د. رائد المصري*
بهدوء.. ولكَثرة ما حبرت به الأقلام في تحليل الوضع اللبناني والمأساة الحاصلة بحق شعبه وتفصيل الأزمات المالية والإقتصادية وإرتكابات السياسيين لجرائم لم تحصل في التاريخ الإنساني فيها، فقد نسي هذا الشعب مأساته الكبرى وقضيته المجتمعية والجرائم المرتكبة بحق أبنائه في كل يوم وعلى مرأى وسائل الإعلام وفي الشوارع والمحطات.
نسي هذا الشعب أنه يتعرض لإستبدادين؛ الأول، هو الإستبداد المحمول بأثقال قومية تحررية تضغط يومياً على حياة المواطن من قبل وكلائها المجددين لأنفسهم تلقائياً أقلَه منذ سبعين عاماً، منهم من هم في السلطة التي أفسدوها، ومنهم من إتخذ صومعة له للتنظير على الناس وتوزيع “صكوك الغفران” وسجلات العدل الوطنية…
أما الثاني، فهو الإستبداد الديني الطائفي المحمول أيضاً بحوامل قضايا التحرير الوطنية والقومية لكنه أخطر من الأول بأشواط، سيما وأن مادة التهم والتخوين هي التي ترجح وبقوة وتؤدي وتقود إلى التصفيات الجسدية على الطريقة “الداعشية” منعا للمس بالذات التحريرية وبالحامل المقدَّس لها والذي صار له صفة الكمال المنزهة عن أي نقد أو مساءلة.
قادنا قرار القاضي، محمد مازح، مؤخراً ولأجل إبطال مفعول تصريحات السفيرة الأميركية في لبنان، دوروثي شيا، إلى نوع من السجالات خصوصاً أن المزايدين باتوا كثراً هذه الأيام، عن جهل وسوء فهم بقوانين العمل الديبلوماسي نتيجة الحامل المقدَّس الذي يمتلكه هؤلاء كحق حصري لهم.
فربما هذا النوع من المواجهة مع أميركا مهم ومطلوب، يغذي ويطور منطق ومفهوم السيادة الوطنية للإنطلاق من مكان ما ضد هذه الإندفاعة الأميركية وحصارها للوقوف بوجهها، لكن تحول دونه الكثير من المعضلات القانونية والسياسية، خصوصاً أن هؤلاء المزايدين والمغالين والمطالبين بضرورة تكبيل السفيرة الأميركية هم المسؤولون عن إنتاج وتعليب حكومة رفضت قرار القاضي مازح وإعتذرت للسفيرة عن سوء الأداء الحاصل ضدها، ولم تفعِّل واجبها أصلاً عبر وزارة الخارجية للقيام بما يلزم لوضع حد لكلام السفيرة الأميركية الفتنوي إذا أراد البعض وضعه في هذه الخانة. هنا ينتهي أي كلام لا فائدة له بعد ذلك.
بالعودة إلى الحوامل الدينية الإستبدادية وصكوك الغفران التي ما زال بعض كهنتها من حركات التحرر القومية والدينية يرمي بها لإتهام الناس وتحليل دمائهم من أجل خدمة المقدس وكأن المطلوب من الناس البائسة:
– أن تجوع لكن عليها أن لا تقطع الطرقات، فتلك مؤامرة خارجية.
– أن تُنهب أموالها لكن عليها أن لا تطالب بإقالة حاكم مصرف لبنان بسبب غطائه الكنسي الممنوح له تاريخياً وبسبب إرتكاباته فضائح مع سياسيين بحق أبناء الشعب لا يمكن محاسبتهم أو التطرق لمساءلتهم فذلك مس بالمقاوم المقدس.
– المطلوب أن يبقى الشعب في العتمة وإنعدام الكهرباء لأن المعامل في سلعاتا وغيرها تخضع لمراسيم وفرمانات الطائفة والمذهب المقدَّس التي تم توزيعها بين كل أحزاب السلطة.
– المطلوب أن تصطف الجماهير أمام الأفران وعلى محطات الوقود لأن موادها تهرب إلى الخارج وهي مدعومة من خزينة الدولة وممنوع المطالبة بضبط الحدود لأن في ذلك مس بالذات المقدسة وإستهداف للكهنة ولقضية التحرير القومية والدينية.
المطلوب منك كمواطن أو شعب تعيس أن تبقى خاضعاً وزاحفاً وجاثماً على ركبتيك، فتلك معادلة التوازن القائمة لأجل تحرير المقدس، وكي لا تصدر بحقك فرمانات وصكوك غفرانية من رجال الدين وساسة الحكم تكفرك كما كفرت ثورة الشعب، في 17 تشرين الأول/تشرين، عندما إنحازت وإنزاحت عما هو مرسوم لها كمقدس في التحرير.. فذلك مرسوم ومقدر لك من عند الله وما على الناس إلاَ الصبر الدائم أو القتل كما يحصل.
إذاً، فالشعب عند هذه السلطة الحاكمة هو مجرد أرقام في دفاتر ديونها. قوى وأحزاب السلطة الحاكمة في لبنان لا زالت تحكمهم التفاهات وقلة المسؤولية الوطنية في عقد اللقاءات والحوارات لمجاميع هذا النظام، الذي فقد الكثير من شرعيته الشعبية، لمضيعة وتمرير الوقت بإنتظار نتائج الإنتخابات الأميركية، بعد عدة أشهر، والدولار الذي بات على أعتاب الـ 8 آلاف ليرة. فالمحروقات مفقودة، والكهرباء مقطوعة، والناس جائعة أكثر وتصطف في الطوابير وتمشي في الشوارع هائمة.. فيما “أزام” السلطة تواجه المتظاهرين بالتهويل بالحرب الأهلية والمذهبية، ويريدون إقناع الشعب أن “إتفاق الدوحة”، وما نتج عنه من تفاهمات رئاسية، وإختفاء الـ 11 مليار دولار وقروض الإسكان لرؤساء حكومات وصفقات النفط المغشوش وهدر الصناديق، كمجلس الجنوب، وغيرهم قادرون على وأد السُعار المذهبي والطائفي.
إنها مأساة لبنان في مافياته ولصوصه وأحزابه وميليشياته الحاكمة فصبراً يا شعب لبنان إن الخلاص آتٍ لا محالة…
وحتى لا نكثر في الكلام ونقول إنكم مخطئون في عناوين تحريركم وحكمكم المؤبد بالسوط الديني، فلن تنجح تجربتكم في تصفية المناضلين جسدياً، كما في العراق، والقتل بإسم المقدَّس الديني التحريري، ولن تنفع معكم محاولات التخوين وتركيب الملفات الأمنية بحق الناشطين لا لشيء إلا لأن في الأمن رجال دولة حقيقيين عاهدوا الله والوطن أن لا يكون ولاؤهم إلا للدولة ومنطقها.
لن تنجح معكم تصفية الناشطين الثوريين إلا بطريق واحد وهو طريق “الميليشيا”، الذي جربتموه كأحزاب سلطة في أكثر من موقع ومعركة وحي وزاروب وزنكة؛ تارة بإسم التخريب الأمني، وطوراً بإسم الحرب الأهلية وبإسم الفتنة النائمة التي أيقظتموها أنتم. فماذا أنتم فاعلون بعد؟ وما هي سيناريواتكم المقبلة لتجديد أسلوب الإستبداد الديني القمعي الذي إنكشف وصار مزحة لبنانية سمجة وباهتة؟!
لقد فشلتم وأخذتم لبنان إلى غير وجهة. حمى الله لبنان من شركم وأسكن الله شعبه في جنات الخلد.
*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
مصدر الصورة: موقع مبادرة الإصلاح العربي – أرشيف سيتا.
موضوع ذا صلة: ميزان الوطنية ومعيارها في لبنان