التداعيات الخطيرة على المواطنين في الداخل؛ فالعقوبات تستهدف البنية الإقتصادية للدولة ككل ولعلاقاتها الخارجية وليس فقط الحسابات والمشروعات أو المؤسسات الإقتصادية الشخصية. يأتي ذلك والجميع بات يعرف قدرة النظام والحكومة على “المراوغة”، للإفلات من تأثير هذه العقوبات، وعقيدة حزب البعث التي تتبنى مبدأ التعنت ورفض الرضوخ للأمر الواقع. إن هذا الأمر ينذر بأزمة كبيرة في البلاد حيث ستزيد من أعداد اللاجئين نحو تركيا والغرب الأوروبي، ما يتطلب من أنقرة وبروكسل والإتحاد الأوروبي ككل التحرك ضد العقوبات الأميركية وإعاقة تنفيذها.
*صحفي وكاتب عربي – المغرب.
مصدر الصور: مونتي كارلو الدولية – الميادين.
موضوع ذا صلة: الساحة اللبنانية في مرصد الفوضى الأمريكية