فوجئ اللبنانيون، في نوفمبر/تشرين الثاني العام 2018، بالوزير علي حسن خليل، بعد سنوات عجاف والمبالغة بالحديث عن عظمة “الهندسات المالية” في وزارة المالية، يعلن بشكل صادم أن خزينة الدولة خاوية من “أي ليرة”!
لم يطل الأمر وراحت الليرة إلى سقوطها المرير. من أجل فهم العوامل التي ألقت بالليرة اللبنانية إلى الهاوية بعد ثباتها عند سعر 1500 ليرة مقابل الدولار، منذ ما بعد نهاية الحرب الاهلية قبل 30 سنة، ووصولها اليوم إلى اكثر من 7 الاف ليرة مقابل الدولار، لا يمكن تجاهل الأسس التي قام عليها النظام السياسي – الإقتصادي اللبناني.
والكل يعلم أن الأسس الإقتصادية للبنان، ما قبل الحرب الأهلية، أقيمت على كونه مركزاً للتجارة والخدمات إلى جانب الإعتماد على بعض القطاعات الصناعية والزراعية. رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، أعاد صياغة المعادلة بالتركيز على تحويل لبنان الى مركز مالي وخدمات. كان في باله السياح العرب، وفي باله “السلام الإقليمي” المنشود. وكانت “سوليدير” وكانت “عملية أوسلو” و”وادي عربة” والأوتستراد الدولي إلى الجنوب .. والحبل على الجرار.
جرى، من أجل ذلك، تهميش القطاعات الحيوية الأخرى في الصناعة والزراعة تدريجياً، فمن ذا الذي يحتاج زراعة وصناعة بدائية لبنانية وأسواق العالم كلها مفتوحة امام شهواتنا .. ودولاراتنا.. إعتمدت من أجل ذلك أيضاً سياسة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وتقديم البنوك لأسعار فائدة مرتفعة لجذب الأموال والودائع من الخارج. لكن الحقيقة أن الليرة كانت تتلطى خلف عجزنا وضعفها. ومع ذلك، أنتجت تلك السياسات إنتعاشاً إقتصادياً لافتاً في السنوات الأولى ما بعد الحرب، لكن قطاعات إنتجاية أخرى كانت تنهار تباعاً.
وكان لبنان كلما مر بأزمة مالية، تنعقد من أجله مؤتمرات وقمم إنقاذ اقتصادية، برعاية أميركية وسعودية وفرنسية وعربية، على قاعدة أهمية استقرار الحقبة الحريرية وتوازناتها، السعودية – السورية – الإيرانية. وفي كل مرة، كانت القمم والمؤتمرات تعادل إلى المساعدة في سد العجز في موازنات لبنان العتيد.
سياسة الإستدانة السهلة، على مر السنوات، حولت لبنان إلى أحد أكثر بلدان العالم من حيث نسبة الدين إلى حجم الناتج المحلي. وبحسب جمعية المصارف اللبنانية، فان الدين العام الخارجي كان يبلغ 91 مليار دولار، في نهاية العام 2019.
ومنذ أوهام “مؤتمر سيدر” وشروطه الغريبة، بدأت ينكشف الهراء اللبناني في “الهندسات المالية”. لا أموال عادت لتتدفق إلى الداخل، لا من مانحين ولا من مغتربين. ويتلاعب الدولار الآن في محيط السبعة الاف ليرة، وهناك مخاوف من وصوله إلى عتبة الـ 10 الاف ليرة. جرت عملية “شرعنة” للإستيلاء تدريجياً على أموال اللبنانيين ومدخراتهم.
الهراء اللبناني تمثل بداية بمنع المدخرين من سحب الدولار من ودائعهم نهائياً، ثم لاحقاً السماح للفرد بسحب مئة دولار فقط من حسابه أسبوعياً، وصولاً حالياً إلى وضع سقوف محددة للسحب تختلف من بنك إلى آخر.
الأنكى أن ذلك كان يجري تحت شعار الترويج لليرة كعملة وطنية من الواجب دعمها ونحن نستمع الى دعاية تقول “سمعت شي الياباني بياخد منك غير الين ولا الكندي بياخد منك دولار اميركي؟!” وكنا نظن إطمئنانا إلى أن الرب حاميها لليرة، وأنها بايدي أمينة بعظمة “هندسات” حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، والوزير علي حسن خليل (ومن جاء مثله إلى وزارة المالية في عهد الحريري الأب إلى الآن).
الا أن ذلك جرى فيما سمحت بعض البنوك للأثرياء بالقيام بتحويل ملايين الدولارات من حساباتهم في لبنان إلى الخارج.
دعاية الين والدولار الكندي اذاً نكتة سمجة.. أو قذرة؟ فقدت الناس الثقة نهائياً بالليرة التي كانت تسجل تراجعا يومياً في وقت يسمح البنك المركزي، والحكومة، او يعتمدان، تسعيرات مختلفة للدولار، ما بين البنوك وشركات الحوالة وشركات الصيرفة. ارتبكنا أكثر وفقدنا ثقتنا أمام بلاهتنا بأن الرب حاميها.
إذاً، إنكشفت خزينة الدولة عن إفلاس مقنع يصيب غالبية المواطنين العاديين، وتبين أن البنوك إستخدمت مليارات الدولارات، من أموال المودعين اللبنانيين، من أجل دعم العجز في ميزانيات “الهندسات العبقرية” للحكومات المتعاقبة. كان الحاكم رياض سلامة والوزير خليل، ومن لف لفهما، شهوداً زور.
وتبين أن الإيداعات بالعملة الأجنبية متآكلة في البنك المركزي، فيما تراجعت تحويلات المغتربين لأسباب عدة، من بينها تعطل الإقتصاد في الدول التي يعملون فيها أو التضييق على المغتربين.
والآن، نحن أمام “نظريتين” جديدتين أيضاً. الدولار يهرب إلى سوريا من قبل حلفائها، أو أن “جماعة أميركا” يتلاعبون بإقتصاد لبنان وماليته، للتضييق على اللبنانيين وخنقهم وخنق السوريين معهم. ومهما يكن، فإن قانون “قيصر” عزز، في الأيام الماضية، مشاعر القلق بين اللبنانيين على عملتهم الوطنية، ودفعها إلى المزيد من الهبوط، اذ يهدد القانون بقطع آخر خيوط التنفس الجغرافي للبنانيين مع محيطهم.
وطبعاً الآن دفع هذا الإنهيار مئات آلاف المواطنين إلى حضن البطالة، وأغلق آلاف المؤسسات والمتاجر والمحلات، وحلقت أسعار السلع الأساسية للمواطنين من اغذية وادوية، بذريعة عدم توفر الدولار للتجار للشراء من الخارج، فيما عجلة الإنتاج الزراعي والصناعي الداخلي معطلة، كما قلنا منذ أيام رفيق الحريري وسنوات خلفائه.
اللبنانيون أيتام الليرة.. فما العمل وهم بين مطرقة وسندان الفساد المالي المتفشي بالتوازي مع المحاصصة الطائفية التي تمنع المحاسبات وتسمح في الوقت نفسه بتراكم الخروقات والفشل منذ 30 سنة؟ وكأننا مصرون على البلاهة في مجتمع يعتبر نفسه مميزا بـ “التشاطر”، فلا إصلاح أو انقاذ حقيقيين يمنع هذه البلاد التعيسة من سياسة التسول.. والإستدانة عند كل منعطف.
*كاتب لبناني
المصدر: لو جورنال
مصدر الصورة: العربي الجديد – دار الحياة.
موضوع ذا صلة: المر: أزمة الليرة مسألة سياسية لا إقتصادية