كان الهدف الذي تسعى إليه الولايات المتحدة من سيطرتها على أعالي البحار، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، هو دعم المصالح العالمية الأمريكية ذلك أن سيطرة البحرية الأمريكية على المحيطات تضمن لها التفوق العسكري لمواجهة أي تهديد لمصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية كلما دعت الحاجة إلى ذلك. كما أنه، من ناحية أخرى، سيؤمن القوة الأمريكية في العالم من خلال التنسيق مع الدول الصديقة لدعم القيم والمُثل الديمقراطية الأمريكية.
والحقيقة أن تواجد واشنطن في المحيطات لا يخدم فقط المصالح الأمريكية، بل أيضاً المصالح العالمية، حيث تؤمن القوات البحرية الأمريكية المتواجدة في أعالي البحار طرق التجارة البحرية التي يمر بها 70% من حجم التجارة العالمية.
ولكن فقدت البحرية الأمريكية في الوقت الحالي السيطرة على البحار، ولأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية، لصالح الصين في غرب المحيط الهادي. فقد أصبحت بكين اليوم قادرة على السيطرة على بحر الصين الجنوبي، مما يجعلها في موضع قوة يسمح للقوات البحرية الأمريكية بالوصول إلى البحر في وقت السلم، ومنعها من الوصول إليه في وقت الحرب. لذلك يتساءل جو سيستاك عن الأسباب التي أدت إلى فقدان الولايات المتحدة الأمريكية لسيطرتها على البحار، وعن كيفية حدوث ذلك في مقالته المعنونة “خسارة البحرية الأمريكية لقيادة البحار لصالح الصين وكيفية استعادتها”.
فقدان أمريكا للسيطرة
بدأ تراجع النفوذ الأمريكي في البحار، مارس/آذار 1996، عندما صدرت أوامر للبحرية الأمريكية بالإبحار باتجاه تايوان للرد على التدريبات الصينية الصاروخية في المنطقة والتي كانت تهدف إلى الحفاظ على سياسة “الصين الواحدة”. وقد انتهت هذه الأزمة باعتراف بكين بأنها لا تمتلك القدرة على منع القوات الأمريكية من حماية تايوان، أو توفير الحماية لأي مكان آخر في البحار الثلاثة في غرب المحيط الهادي. ومنذ ذلك الحين، سعت الصين لكسر سيطرة الولايات المتحدة على قيادة البحار. لذلك، عملت على تطوير غواصاتها وكذلك تطوير الصواريخ الباليستية التي يمكن أن تستهدف حاملات الطائرات الأمريكية من على بعد مئات بل آلاف الأميال، بل وجعل الإبحار في بحر الصين الجنوبي محفوفاً بالمخاطر بالنسبة للقوات الأمريكية.
كما طورت القوات الصينية من قدراتها التكنولوجية والتي مكنتها من تعطيل شبكات الاتصال للقوات الأمريكية البحرية حتى لا تتمكن من طلب المساعدة في حالة التعرض لهجوم، أو حتى إبلاغ مركز القيادة بمكان التواجد.
وقد أثرت الصين وبقوة على قدرة البحرية الأمريكية على الوصول لبحر الصين الجنوبي من خلال تطويرها للصواريخ الباليستية لاستهداف القوات الجوية وحاملات الطائرات، وهو ما سوف يؤدي إلى عدم قدرة الطائرات الحربية الأمريكية على الاقتراب من هذه المنظومة في حالة اندلاع صراع بين القوتين.
كما أن التحسينات المستمرة للغواصات الصينية النووية تعني وجود صعوبة كبيرة في اكتشافها من خلال استخدام أجهزة الإنذار المبكر. فهذه التهديدات سوف تُبقي معظم القوات الأمريكية على مسافة بعيدة في انتظار وصول عددٍ كافٍ من السفن الحربية والمقاتلات الجوية لتوفير ملاذ دفاعي يسمح لهذه القوات بالتقدم للأمام.
ومن ثم، أصبح الملاذ الوحيد أمام القوات الأمريكية هو شن هجمات بعيدة المدى مع حشد قوات في مناطق متفرقة خارج ما يسمى بسلسلة “الجزر الأولى” والتي تعد تايوان جزءاً منها.
تطوير تكنولوجي صيني
أصبحت الصين تستغل هذا التفوق العسكري في بحر الصين الجنوبي في تطوير قدراتها في مجال الفضاء الإلكتروني. فلقد أضحى للقوات الصينية القدرة على الهجوم الإلكتروني لتعطيل استفادة القوات البحرية الأمريكية من شبكات الاتصال، وكذلك تعطيل الأنظمة الرقمية للقوات الأمريكية. وهذا بالطبع يحد من قدرة القوات الأمريكية على المناورة البحرية، ويجعل القوات الصينية في مركز قوة يمكنها من تحقيق أهدافها بسرعة كبيرة، وهو ما يحد من قدرة القوات الأمريكية على الرد في الوقت المناسب أو حتى البقاء لردع العدوان الصيني. هذا الأمر، يوجب ضرورة تطوير قدرات أجهزة الاستشعار والفضاء السيبراني والحرب تحت سطح البحر بالنسبة للقوات الأمريكية.
فلقد أصبح مفتاح السرعة في الحرب المعاصرة هو تطوير القدرات السيبرانية، الهجومية والدفاعية، لأن العمليات العسكرية التقليدية، الجوية والبرية والبحرية، أضحت تعتمد بشكل كبير على شبكات البيانات السيبرانية من أجل تحقيق السيطرة على الحرب. فالحرب الإلكترونية أصبحت أكثر فعالية في تحقيق الأهداف المتوخاة أكثر من الحرب التقليدية. وهذا الأمر،بطبيعة الحال، يقلل من فعالية القوات الأمريكية في بحر الصين الجنوبي.
رؤية الصين العالمية
تنطلق الصين اليوم من رؤية مغايرة لرؤية الولايات المتحدة للقيم والمُثل التي تحكم النظام العالمي ومؤسساته المختلفة، وهذا بالطبع له من العواقب الوخيمة على سيطرة البحرية الأمريكية على البحار والمحيطات. وقد تفرض الصين قيمها الخاصة إذا تجاوز اقتصادها الاقتصاد الأمريكي، والذي من المتوقع أن يحدث خلال عقد أو أكثر.
كما أن دبلوماسية الديون التي تتبعها الصين، والتي أغرقت الكثير من دول العالم فضلاً عن مبادرة “الحزام والطريق” والاستثمارات الضخمة في البنية التحتية، قد تدعم المصالح العالمية الناشئة للصين. وهناك عدد من الأمثلة على ذلك، فقد منحت جيبوتي الصين ميناء لكي تقيم فيه أول قاعدة بحرية خارجية نتيجة لعدم قدرتها على سداد الديون وكذلك فعلت كمبوديا، كما قامت سريلانكا بتأجير ميناء رئيسي للصين لمدة 99 عاماً. كما يزيد من هذا القلق استراتيجية “سلسلة اللآلئ” التي تتبناها بكين من أجل بناء تحالفات عسكرية عالمية.
في الوقت عينه، تستغل الصين مجال التجارة الإلكترونية العالمية، إذ أضحت تحتكر تصنيع العديد من المنتجات العالية التقنية، مثل تصنيع 75% من الهواتف المحمولة في العالم، و90% من أجهزة الكمبيوتر، بالإضافة إلى تصنيع بعض المواد التكنولوجية الهامة التي يعتمد عليها الجيش الأمريكي. وهو ما يمكّن بكين من قرصنة الكثير من البيانات والمعلومات لكل المواقع والمؤسسات التي تعتمد على التكنولوجيا الصينية.
كما أن التعاقد مع الشركات الصينية لتطوير شبكة الجيل الخامس، سوف يُحدث، ليس فقط، ثورة في اقتصاديات العالم؛ بل سيحدث ثورة أيضاً في الحرب، لأنه سيسمح بإرسال كميات هائلة من البيانات وإنجاز أشياء لا يمكن القيام بها بالتكنولوجيا المتوفرة حالياً. ومثال ذلك، ستسمح هذه التكنولوجيا بتوجيه الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت بسرعات تتجاوز “ماخ 5″، أي خمسة أضعاف سرعة الصوت، وذلك بتغيير الاتجاه في أجزاء من الثانية لتجنب الصواريخ الاعتراضية.
كما ستزيد هذه التكنولوجيا من قدرة الطائرات بدون طيار على تحديد أهدافها بسهولة، وهو الأمر الذي سيجعل للصين قدرات بوليسية كبيرة لمراقبة كل شيء يمر عبر هذه الشبكة، سواء للأغراض التجارية أو الاستخباراتية أو العسكرية. كما ستمكنها من مراقبة اجتماعات العمل الافتراضية، وإغلاق البنية التحتية الحيوية أو الاتصالات العسكرية أثناء التوترات أو النزاعات الدولية.
وقد طورت الصين في الآونة الأخيرة ربع كابلات الألياف الضوئية التي تمر في البحار وتربط قارات العالم، وهي الكابلات التي تحمل أكثر من 95% من حركة الاتصالات الدولية، مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر. هذا الاستخدام القوي للتكنولوجيا، والذي انتهجته بكين في السنوات الأخيرة، جعلها تمثل التحدي الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة.
سيطرة سيبرانية
لم يعد أمام الولايات المتحدة مع كل هذا التقدم المحرز من جانب الصين سوى تطوير قواتها البحرية، ومعالجة أوجه القصور في القدرات السيبرانية، وتكنولوجيا الاستشعار، والحرب تحت سطح البحر، مع الحفاظ على زيادة عدد القوات الهجومية. فلقد أدى الجمود المؤسسي الأمريكي، وعدم التركيز على جهود الصين المبذولة لتطوير قدراتها المختلفة، إلى تراجع النفوذ الأمريكي والصعود الصيني الكبير. فقد أضحت بكين تشكل تهديداً متزايداً للنفوذ الأمريكي، كما صرح بذلك الأدميرال فيرون كلارك.
وقد يُعزَى عدم التركيز الأمريكي على ما تفعله الصين إلى انشغال واشنطن في المقام الأول بالحرب على الإرهاب، منذ العام 2001، عندما حركت قواتها لشن الحرب على أفغانستان. إلى جانب التحديات التي وضعها الكونغرس الأمريكي أمام خطة صناعة وبناء السفن الحربية، والمطالبات الدائمة بتخفيض عدد الغواصات الهجومية النووية الأمريكية من 53 إلى 37. وكذلك نقص التمويل اللازم لتطوير القدرات التكنولوجية وقدرات الاستشعار للقوات البحرية الأمريكية.
ولقد أضحى الحل، إذن، الذي قدمه الأدميرال كلارك لاستمرار سيطرة الولايات المتحدة على قيادة البحار، هو زيادة سرعة استجابة القوات الأمريكية من خلال نشر المزيد من القوات الهجومية، والاعتماد على القدرات التكنولوجية وتقنيات الاستشعار المتطورة. فالدولة القادرة على التحكم في الفضاء الإلكتروني ستكون قادرة على قيادة البحر والجو، بل والسيطرة عليهما. هذا بالإضافة إلى ضرورة توظيف أفراد يتمتعون بخبرات عالية في مجال الحرب الإلكترونية، الدفاعية والهجومية.
استعادة واشنطن للقيادة
الطريق، إذن، أمام استعادة السيطرة على البحار لا يكمن في زيادة عدد السفن الحربية، وإن كان ذلك مهماً، بل في تطوير القدرات السيبرانية والمحافظة على البيانات. فالقوات الأمريكية البحرية تحتاج إلى ثقل هذه القدرات لمجموعة متنوعة من الأسباب، منها مجاراة الصين في القدرات التي أصبحت تمتلكها، فبكين أضحت تكتسب عامل السرعة في تحقيق أهدافها، وحاجة الولايات المتحدة لهذه الإمكانيات لتطوير قدراتها لاعتراض الصواريخ الباليستية الصينية.
فالمزايا التي تمتلكها الولايات المتحدة في مجال الحرب السيبرانية، الدفاعية والهجومية، يمكن القول أنها تتضاءل مقارنة بما تمتلكه الصين. ولهذا، تتضاءل فرصة تأمين البيانات الضخمة للبحرية ونقلها بشكل وقائي، وهو ما يوجب ضرورة أن تعمل البحرية الأمريكية على تغيير تفكيرها بشكل أساسي لأنه، كما ذكرنا، لا يتعين أن يكون التركيز على هيكل القوة البحرية، بل يتعين أن يكون على النطاق الكامل للقدرات، لا سيما في مجال الفضاء الإلكتروني. فالولايات المتحدة لا يمكن أن تنتصر في حرب إلا إذا كانت أفضل في الحرب الإلكترونية من الصين، هجومياً ودفاعياً.
لذلك، فهي في حاجة إلى فك شفرة الشبكات وقواعد البيانات الصينية، وقرصنة البيانات لمعرفة نقاط الضعف في أنظمة الخصم، واستخدام الذكاء الإصطناعي من أجل تحقيق السرعة اللازمة في عملية الاختراق الناجح لقواعد البيانات، كما تحتاج إلى الموهبة البشرية في العلوم والرياضيات والهندسة والحرب السيبرانية للقيام بهذه الأشياء. فالاستعداد الإلكتروني، يجب أن يصبح مثل التدريب التقليدي والاستعداد المالي.
المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة – عرض: د. إبراهيم سيف منشاوي.
مصدر الصور: الدفاع العربي – الوفد – بي.بي.سي.
موضوع ذا صلة: بحر الصين الجنوبي.. حلبة صراع لن تنتهي